} عندما أكتب عن مرحلة مهمة من تاريخنا العربي في مناسبة وفاة ملك الاردن الحسين بن طلال، الذي عرفته عن كثب قبل 43 سنة من خلال عملي، وأجريت معه اول لقاء صحافي يتم مع الملك الشاب بعد توليه عرش بلاده، فإن الامر يسلتزم الحديث عن تاريخ سورية العربي في هذه المرحلة المهمة. هيأ لي عملي الصحافي الوقوف على مجرى الاحداث في الخمسينات وبعدها وكانت وبالاً على سورية. وفي الحقيقة لم تشهد سورية استقراراً سياسياً الا مع نهاية عام 1970 حين قامت الحركة التصحيحية ووضعت حداً للانقلابات العسكرية التي أضرّت بالوطن، وبذلك عادت سورية تمارس دورها القيادي بين المجموعة العربية. عندما تسلم الملك حسين عرش الأردن في اليوم الثاني من شهر ايار مايو 1953 كانت أنظار الدول العربية، وخصوصاً الجارة سورية، باعتبارها الأم الأولى لشرقي الأردن، بعد ان انسلخ منها هذا الجزء بموجب اتفاقية سايكس - بيكو عام 1915، وكانت تلك الدول العربية قاطبة متجهة الى منطقة شرق الأردن بآمال قومية واقليمية، لأن الأردن انما يمثل خط النار الأول في الجبهات العربية أمام اسرائيل وحدوده هي أطول الحدود العربية مع الدولة المغتصبة، اذ تبلغ 650 كيلومتراً وهي مهددة بخطر الغزو في أية لحظة. كانت إمارة شرق الأردن وليدة ظروف صعبة، لم يكن للملك حسين حيلة بها، فألقت على عاتقه عبئاً ثقيلاً ما انفك يحاول التحرر منه بسعيه الحثيث نحو أفق أوسع. فالملك ورث العرش من والده الملك طلال ومن قبله الملك عبدالله بن الحسين في وقت تشابكت فيه الأزمات في الأردن نفسه وفي الأقطار العربية المجاورة. ويتلاعب القدر من خلال القضية الفلسطينية والاحتلال الاسرائيلي بمصير العالم العربي كله، لأن العالم العربي عندما قامت المملكة الأردنية في عهد الملك عبدالله بن الحسين كان ما يزال يعيش في زمن التجارب. تم اغتيال الملك عبدالله بن الحسين في 20 تموز يوليو 1951 عندما كان يهم بدخول المسجد الأقصى في مدينة القدس ليؤدي صلاة الجمعة، برصاصة فلسطيني اسمه مصطفى شكري عشو وهو ينتمي الى فرقة "التدمير للجهاد المقدس". وكان وقع قبل ثلاثة أيام من اغتيال الملك عبدالله حادث اغتيال رئيس وزراء لبنان رياض الصلح في نهاية زيارته لعمان وفي طريقه الى المطار ليستقل الطائرة عاداً الى بيروت. وكان يزور الأردن تلبية لدعوة رسمية من الملك عبدالله للتشاور في أمور عربية. كان الرصاص يفرض نفسه في حياة العالم العربي فرضاً، فأصبح الاغتيال السياسي وكأنه ظاهرة عادية في حياة الأمة العربية. واستقدم الملك طلال بن عبدالله، الذي تولى عرش الأردن بعد اغتيال والده، من مصح سويسري الى كرسي العرش في 6 أيلول سبتمبر 1951. وبسبب مرضه، الذي أصبح معروفاً لدى الرأي العام الأردني، جرده مجلس النواب بعد أقل من عام واحد من سلطاته الدستورية، وتنازل عن العرش لنجله الأمير الحسين، وشكل مجلس وصاية لمساعدته في شؤون ادارة الأردن ريثما يتسلم الحكم رسمياً بعد بلوغه السن القانوني. وفسرت الخطوة في حينه بأنها كانت لقطع الطريق على أي اتحاد بين الأردنوالعراق أو أي بلد عربي آخر. لذلك اذا استعرضنا الأحداث التي تعاقبت على العالم العربي منذ زوال الحكم العثماني والمضاعفات التي شهدتها المنطقة التي سبقت عام 1948، عندما وقعت الحرب الأولى بين العالم العربي واسرائيل، وجدنا ان وضع الأردن هو الذي أناخ على كل حداث، وكان أثقل وزناً في ترجيح الكفة من الدول العربية مجتمعة. فالأردن نقطة حساسة جداً وتتجه إليه أنظار الأمة العربية بقلق ورجاء. وأصبحت المنطقة العربية نقطة توتر عالمي عندما بدأت الادارة الاميركية في عهد الرئيس هاري ترومان الذي خلف الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1945 تتنافس على أوضاع الشرق الأوسط مع كل من بريطانياوفرنسا، باعتبار بريطانيا صاحبة النفوذ الأسبق في كل من مصر والعراق وشرقي الأردن وفلسطين، بينما كانت فرنسا شريكة بريطانيا تتولى النفوذ في سورية ولبنان. وقرر الرئيس الاميركي ترومان التخطيط لتدخل الإدارة الاميركية في شؤون المنطقة مستغلاً ضعف النفوذ البريطاني في الشرق العربي، لتحل الولاياتالمتحدة مكان كل من بريطانياوفرنسا سعياً وراء السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية تحقيقاً لما جاء في بيانه الذي ألقاه في 6 نيسان ابريل 1946، وجاء فيه: "في هذه المنطقة الشرق الأدنى موارد طبيعية هائلة، فضلاً عن كونها منطقة تقع عبر أفضل الطرق البرية والمواصلات الجوية والمائية، فهي لذلك بقعة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية عظيمة. غير ان شعوبها ليست من القوة بحيث ان الدولة الوحيدة أو دول المنطقة كلها مجتمعة تستطيع ان تقاوم العدوان القوي اذا أتاها من الخارج. لذلك يسهل على المرء ان يدرك كيف ان الشرقين الأدنى والأوسط يمكن ان يصبحا يوماً ما حلبة لمنافسة عنيفة بين القوى الخارجية، وكيف ان تنافساً كهذا يمكن ان يتحول فجأة الى نزاع مسلح". كان الرئيس ترومان متعصباً للعنصرية الصهيونية، كما ساند دولة اسرائيل وفي عهده اعترفت الاممالمتحدة بالكيان الاسرائيلي كدولة بعد ان زرعت ظلماً وعدواناً في قلب الأمة العربية، في حين عرف الرئيس روزفلت بحياده العالمي وميوله المخلصة ودفاعه عن حقوق الانسان. هدفت من هذه المقدمة عن أحداث المنطقة العربية للحديث عن الملك حسين بن طلال الذي افتخر واعتز بمعرفته قبل 43 عاماً. كان في 21 سنة من العمر حين كنت أعمل في مهنة الصحافة التي خولتني اجراء مقابلات سياسية مع الملوك والرؤساء العرب وكبار الشخصيات السياسية. وكنت على مقربة من زعماء الوطن السوري الذين شاركوا في صناعة القرار العربي. عرفت الملك حسين في عام 1956 وتحديداً في يوم 8 نيسان عند زيارته دمشق تلبية لدعوة الرئيس شكري القوتلي بعد اعادة انتخابه لمنصب رئاسة الجمهورية السورية للمرة الثالثة وبعد نهاية فصل الانقلابات العسكرية. ووضع الرئيس القوتلي صيغة تعاون عربي مع الأردن يضمن له السيادة والحرية والاستقلال والاستغناء عن كل مساعدة غربية وخصوصاً الدولة البريطانية. وكان لي مع الملك الشاب أول حديث صحافي يتم منذ ان تسلم سلطاته. وسجلت بهذه المناسبة حدثاً عندما كشفت عن زيارته لدمشق قبل ان يصدر أي ربيان رسمي من الديوان الملكي الأردني ومن رئاسة الجمهورية العربية السورية. وسبب لي هذا السبق اشكالاً مع الرئيس القوتلي وعاتبني عتاباً أبوياً رقيقاً من حرصه الشديد على ان تكون نتائج زيارة العاهل الأردني الشاب ناجحة ومحققة أهدافها القومية. ولكن هل كان باستطاعي ان لا أسجل هذا السبق في مجال عملي بهذه المهنة. علمت عن الزيارة قبل أربعة أيام من موعدها، وهي أول رحلة يقوم بها خارج الأردن منذ توليه العرش، ولم أعلم بأن الرئيس القوتلي حريص على عدم اعلانها إلا يوم وصوله لأسباب أمنية، وثانياً لئلا تتدخل بعض الدول الاجنبية ومنها بريطانيا وبعض الدول العربية ومنها العراق في أمور هذه الزيارة. لم أفكر بهذه المخاطر التي عرضها الرئيس القوتلي عندما استدعاني الى داره يوم أعلنت نبأ زيارة الملك في وكالتي الاخبارية المحلية المسماة "وكالة أنباء دمشق" التي كانت الصحف الدمشقية ومكاتب وكالات الاخبار العربية والاجنبية تعتمد عليها بسبب دقة معلوماتها وملاحقتها ما يدور وراء الكواليس السياسية. الى عملي هذا كنت أمثل صحيفة "الحياة" اللبنانية في عهد صاحبها كامل مروة رحمه الله وكان له ولأستاذي الكبير نصوح بابيل نقيب الصحافة السورية وصاحب "الأيام" الفضل في تربيتي الصحافية. استدعاني الرئيس القوتلي الى منزله الذي كان يقطنه في منطقة العفيف في دمشق، وهو عبارة عن طابق أرضي، ليسألني عن مصدر خبر الزيارة. وحدد لي موعداً في الساعة الثالثة بعد ظهر الخميس في 5 نيسان، أي قبل ثلاثة ايام من موعد الزيارة. ومن خلال محبتي وتقديري الكبيرين للرئيس القوتلي ذهبت هرولة وركبت حافلة "الترام" ووصلت في الوقت المحدد. طرقت باب منزل الرئيس القوتلي وكانت المفاجأة ان الرئيس بتواضعه فتح الباب وبادرني قبل ان أقدم له التحية بقوله: "أهلاً بك وأهنئك على هذا السبق الصحافي". وجدت نفسي محرجاً، وقال الرئيس: تفضل يا مطيع وصحافني بكل محبة. فأجبت الرئيس: السلام عليكم فخامة الرئيس. لساني عاجز عن الشكر والعرفان العظيم الذي لقيته من فخامتكم حفظكم الله. قال: ولماذا، انك صحافي شاب تستحق كل ثناء بارك الله فيك واهنئك على هذا النشاط. ودخل الرئيس الى صالون الاستقبال في المنزل وجلس على مقعده وقال: تفضل اجلس. ونادى الخادم الحاج أحمد وقال: أعمل فنجان من القهوة للاستاذ مطيع. وسألني عن مصدر خبر زيارة الملك حسين؟ قلت: من مصادر موثوقة. وهل الخبر كاذب؟ قال: انه صحيح والدليل انني هنأتك على هذا السبق الصحافي. ولكن اذاعة الخبر ستكلف الخزينة السورية مليون ليرة سورية. قلت للرئيس مازحاً: لو كنت أملك هذا المبلغ لقدمته لوزارة المالية. ولماذا هذا المبلغ الكبير يا صاحب الفخامة. قال: أعرف بأنك لا تملك مثل هذا المبلغ ولا عشره ولا خمسه. وهذا المبلغ سيصرف على اقامة الزينة في مدينة دمشق احتفاء بزيارة الملك الشاب وهي أول زيارة يقوم بها خارج الأردن بعد ان تسلم العرش. لذلك فرض علينا هذا السبق الصحافي هذا المبلغ. وكنا اتفقنا مع الملك حسين عدم اذاعة خبر الزيارة الا ساعة وصوله للأراضي السورية. ولا أخفيك سراً بأنني هيأت هدية لتقديمها للملك خلال زيارته بدلاً من هذه الزينة، لكن الخبر احرجنا وأصبح من واجبنا ان نحتفي بالملك العربي في وطننا هذا. علماً بأن هناك بعض الدول تعارض هذه الزيارة الملكية. وسألني الرئيس: من أين جئت بجدول أعمال مباحثاتنا مع الملك حسين؟ فأجبت: في الواقع ما هي الا استنتاجات صحافية من خلال معرفتي للأجواء العربية وللموقف الأخوي بين سورية والأردن. قال الرئيس: اسمع يا مطيع، تعليقاً على استنتاجاتك، دخل صديق منزل صديق له فوجد عند مدخل الدار قبعات وبالطويات شتوية كثيرة، فقال الضيف لصديقه: هل عندك بعض الأصدقاء؟ أجاب صاحب المنزل نعم. فالتفت الضيف الى المطبخ فوجد الطناجر والصحون وغيرها مكومة في المطبخ، فسأل صديقه: هل تناول الضيوف طعام الغداء؟ قال صاحب المنزل: نعم دعوتهم عندي للغداء. وعلق الرئيس القوتلي: هذه القصة تنطبق على استنتاجاتك الصحافية. وعندها سألت الرئيس: هل هذه الاستنتاجات صحيحة فخامة الرئيس؟ فأجابني: "بارك الله فيك واترك الأمور لموعد الزيارة الملكية". علمت لاحقاً ان الرئيس عاتب رئيس الوزراء آنذاك سعيد الغزي رحمه الله معتقداً انه هو الذي سرب خبر الزيارة لأنني أشرت فيه ملمحاً عن الرئيس الغزي. وأوضح الرئيس الغزي للرئيس القوتلي: ان مطيع النونو أعلمني عن زيارة العاهل الأردني قبل أن أعرفها من فخامتكم. * صحافي سوري