بلغ ابراهيم اصلان في الثالث من آذار مارس الماضي عامه الستين، وهو العام الذي شهد صدور روايته الجديدة "عصافير النيل"*. وفي حياة ادبية ترقى الى ثلاثة عقود ونصف العقد لم ينشر اصلان سوى خمسة كتب تراوح احجامها بين خمس وستين صفحة ومئتيّ صفحة. وهذا ما سوّغ اعتبار الاقلال صفة ملازمة له، والصفة الاكثر شيوعاً من اي صفة اخرى. ويظهر اصلان لمن قرأ اعماله وألمّ بطرف من سيرته واخباره وانتظر بفارغ الصبر صدور جديده، الكاتب الذي اتخذ لنفسه منذ البداية ركناً قصياً في العالم الادبيّ. ولا نظن ان الواقع مخالف لذلك. صحيح ان الرجل ليس غائباً تماماً عن الوسط الادبي، اذ حظي بإهتمام نقديّ متواصل وفاق ما كُتب عنه ضعف، او حتى ضعفيّ، ما كتبه هو نفسه، هذا بالاضافة الى ما يُجرى معه من حوارات او مشاركته بين الحين والآخر في انشطة ادبية، بما يدل على ان الرجل غير منقطع عن الوسط الادبيّ او مُعرض عنه. بيد ان هذا الحضور ليس مما يطلبه الكاتب ويسعى اليه وخلافاً لما هو عليه الامر بالنسبة الى الكثير من الكتّاب العرب لا سيما اولئك الذين يبذلون الجهد الاعظم في سبيل تكريس اسمائهم لكي تبدو مواهبهم الفعليّة كأنها تقع في مجال العلاقات العامة وليس الكتابة. ولئن عزف اصلان عن ان يكون في قلب الوسط الادبيّ، فلأنه على ما يستشف من كتاباته واخباره واحد من اولئك الكتّاب القلائل الذين لا يرون الى الكتابة الاّ غاية بحد ذاتها، ومن ثم فإنهم لا يتجاوزون فعل الاستغراق فيها الاّ لماماً. فالعلاقة بالمخاطَب، القارئ او المتلقي، بما هي السبيل الى تكريس صفة الكاتب، هذا ناهيك عن صفة الكاتب "الكبير" او "العالمي"، لهي علاقة شبه معدومة. ففي حين تكون الكتابة نشاطاً خاصاً، فإن صفة الكاتب انما هي مرهونة بما هو عام، وتحديداً ب"بيروقراطية الادب"، على حد تعبير الناقد البريطاني رايموند وليامز، حيث يتعين على الاديب ان يتصرف بما يُيسر للآخرين تكوين صورة له وتعريفه. وعلى هذا يحتل هاجس الانتاج في صيغتي النشر والتداول موقعاً هامشياً في حياة هذا الكاتب بما يجعله مُقلاً في النشر. ولعل شخصية يوسف النجار، في رواية "مالك الحزين"، صورة نموذجية للكاتب من هذا النوع. فهو لا يظهر على مسرح احداث الرواية الاّ مستغرق الذهن استغراقاً يشغله عما هو مُجد فيه او مُقدم عليه. ويتبيّن لاحقاً في لحظة انفجار وجدانيّ بأنه مستغرق في كتابة رواية ما انفكت مادتها تثير حيرته وتردده. وعلى رغم انشغاله التام بالكتابة الاّ انه لم يحظ في الوسط الذي ينتمي اليه بصفة الكاتب. ولا شك ان عدم حيازته على صفة كهذه انما يعود الى حقيقة انعدام مثل هذه الصفة اصلاً في مجتمع يتكون رجاله من "افندية" و"اسطوات" و"معلمين". فليست الكتابة مهنة تدر دخلاً بحيث يمكن ان تُكسب ممتهنها صفة، بل من غير الجائز امتهانها او ادعاء إمتهانها. الى ذلك فان الكتابة تفترض وجود قراء. وليس ثمة قراء بين ابناء الحارة التي ينتمي اليها يوسف النجار وتربطه بهم اواصر وثيقة. اما القارئ الوحيد فهو شخصية يُشار اليها في سياق الرواية اشارة عابرة من دون ان تظهر على المسرح. بل ان من الراجح ان يُعتبر من يقرأ كتباً بين هؤلاء "غاوياً"، على حد تعبير فاطمة، احدى شخصيات الرواية المذكورة. بيد ان يوسف النجار نفسه لا يبدو طامحاً الى ان يُعرف ككاتب على ما يتبين من توافقه مع وسطه الاجتماعيّ ذلك ان من مُتربات السعي الى تكريس المرء لنفسه كاتباً او فناناً في محيط لا يعترف بمهنة كهذه، او في احسن الاحوال يعتبر الامر مصدراً للسخرية والتندر، الانقلاب على هذا المحيط واتهامه بالجهل والضحالة. وابراهيم اصلان شأنه شأن يوسف النجار لم يكن طامحاً بالظفر بهذه الصفة وما يترتب على ذلك من الانتقال من الشريحة الاجتماعية التي ينتمى اليها الى شريحة اخرى. وأقام جلّ حياته في الناحية التي شبّ فيها امبابة فضلاً عن مواظبته على عمله كموظف في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية. ومن ثم فإن في ذلك ما يُجيز النظر الى عزوف كهذا مثابة تكريس لحضور المؤلف. فإستبعاد ضرب من الكتابة والاقبال على آخر لا يقل عن الحضور من الذهاب مذهب اقحام تقنية غير مسبوقة. وهذا اعتراض في محله، غير انه من الضروري ان نتنبه الى ان الإعراض عن توسل السرد التقليدي من قبيل الاستغناء عن دور المؤلف كراوٍ كليّ المعرفة يحيط بأسرار شخوص قصصه ويعلم بما يحدث ويحلّ بهم من عظيم الامور وصغيرها، اكان ذلك في محيطهم ام في طوايا نفوسهم. هذا، على اي حال، لا يعني أن اصلان توانى عن استخدام تقنية سردية حديثة حيثما اقتضى غرض القصة. ففي "مالك الحزين" كان لا بد من اللجوء الى مستويين من السرد متقاطعين، طالما ان الغاية كتابة قصة تدور في ليلة واحدة وترصد حركة عدد كبير من الشخصيات في مكان محدد. وهذا ما كان ليتحقق لولا الجنوح الى الاستطراد من سبيل مستوى سرديّ مباين للاول في شكله ومضمونه. فوحده الاستطراد هو ما يمكن ان يُظهر طبائع الشخصيات والعلاقات التي تصل بينهم. وعلى هذا جاء المستوى الاول على وجه تعقب حركات الشخوص في تلك الليلة المشهودة يينما جاء الثاني على شكل حكايات منفصلة تعترض سبيل الاول. "أُكتب عن الاشياء التي تعرفها"، يخاطب يوسف النجار نفسه، "اكتب عن عمران وعبدالله او المقهى او ابيك الذي مات وان موت الفقراء ليس موتاً لكنه اغتيال، ومن الافضل ان لا تكتب اي شيء من هذه الاشياء او يا ليتك تكتب عن النهر ومنازل الشاطىء الحجرية وتقول ان لكل منزل ابناءه الذين ينزلون فيه، الاولاد يصطادون ويسبحون والبنات يغسلن الحصر واواني البيوت وانت تخرج من حارة الافندي وتذهب الى منزل "حوّا". ويبدو اصلان كأنه يكتب اتفاقاً مع فحوى هذا التصريح. وعلى ما يُستشف من قصصه فإن المؤلف لا يعرف سوى القليل، وان معرفته لا تزيد كثيراً عن معرفة القارىء الاّ بمقدار ما تزيد معرفة المرء لوسطه ولما يقع في متناوله عن معرفة الغريب. ولهذا يبدو اصلان كمن ادرك منذ البداية انعدام جدوى الاسترسال والافصاح طالما ان ما يمكن ان يُسرّ به الكاتب نادراً ما يُخفى على القارىء او ما تعجز مخيلته عن تصوره او قدرته على التفسير وتقدير اسراره وخفاياه. فالغرباء الذين يظهرون في الكثير من قصص كتابه الاول "بحيرة المساء" يظلون غرباء على قارىء القصص وشخصياتها حتى بعد انتهائها. لان الكاتب لا يريد ان يزعم معرفته بهم تزيد عن معرفة القارىء نفسه. ومن الطبيعيّ للكاتب الذي لا يدّعي معرفة كُلية ان يُقرّ بوجود من لا يحيط بأخبارهم ومن لا يسعه الكشف عن خبيئة نفوسهم. وكثيراً ما تُلمح قصصه الى الآم ومتاعب يعاني منها شخوص القصص على وجه لا يمكن ان يغيب عن انتباه القارىء بيد ان الراوي نادراً ما يتوغل الى مكامن المعاناة او يكشف عن مصدرها. على ان هذا لا يؤدي الى ان تكون القصة مبتورة او ناقصة او ان تظهر كلغز يحتاج الى حلّ او تفسير ما. فهي اذ تُضمر اكثر ما تُظهر لا تخفق في استيفاء مقومات القصة وشروط اكتمالها. ومن النافل الاشارة الى انه على رغم الاقتصاد في اللغة لم يحدث ان جاء سرد اصلان مبتسراً او قاصراً عن الايصال. ولنأخذ على سبيل قصة "بندول من نحاس" من كتاب "يوسف والرداء". فعلى رغم اقتصار السرد على الحدّ الادنى من الافصاح الاّ انه لا يخفق في جلاء معالمها وإبانة معانيها العميقة. ولا يمكن لمن قرأ هذه القصة بإمعان الاّ ان بلغ قلب قصة تدور حول العنف والألم والاحساس بالغربة وانعدام الامن، وهي قصة اعقد واشمل من ان يحيط بها نص واحد او ان يشمل طبقاتها المتعددة بين حدوده. وبكلمات اخرى فإن هذه القصة القصيرة لا تزيد عن 500 كلمة تبدو اشبه بمدخل الى رؤية واسعة للوجود لا يمكن اختزالها بنصّ صغير او كبير. يمكننا ان ندرك سرّ اكتفاء اصلان بالحدّ الادنى من السرد. حيث لا يمكن للسرد تقديم القصة كاملة، فإن الاسترسال فيه لن يكون مجدياً، بل ومن الارجح ان يطغى على قلب القصة ويبدد معانيها. ويصل ضيق اصلان بالاسترسال السرديّ الى حد انه لا يتوانى في بعض الاحيان عن نشره على وجه الصفحة جملاً منفصلة. ولأن السرد لا ينحو منحى التصوير الفوتوغرافيّ فإنه يستوفي غرضه من خلال فصول ومقاطع ولوحات قصصية قائمة او شبه قائمة بذاتها، وبما يسوّغ قراءتها على نحو منفصل. وهذا ان دلّ على شيء فإنما يدل على ان البناء الروائي عند أصلان لا يستقيم وفق حبكة قصصية او على اساس السعي الى اقامة عالم بديل او شبيه للعالم "الواقعيّ". اما الرابط الذي يربط بين تلك الفصول او اللوحات القصصية فهي العلاقة التي تربط شخصيات الرواية ببعضهم بعضاً. وهذه اما انها علاقات جوار، كما في "مالك الحزين"، اوعلاقات مهنة، كما في "وردية ليل"، او علاقات الاهل او القرابة، كما في "عصافير النيل". رصد حركة عدد من الشخصيات في زمان ومكان محدد كما هو الامر عليه في رواية "مالك الحزين"، لا يكفي لانشاء بناء روائيّ في ظل غياب الحبكة المحكمة التي تربط سبل ومصائر هذه الشخصيات خصوصاً اذا تنبهنا الى وفرة عددهم وتباين اعمارهم ومهنهم. لهذا فإن ما يجعل "مالك الحزين" عملاً روائياً هي علاقة الجوار التي تربط بينهم باعتبارهم ابناء حارة واحدة. بل وفي كونها ذلك النمط من العلاقة التي تسود الاحياء الشعبية ذات الطابع الريفي والمديني المختلط. وسيادة هذه العلاقة هي التي تفضي الى نشوء حبكات قصصية تتوزع على مدار الرواية. ويتحدر جلّ شخوص رواية "عصافير النيل" من امرأة عجوز شارفت على المئة، تبدأ الرواية بظهورها وتختم بها وهي تحاول عبثاً العودة الى مسقط رأسها في الريف. ومن لا يتحدر منها مباشرة يكون مرتبطاً بها من طريق الزواج من ابنها او ابنتها. ولئن توسط البناء الروائيّ لهذه الرواية المسافة الفاصلة بين "مالك الحزين" و"وردية ليل"، فلا تزعم التماسك الذي تزعمه الاولى ولا هي من التقطع الشكليّ الذي يحكم فصول الثانية، فإنها تستوي على منواليهما من حيث استقامتها على اساس العلاقة التي تصل بين الشخوص، اي علاقة القرابة، والى ردهما الى نسب او اصل واحد. فلا يأتي عبدالرحيم الى القاهرة ويتسلم عملاً في ادارة البريد، الاّ على جريرة شقيقته نرجس التي تقيم في المدينة وزوج شقيقته الذي يعمل في الادارة نفسها. اي ان الانتقال من القرية الى المدينة لا يتمّ الاّ على اساس العلاقة التي تربط بين هذه الشخصيات. واذا انتظم السياق السرديّ فيها على وتيرة التأرجح بين الحاضر والماضي، القريب منه والبعيد، فإن ذلك لا يجعل من "عصافير النيل" عملاً يزعم تصوير حقبة تاريخية شاملة، او يزعم التماسك المفترض للحقبة التاريخية التي يحيلنا السرد اليها. فحضور التاريخ في هذه الرواية لا يزيد على حضوره في ايٍ من قصص اصلان السابقة. فهو حضور من خلال استدعاء غير متكلف لصور وملامح من الماضي. ولا شك ان هذه الصور او الملامح اشدّ انتظاماً مما هي عليه في القصص الاخرى، ذلك ان فصول هذه الرواية تنتظم وفق سياق تاريخيّ محدد ومعلوم. فيحرص الراوي على تزويدنا بالعلامات التي تدل على الحقبة المعنيّة. بيد ان الانتقال من الحاضر الى الماضي لا يُصار اليه من خلال تتبع خط سرديّ مفترض على نحو مسبق، وانما هو اقرب الى استدعاء لحظات ماضية من احد شخوص الرواية. بلغ ابراهيم اصلان الستين اذاً. وفي حياة ادبية غير قصيرة افلح الكاتب في ان ينأى بنفسه وبكتابته عن ضوضاء الاطروحات والدعاوى الادبية الرائجة منذ اربعة عقود او اكثر. ومن ثم فإنه لم يظهر بمظهر الساعي الى ايصال "رسالة" الى "جماهير" قراء، او الى تأصيل السرد العربيّ في وقت كثرت فيه الشكوك حول "هوية" الرواية العربية، او الى "تفجير" بنى التعبير السائدة بما يسهم في ولادة ادب "طليعي" او "حداثيّ" ينتمي الى المستقبل الزاهر. وهذا ايضاً ما نأى به عن محاولة اغواء النقّاد، اي الحرص على كتابة ما يستهوي مناهجهم ويسوغ استخدامها على ما هو شائع عند الكثير من الروائيين والشعراء العرب. بيد ان ذلك لم يحرمه، او ينقذه، من الاهتمام الادبيّ، ومن محاولة تجنيده في احد المشاريع الصاخبة. ولا بد ان في قصص أصلان ما يلائم مناهج النقّاد الحديثين وما يفي اغراضهم، غير ان مكمن الغواية الفعلي لهذا الاهتمام هو الموقف الذي اتخذه أصلان من الكتابة ومن الوسط الادبيّ تحديداً. فما يند عنه موقفه هذا من زهد بالاعتراف والاهتمام والشهرة والاحجام عن توظيف ما ناله منها في سبيل تكريس نفسه كاتباً "كبيراً" او "عالمياً"، لهو، من وجه اول، مصدر احترام عميق، بل وحسد كتّاب ونقّاد، جلهم من ذوي الاصول الفلاحية واخلاقيتها الطهورية. وهي اخلاقية اذا ما افلحوا في الانعتاق منها فعلى مضض منهم وبإحساس بالذنب عميق. اي ان الاهتمام بأصلان من قبيل تقدير كاتب اختار الهامش. ومن وجه آخر فهو تسليم مُضمر بما ينطوي عليه موقف اصلان من حكمة عميقة مستمدة من حقيقة انه ليس هناك "جماهير" قراء تتلقف نتاج الكاتب بنهم. فالقراءة عندنا، ما انفكت نشاطاً يقتصر على "الهواة"، وهؤلاء عددهم قليل حتى بين الكتّاب والمثقفين انفسهم. الى ذلك فإنه في مجتمعات يتعلق مصير ووجود كل مؤسسة بها بما، ومن، هو اعلى مرتبة منها بحيث لا يبقى حيز او مدار عام، فإن ما يصدر عن اولئك الذين يشغلون المراتب الادنى، وهذا هو الموقع الذي يحتله الكاتب في المجتمعات العربية، يكون فائضاً عن الحاجة او عديم الجدوى وفي احسن الاحوال ضئيل الوزن وهامشيّ الاثر. ومثل هذه الحقيقة يدركها جلّ الكتاب العرب الذين لا تزيد مبيعات كتبهم على مئات قليلة من النسخ، او الذين يعملون في مؤسسات يمكن ان تزول بجرة قلم. يدركونها في دخيلة نفوسهم وان توهّموا أن مصير البشرية يتوقف على ما يكتبون. * صدرت حديثاً عن دار الاداب ببيروت. اما كتبه الاخرى المشار اليها هنا فهي "بحيرة المساء" و"مالك الحزين"، في طبعتيهما الاحدث دار الاداب، بيروت، 1992 و"يوسف والرداء"، مختارات فصول، القاهرة، 1987، و"وردية ليل"، دار شرقيات، القاهرة 1991.