"ليس المهم أن تكون ملكاً... المهم أن تبني مملكة". اندره مالرو . "إن ما يجعل أدوار القادة والزعماء أمراً مثيراً للفضول هو الأثر الحيوي الذي يتركه وجودهم أو غيابهم على مجرى الأحداث. ذلك ان موت القائد يغيّر مصائر المواطنين ويبدل في اتجاه المسار التاريخي لمستقبل شعب بأكمله". بهذه العبارة اختصر الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون تعريفه للقائد في حديث أجريته معه في مكتبه في نيويورك 24 حزيران/ يونيو 1983 إثر صدور كتابه الشهير "قادة وزعماء". ولما سألته عن المعيار الفاصل الذي ينتسب إليه "القائد" في كتابه، وكيف أنه جمع بين الرموز ذات الاتجاهات المتناقضة عندما صنّف ستالين وشو ان لاي بين الزعماء التاريخيين مثل تشرشل وديغول ونهرو... أجاب نيكسون موضحاً: "يجب أن نميّز بين الزعماء أثناء تحديد منزلة القيادة، لأن ليس ضرورياً أن يكون العظماء من الصالحين والطيبين والنبلاء. إن بطرس الأكبر كان طاغية، ومثله كان نابليون فرنسا ديكتاتوراً عسكرياً صنع شهرته على جبهات القتال. ولكن الاثنين استخدما القوة بمهارة على نحو غيّر مجرى التاريخ في روسياوفرنسا وأوروبا. وأنا عندما تحدثت في كتابي عن تشرشل وستالين، قلت انني اعتبرهما قائدين عظيمين وإنما بطرق متباينة. ذلك أنه لولا تشرشل لاستسلمت أوروبا لطغيان النازية والفاشية. ولولا ستالين لانتمت أوروبا الشرقية إلى البلدان الديموقراطية ذات السيادة الحرة". تذكرت هذا الحوار مع الرئيس الراحل نيكسون نُشر في مجلة "المستقبل"، أثناء متابعة أخبار القصر في عمّان بهدف الوقوف على الأساليب المتناقضة التي تعاطت بواسطتها الصحف العربية والأجنبية مع سيرة العاهل الأردني. وعلى رغم ضمور صفحات الانتقاد التي انحصرت غالبيتها في جريدتين بريطانيتين وبعض الصحف اللبنانية، إلا أن نوعية المشاركة أثناء مراسم تشييع جثمان العاهل الأردني اعطت الانطباع بأن الملك حسين كان أكبر حجماً من بلاده، أو أنه على الأقل صانع الدولة الأردنية الحديثة منذ صيف 1952 إثر مخاض عسير بدأ مع الملك عبدالله في نيسان ابريل 1921 بإعلان تأسيس إمارة شرق الأردن التي سميت المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946 بعد حصولها على الاستقلال الرسمي عن بريطانيا. السؤال المحير الكبير الذي رافق حشود الزعماء لم يجد الجواب الشافي والتفسير المقنع بالنسبة الى دوافع المشاركة العالمية في تشييع جثمان ملك لم يُقتل برصاصة مثل كينيدي أو بحادث سيارة مثل ديانا، وإنما مات نتيجة مرض عضال مثله مثل الآخرين! تفاوتت الاجوبة على هذا السؤال بين التقدير لأقدم حكام العالم قاطبة... وبين الشعور بالخوف على مستقبل بلد حشرته بريطانيا عام 1921 في أخطر زاوية من زوايا المنطقة، وجعلت منه الحاجز العازل بين إسرائيل والعراق وسورية والسعودية. ويبدو أن الحضور الرئاسي الغربي المكثف لم يكن أكثر من تأكيد علني لحرص الولاياتالمتحدةوبريطانياوفرنسا على دعم استمرارية النظام، واعتبار سياسة الحسين القاعدة المحورية للتعامل مع الأردن كوطن أصيل لا كوطن بديل. ومن الطبيعي أن يُفسر حضور أربعة رؤساء أميركيين بأنه الدعم الكامل لوريث العرش خلال الفترة الانتقالية المرتبطة بالتسوية الدائمة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. ومن هذه الزاوية يمكن فهم السؤال الذي وجهه الرئيس كلينتون للرئيس حافظ الأسد أثناء الجنازة: "أنا سعيد بوجودك هنا. أتمنى عليك مساعدة الأردن". وكان رد الأسد على كلينتون ايجابياً بالطبع، الأمر الذي عبّر عنه أثناء اجتماعه بالملك عبدالله وتأكيده له أنه سيلقى منه كل مؤازرة وتعاون واسع النطاق. وعلى رغم مشاركة أكثر من رؤساء 45 دولة - بمن فيهم الرئيس الروسي العليل يلتسن - في تشييع الحسين إلا أن حضور الأسد فاجأ الجميع، وجعل منه المادة المركزية لاضواء التلفزيونات وأخبار الاذاعات والصحف، خصوصاً ان قرار الحضور جاء متأخراً جداً وبسرعة لم تسمح لتبعية الدولة اللبنانية بالوقوف على حركة الانعطاف، أو بمجاراتها لحظة التغيير. وكان ذلك سبباً لاحراج الخارجية اللبنانية التي نسقت مع دمشق، وأرسلت وزير الداخلية ميشال المرّ باعتبار أن حضور نتانياهو سيخفض مستوى التمثيل السوري. السبب الأول الذي قدمته صحيفة "تشرين" في افتتاحيتها ألقى بعض الضوء على الدافع الرئيسي لقرار المشاركة. قالت: "إن دمشق تقف بصلابة إلى جانب الأردن الذي لا يتهدده خطر سوى الخطر الإسرائيلي. وعليه، استقبلت الأوساط الأردنية والعربية مبادرة الرئيس الأسد بارتياح كبير لأنها نسفت محاولات إسرائيل الاصطياد في الماء العكر لتخريب العلاقات العربية انطلاقاً من سياسة فرق تسد". والمؤكد ان مشاركة الرئيس الأسد دحضت حملة التشكيك التي أطلقتها حكومة نتانياهو عندما أعلنت ان الاستخبارات السورية تشكل تهديداً للاستقرار الأردني. وادعت الصحف الإسرائيلية ان الأردن ضبط خلال السنوات الأخيرة مئات من حالات تهريب السلاح من سورية، وان المجموعات الفلسطينية المعارضة تحتمي بدمشق، وتحرض على أعمال الشغب داخل المنطقة المتاخمة. ولاحظ المسؤولون في دمشق أن نية إسرائيل تتجه إلى تخريب العلاقات السورية - الأردنية عقب تسلم الملك عبدالله سلطاته... وان الهدف من وراء ذلك يكمن في إعادة ربط أجهزة المخابرات كنوع من الوقاية، بعدما أمر الملك حسين بفصلها، إثر محاولة اغتيال خالد مشعل. أي الحادث الذي وصفه العاهل الراحل لشارون بأنه مشروع فتنة داخلية تؤسس لزعزعة النظام. وفي ضوء هذه المعطيات قرر الأسد تبديد القلق الذي زرعته تشويهات الاعلام الإسرائيلي في الصحف الأجنبية، وذلك عن طريق تطمين الملك عبدالله إلى أن دمشق ستكون له السند والعضد، لأن لسورية مصلحة حيوية في استقرار الأردن وأمنه. يبقى السبب الشكلي المتعلق بضرورة مشاركة سورية في أضخم تظاهرة سياسية عرفها العالم منذ جنازة الرئيس كينيدي، شجعت يلتسن على التمرد على نصائح الأطباء لقناعته بأن الذي يغيب عن هذا التجمع يكون معزولاً. وبما أن سورية منذ العام 1992 تتطلع إلى دورها كشريك في التطورات والمفاوضات والتجمعات الاقليمية والدولية، فإن غياب زعامتها عن تجمع زعماء العالم يصنفها كدولة معزولة مثل العراق وكوبا. إضافة إلى هذه الأسباب ما يتعلق بمسألة رد الجميل ومقابلة المواساة بمثلها أسوة بما فعله الملك حسين الذي جاء إلى دمشق والقرداحة معزياً ومواسياً بعد وفاة والدة الرئيس الأسد وفجيعته بنجله باسل. الصحف اللبنانية اعتبرت غياب الرئيس أميل لحود عن المشاركة في تشييع جثمان الملك حسين خطأ غير مبرر. وهي تنسب غياب التمثيل الرفيع المستوى إلى أهمية التنسيق مع سورية في مختلف المواقف الخارجية... وإلى اتخاذ قرار المشاركة السورية في وقت لم يعد باستطاعة الدولة اللبنانية القيام بانعطاف مفاجئ ينسجم مع الحضور السوري الرفيع المستوى. لذلك حاول الرئيس لحود التعويض عن تقصير الدولة المقيدة في حرية التحرك الخارجي، بتقديم التعازي في السفارة الأردنية في بيروت. وقال مصدر رسمي مأذون له: "إن لبنان قام بواجبه تجاه الأردن وأوفد ممثلاً عن الدولة، وان الرئيس لحود لا يستغل مثل هذه المناسبات الحزينة لتأكيد حضور لبنان العربي". ويستخلص من فحوى هذا التبرير أن سياسة لبنان الخارجية بحاجة إلى مراجعة شاملة لأن منطقها مناقض لكل منطق. فالشكوى العامة لا تأخذ على الدولة تمثيلها بوزير الداخلية، وإنما تأخذ عليها عدم رفع التمثيل إلى مستوى رئيس الدولة أسوة بالأسد ومبارك. أما حجة الدفاع عن تقصير الدولة بالادعاء أن الرئيس لحود لا يستغل هذه المناسبات الحزينة لتأكيد حضور لبنان العربي... فلا يدانيها في التشويش سوى الحجة الواهية التي قدمت أثناء تفويت لبنان فرصة المشاركة في اجتماع وزراء الخارجية العرب. ولو تذرعت كل دولة بهذا المنطق، لما ترك كلينتون وشيراك وبلير ويلتسن والأسد ومبارك والأمير عبدالله بن عبدالعزيز والسلطان قابوس مشاغلهم الضخمة، معربين بذلك عن مشاركتهم العملية في مصاب لا يتكرر كل يوم. وعملاً بهذا التبرير كان الأجدر بالدولة الاكتفاء بتمثيلها بميشال المر، فلا ترسل وفداً موسعاً برئاسة الدكتور الحص كأنها بذلك تعتذر عن التقصير... أو تحاول موازنة الوفود الأخرى التي سبقتها إلى عمّان برفقة الرؤساء الياس الهراوي وأمين الجميل ورفيق الحريري. وفي هذه المناسبة لا بد من تذكير مشاهدي التلفزيون أن سفير لبنان في عمّان وليم حبيب ظهر وحيداً أمام النعش، وان شبكات التلفزيون التقطت صورة انضمام ميشال المر إلى الوفد السوري، الأمر الذي أثار تعليقات الصحف الأجنبية التي تحدثت عن الرئيس الأسد كممثل لأكثر من دولة. الرئيس الأميركي كلينتون أبلغ الملك عبدالله انه سيدعم عهده، ويقدم له كل مساعدة اقتصادية وعسكرية تعينه على تجاوز الفترة الحرجة. وفي هذا الإطار تحدث إليه طوني بلير والأمير عبدالله بن عبدالعزيز، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، وولي عهد الكويت الشيخ سعد العبدالله. ويستخلص من هذا التوجه العالمي أن العاهل الأردني الشاب سيبدأ قريباً مرحلة اختبار مستوى الزعامة الأردنية وقدرتها على مواجهة التحديات الكبيرة على المستويين السياسي والاقتصادي. أي على مستوى دور بلاده في محادثات التسوية الدائمة بين إسرائيل والفلسطينيين... أو على مستوى الوضع الاقتصادي المرتبط بمصير الضفة الغربية والعوامل التي تحدث في العراق. عندما أعلن الملك عبدالله بأن الأردن في عهده سيظل وفياً لسياسة والده، محافظاً على خطها الداخلي والخارجي، إنما كان يؤكد بأن تغيير صورة الملك لا يغير من تصور المملكة. وكما نجح العاهل الراحل في صوغ نظام عريض ومرن يكفي لاستيعاب مختلف الآراء السياسية، بدءاً بالإسلاميين وانتهاء بالشيوعيين... هكذا يسعى الوريث إلى تأليف حكومة قادرة على لعب دور صمام الامان بحيث تحتوي المحبطين وتؤمل المهمشين والمعارضين. ومن المؤكد أنه سيستثمر الدعم العالمي والعربي لتعميق موضوع المؤسسات السياسية التي تعتبر الركائز القوية لتثبيت نظام الحكم في الأردن. هناك مشاكل عالقة يستعد الملك عبدالله للبحث في مصيرها بعد تأليف حكومة جديدة تتولى المسؤوليات اثناء غيابه في جولة تشمل أهم العواصم الأجنبية والعربية. وتتقدم هذه المشاكل الحيوية المهمة قضية اللاجئين ومستقبل الحدود مع الدولة الفلسطينية المزمع انشاؤها، ووضع القدس. إضافة إلى هذه المسائل، فإن الأردن سيستأنف بحث قضية المياه التي وعد نتانياهو بزيادة كميتها وتحسين نوعيتها. ولكنه خرق تعهده بعد ان نجح شارون في عقد صفقة مع روسيا للسماح بهجرة مليون يهودي جديد سوف تكون حاجتهم إلى المياه مساوية لحاجتهم إلى بناء مستوطنات في الضفة والقدسالشرقية. ومن منطلقات هذه المسائل المعلقة تظهر نتائج الانتخابات الإسرائيلية كعامل مؤثر في مستقبل المفاوضات، خصوصاً أن المصالح المشتركة ومحادثات الحل النهائي، لم تمت مع موت الملك حسين. * كاتب وصحافي لبناني.