"لا يجوز الافصاح عن الاسرار العسكرية قبل الاوان، متى رام المرء النصر". لا يعقل تجاهل هذا المبدأ خمسة عشر قرناً بعدما اثبته القائد الصيني سون تزو Sun Tzu في كتابه عن "فنّ الحرب". الا ان الاسرار العسكرية ليست هي اساس التغيير النوعي الذي نرومه في العراق، فالاستراتيجية العسكرية جزء من كل، مرتبط وشامل على طريق التغيير، وهذا الكل يصبو الى هدف معين هو احلال الديموقراطية والاحترام الفعلي لحقوق الانسان عن طريق تثبيت حكم القانون في العراق. ينص قانون تحرير العراق، الذي عملنا عليه طوال السنة الماضية مع ممثلي الشعب الاميركي في مقدمته على "ان سياسة الولاياتالمتحدة تساند الجهود الرامية الى ازاحة نظام صدام حسين من السلطة في العراق، والى تشجيع اقامة حكومة ديموقراطية لتحل محله". وتبع التصويت على القانون بغالبية ساحقة من الكونغرس واقراره من قبل الرئيس كلينتون في 31 تشرين الاول اكتوبر الماضي، حملة واسعة ضده. اعترض عليه عدد من القياديين العسكريين في الولاياتالمتحدة، ما حدا بعدد من اعضاء مجلس الشيوخ ومن الصحافيين البارزين الى شجب تعرّض العسكر لمشيئة ممثلي الشعب، كما رافقت العمل على تطبيق القانون حملة مركزة، يقودها اولياء نظرية "الانقلاب" الواهية، لتقويض المؤتمر الوطني العراقي في سبيله المستمر لدعم مبادئ القانون وروحه، ووضعه حيّز التطبيق. وفكرة الانقلاب مغايرة تماماً لروح قانون تحرير العراق، واثبتت اخفاقها طوال سنوات "الاحتواء" الثماني، ولا نزال قلقين من الاوساط التي تدفع الى التشكيك المتواصل في مبدأ التغيير كما ثبّته القانون في اشتراك فريد من نوعه في التاريخ بين المعارضة العراقية وبين الولاياتالمتحدة. ومن صلب القانون عدم الرضى بالاسلوب الذي اتبعته الادارات الاميركية المتعاقبة في التعامل مع المآسي التي احدثها صدام. فكانت الازمات تتتالى من جراء صدمة ناتجة عن اجرام جديد، او انتهاك جديد للقانون الدولي، او تهديد واستدراج جديد ينظمه الديكتاتور العراقي، من دون اية مبادرة ايجابية متصلة بخطة شاملة يؤازرنا عليها المجتمع الدولي. فإزاء اخفاق السياسة العالمية بوجه صدام حسين، وقد صار تدمير انسكوم منذ سنة الآن، فيما تستمر انتهاكات حقوق الانسان على قدم وساق بلا وازع ولا رادع، جهدنا باتجاه سن قانون تحرير العراق لتصحيح المسار. اما الاخفاق، فهو مرتبط بمشكلتين اثنتين: الاولى هي الجهل للوضع القائم على الارض من قبل اعداء قانون تحرير العراق، والثانية متعلقة بتصوراتهم المسبقة المؤسفة، والتي يمكن وصفها ب"الثقافية النسبية"، كما درجت في قاموس حقوق الانسان. فأعداء قانون تحرير العراق يرددون الحجة على انتفاء اي أمل لمستقبل ديموقراطي في العراق، ويجزمون بأن العراقيين لا يمكنهم ان يعيشوا بسلم في ما بينهم من دون وطأة جامعة يفرضها "رجل قوي" بصورة ديكتاتور، فيحبذون في ذلك فكرة الانقلاب على يد شخص على شاكلة صدام حسين من المقربين اليه. ففي الاوساط الغربية، كما في بعض الاوساط العربية، يرتكز رفض الاهداف الديموقراطية للتغيير في العراق على فكر عنصري وعلى معايير "ثقافية نسبية" لم تطبّق يوماً في التعاطي مع الشعوب في اوروبا او في اميركا اللاتينية. وفي هذا السياق المخطئ يبرز عنصر آخر تفتقده الاستراتيجية العسكرية، وهو ما كرّسه سون تزو "عنصراً اول في فن الحرب، وهو الناموس الخلقي". فبعد سنين طويلة من العمل على جواب مركز، شامل وحضاري لأسوأ الديكتاتوريات الشمولية التي لا تزال قائمة في العالم، لا يمكن القبول بتناسي التضحيات العظيمة التي قدمتها المعارضة العراقية، ولا يجوز الترفع عن تاريخ المقاومة البطولية للشعب العراقي، وتجاهل الآفاق الجديدة التي يحملها القانون الدولي لتحقيق مستقبل اكثر انسانية في العراق. فالخطأ الاساسي في هذه النظرة يثبت في رأينا في عدم وضعها العنصر العسكري كجزء، بل كمجرد جزء، من سياسة جديدة وشاملة، اميركية - عراقية، من اجل الديموقراطية في بغداد. وأما السياق العسكري، والخطة التي تم وضع تفاصيلها مع اصدقاء اميركيين من ذوي الخبرة والاختصاص، فلنا ان شاء الله عودة اليها من جديد في المستقبل القريب. حسبنا الآن التوكيد على حقيقة بسيطة، وهي انه لن يتم تحرير العراق من لندن او واشنطن او اي عاصمة خارج البلد. وليس من الممكن، بالنسبة لعدم تكافؤ القوى، ان يتم التحرير من دون دعم حقيقي ومستمر من قبل واشنطن، يرتكز على تطبيق جدّي لقانون تحرير العراق. فالمشاكل لا تحصى، وهذا نظام توتاليتاري مترسخ تخطى البربرية النازية باستعمال الغازات ضد شعبه. ومسألة التحرير ليست سهلة نظراً لشكوك اخواننا العراقيين في المعارضة بالنسبة لتعاطي واشنطن في قضية تغيير النظام. ولهذه الشكوك تاريخ طويل يدعمها. فقبل اجتياح الكويت بستة اشهر اشترك 27 شخصية من المعارضة في المطالبة بحكم القانون في العراق. واعلن الطلب في 27 شباط فبراير 1990، والصحيفة الوحيدة التي تجرأت على نشره آنذاك كانت "الحياة". وذهب الطلب في مهب الريح لأسباب متعلقة بسياسة رعناء في واشنطن وفي مجمل العالم، وكان صدام حسين لا يزال حليفاً اميناً للعواصم الغربية والعربية المختلفة. وفي ظاهرة تزيد هذا الامر بشاعة، رافق الفترة الطويلة التي امتدت ما بين اجتياح الكويت في آب اغسطس 1990 وبداية الحرب في كانون الثاني يناير 1991 أمر من الادارة الاميركية يمنع اي اتصال بين اي مسؤول رسمي اميركي وأي شخص ينتمي الى المعارضة العراقية. وفي ذروة الانتفاضة في آذار 1991، وفيما كان الحلفاء يشاهدون بصمت الأطفال الاكراد يموتون من البرد على الحدود مع تركيا وايران، وفيما كانت دبابات صدام حسين وطوافاته تقتل اكثر من 200 الف عراقي لاخماد الثورة ضده في الوسط والجنوب، تثبيتاً لعبرته لمن يجرؤ على الوقوف في وجه الطغيان، اجتمع وفد من المعارضة مع الكونغرس، وتحدّث في مجلس العلاقات الخارجية وفي جامعة هارفرد، طالباً الدعم الاميركي ضد صدام حسين. لكننا رفضنا الدخول او الاجتماع الى اي مسؤول، على اي مستوى كان، في السلطة التنفيذية الاميركية. وحسبنا التنويه بالمدى الذي يَفصُل "قانون تحرير العراق"، وهو قانون ملزم للحكومة الاميركية، والعزلة التي كنا فيها يومذاك، والتأكيد ان اية عملية ميدانية لن تكون اعادة لعاصفة الصحراء، وان الصورة المخزية في نهاية حرب الخليج الثانية للجنود العراقيين المغلوبين على امرهم، الراكعين امام القوات الاميركية، لا محل لها في المستقبل، وان القوات العراقية لن تصاب بأذى متى تهربت من اوامر صدام حسين، وان الملاحقة القضائية امام محكمة دولية لجرائم النظام لن تطال سوى قائمة محدودة من المجرمين الكبار التي اقترحتها منظمة اندايت، واشار اليها الرئيس كلينتون في كتابه الاخير في الكونغرس. ويأتي ذكر اندايت، وهي الحملة الدولية لمحاكمة مجرمي النظام العراقي الكبار الى عرضنا للبعد الاساسي، وهو البعد غير العسكري لقانون تحرير العراق. البعد السياسي جاء "قانون تحرير العراق" جواباً عن مساوئ سياسة "الاحتواء"، والتقصير الذي تقرّ به الادارة الاميركية نفسها اليوم. والسمة النوعية الاساسية في القانون متّصلة بعلانية طبيعته. اتفق العالم سنين طويلة على شجب جرائم صدام حسين التي ارتكبها ضد العراقيين وضد شعوب المنطقة. فبعد الاجماع الذي وضعه القرار 688 واعيد تكريسه من قبل اشخاص كانوا معروفين بولائهم لصدام حسين ومنهم حديثاً الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي اكد "ان الرئيس صدام حسين في عيني هو المسؤول عن جميع مآسي الشعب العراقي"، لم يبقَ سبب لتغطية او خشية البوح بضرورة اسقاط النظام. وجاء "قانون تحرير العراق" ليؤكد الانتهاكات المتكررة والواسعة النطاق التي ارتكبها النظام العراقي ضد القانون الدولي، وقد صرح الكونغرس والرئيس كلينتون ان صدام حسين "في انتهاك مادي وغير مقبول لالتزامات العراق الدولية"، ومن آخر هذه الانتهاكات طرد مجموعة انسكوم. كما جاء الاستنكار الجماعي للمجموعة العالمية عن طريق قرار مجلس الامن 1205، ويشمل الاستنكار الخطر الحقيقي والداهم الذي عبّر عنه العراق في تهديد جيرانه، وفي قتل مبرح بلا هوادة للمعارضين غير المسلحين من مواطني العراق العزّل. وليس مصرع محمد صادق الصدر في 18 شباط سوى آخر الحلقات في نمط مستمر من الاعدامات الفردية والجماعية الموثقة منذ سبع سنوات من لدن المقرر الخاص للامم المتحدة، وتشجبها اضافة، في كل سنة، قرارات تتخذها الجمعية العامة بشبه الاجماع، وفي غياب اي تحرّك لتطبيق الامين العام للتوصيات التي رفعها المقرر الخاص وثبتتها الجمعية العامة، وهو السيد كوفي أنان نفسه الذي يهرول لمصافحة الطاغية في استعداد دائم ومعلن للتداول معه، يوفر "قانون تحرير العراق" الجواب، على ارفع مستوى، وهو المستوى القانوني، ويقدم التدابير العملية المختلفة التي تنحدر من هذا الاقرار. فهي نتيجة طبيعية ضد نمط الانتهاكات القانونية التي يرتكبها النظام باستمرار، ان يحصل المعارضون العراقيون على الدعم العسكري المعلن، وان يكون هذا الدعم مقدماً من وزارة الدفاع الاميركية، وليس من خلال عمليات سرية لا مسؤولة تنظمها وكالات استخبارات مستترة. ولم نحفظ يوماً خبراً او معلومة من العلن اذا جاز البوح بها، وعلى اي شخص يود معرفة هيكلية اجهزة القمع العراقية، ان يرصد موقع "المؤتمر الوطني العراقي" على الانترنت، وفيها عرض عام لهذه الاجهزة على المستويين الوطني والمناطقي. ومن الضروري ايضاً الانتباه الى الفقرة في "قانون تحرير العراق" لانشاء محكمة دولية لمحاكمة صدام. ففي هذه الفقرة، وفي الدعم المادي الذي اعطاه الكونغرس لاندايت، يركز القانون على ضرورة شمل اسقاط النظام بأعلى صورة حضارية، بما يسمح حتى للمجرمين الكبار امثال صدام ان يدافعوا عن انفسهم في محاكمة علنية. وهذا هو السبب ايضاً الذي يحدو بنا للعمل مع جنود الحلفاء الذين شاركوا في حرب الخليج، قناعة منّا ان تنشيط الروابط التاريخية التي تجمعنا بهم وحده قمين بجعل ذات معنى تضحياتهم وتضحياتنا امام العارض الصدامي، وبالاطمئنان الى ان الجزاء لهم ولنا لن يأتي الا في امتثاله لمحاكمة دولية. تم تكريس الآمال التي يعرضها القانون لمستقبل حضاري ومشرق لشعوب العراق، بما فيها دعم الولاياتالمتحدة في اعادة اعمار البلد بعد ثلاثة عقود من الكابوس المستمر، في صلب بنود القانون الملزمة: "على الولاياتالمتحدة ان تدعم انتقال العراق الى الديموقراطية بتوفير مساعدة انسانية كبيرة ومباشرة للشعب العراقي، وبدعم مرحلي للنقلة الديموقراطية لدى الاطراف والمنظمات العراقية ذات الاهداف الديموقراطية، وبدعوة الدائنين الدوليين للعراق الى تطوير خطة متعددة الاطراف لمعالجة الدين الخارجي الذي اقحم العراق فيه نظام صدام حسين". لن تأتي الديموقراطية الى العراق على اجنحة الاثير، ولا يكفي افق حقوق الانسان لشعبنا انشاء المحكمة التي تطالب بها اندايت والحكومتان الاميركية والبريطانية. فزعماء "المؤتمر الوطني العراقي"، قبل الحروب الكردية الداخلية، كانوا اعلنوا رسمياً مطالبتهم بنشر مراقبين دوليين لحقوق الانسان. وفي ظل استعدادهم المستمر للقبول بمثل هؤلاء المراقبين، نطلب من الاممالمتحدة، تطبيقاً لتوصيات مقرر الاممالمتحدة الخاص، ونشجع الكونغرس، في روح قانون تحرير العراق، على توفير دعم فعال يسمح بنشر مراقبي حقوق الانسان في بلادنا. لا يشك احد في ان صدام غير مستعد للسماح بالمراقبين الانتشار في المناطق التي يسيطر عليها. الا انه ليس قادراً على منع انتشارهم في المناطق التي زالت قبضته عنها. هذا هو الوضع في الشمال، وهذا هو الوضع الذي نلتمسه في اي جزء من ارض العراق التي سوف نحررها. ولهذا فان المسار الى التحرير اساسي، بل ان صواب المسار الى تحرير العراق قد يكون اهم من التحرير نفسه. وبفضل المؤتمر الوطني العراقي، وقبله اللجنة الدولية من اجل عراق حر، انشئت منطقة الحظر الجوي للحفاظ على العراقيين ضد القمع، عملاً بقرار مجلس الامن 688. ونحن نطالب في ظل القانون الدولي الذي وفر لمنطقة الحظر الجوي قاعدتها الشرعية ان تحفظ في هذه المنطقة ارواح العراقيين العزّل على الارض. فبدل ان تُرسم منطقة الحظر الجوي وكأنها رد على تهديدات صدام حسين لطيّاري الحلفاء، على هذه المنطقة ان تكون متلائمة مع السبب الاساسي التي اقيمت من اجله استناداً الى القانون الدولي، وهي المحافظة على الابرياء من بطش نظام مجرم. وهذه المحافظة لن تكون من دون تدمير العتاد الثقيل من المدرعات والدبابات التي ينشرها النظام ضد اهلنا، بالتدرج، وبالعلانية، وبالتنسيق معنا. ولا يثنينا عن عزيمتنا انه، وبالاضافة الى شبه الاجماع في الكونغرس الى جانبنا، تلقينا سنداً واسعاً من المئات من الشخصيات في الولاياتالمتحدة وفي العالم، كما قابلنا اهلنا العراقيين داخل الوطن وفي المنافي العراقية بموجة عارمة من الحماس لما يشكله "قانون تحرير العراق" من قفزة نوعية في التعاطي مع الازمة. ولا بأس بالتنويه ان اهم المعالم لهذا الدعم يتجلى بالتغطية النادرة لضرورة الديموقراطية في العراق من قبل شخصيات على قدر من الاختلاف الواسع، مثلاً ريتشارد بيرل ونعوم تشومسكي والجميع لم يتوان لحظة في بذل صداقتهم واهتمامهم بشأن عملنا لأهميته في المنطقة وعلى المستوى العالمي "ناموساً خلقياً". وعندنا ان هذا الاجماع على عمل ايجابي في سبيل الديموقراطية في بغداد وجد قمة تعبيره في سن قانون ملزمه اتباعه اقوى دولة في العالم. فان فقدان الوف الارواح بسبب صدام حسين - اكانت هذه عراقية او اميركية او غيرها - لا يجوز تناوله بشكل مختلف عن الارواح التي ازهقت في تحرير الشعب الالماني من الديكتاتورية النازية على يد الحلفاء. والتأويلات الاخرى - النفط، استقرار الخليج، او المصالح الاميركية - كلها ذات مغزى، لكنها كلها رديفة. اما الجوهر، فمتمثل في نظرة مشتركة يعمل من خلالها العراقيون، وحلفاؤهم في العالم، لازالة صدام حسين من اجل الديموقراطية في العراق. * رئيس المجلس التنفيذي للمؤتمر الوطني العراقي.