إذا فشلت المساعي الديبلوماسية في التوصل الى اذعان القيادة العراقية لفتح كل المواقع في العراق أمام "أونسكوم" بلا قيود، فإن الحرب محتمة. وخلافاً للأزمات السابقة لا تحمل المواجهة الحالية في طيّها عناصر حلّ سياسي بين واشنطنوبغداد. إذا بدأت حملة القصف الجوّي، ستكون بهدف اجبار صدام حسين على الرضوخ المطلق. ولماذا يُنتظر من صدام حسين ان يقبل بفتح غير مشروط للمواقع نتيجة للضربة الجوية، ويتحمل الاهانة في اذعانه لها، إذا رفض الامتثال اليوم عبر جهود الروس وغيرهم؟ وإذا رفض ان يذعن بعد الضربة فبأيّ حجة توقف أميركا حملتها؟ ان خطر تفاعل الأزمة بشكل مفتوح ومتصاعد هو خطر حقيقي. ولن يكون الضرب الجوي حاسماً، مهما كان مبرّحاً. لقد نجحت الحكومة العراقية في اخفاء برنامج تسلّح واسع على مفتشين طافوا في أرض العراق على مدى سبع سنوات، فأنّى للصواريخ والطائرات القاذفة ان تفي بالغرض، بغض النظر عن استخدام الحاكم العراقي لشعبه دروعاً بشرية في القصور والجوامع، وفي مراكز أخرى اختارها لتصنيع سلاح الدمار الشامل وتجميعه. وهل ان صدام حسين مستعد، او قادر على المبادرة بضرب اسرائيل او الكويت بصواريخ رؤوسها كيماوية او بيولوجية؟ الأيام حبلى، لكن أحداً يشك في عواقب استخدام هذه الأسلحة. لقد أنذرت الحكومة العراقية أيام حرب الخليج من ان اللجوء الى أسلحة الدمار الشامل يؤدي الى ردّ مختلف نوعياً، يشمل استخدام القنابل النووية، وأعيدت هذه الاحتمالات المخيفة الى الصدارة في الأسابيع الماضية. ليست هذه المخاوف بلا أساس، فبعد سوابق حلجبة في اذار مارس 1988، واستخدام الأسلحة الكيماوية على نحو متكرر خلال الحرب الايرانية - العراقية، لا يشك احد في استعداد صدام حسين للجوء الى أسلحة الدمار الشامل. وفي صور حديثة ظهرت تجارب غازية على حيوانات حيّة، وجرى تداول أخبار عن تجارب مشابهة أجريت سنة 1995 على أسرى حرب ايرانيين. ويشير تقرير السفير ريتشارد بتلر الى مجلس الأمن في 22 كانون الثاني يناير الى ان العراق صنّع 9.3 طن من الغاز العصبي VX في السنوات القليلة الماضية. وفيما يستمر منطق المواجهة، لا يسع المرء غير التأسف على قصر النظر في السياسة الأميركية تجاه العراق، وقد سمحت للأزمة بأن تتفاعل مدّة سبع سنوات متواصلة. فكان يترتب على الولاياتالمتحدة ان تخلّص الشعب من حكّامه في نهاية الحرب، وكان يتوجب عليها ان تساند انتفاضة آذار مارس 1991، بل كان يجدر بها على الأقل ان تشدد على المسؤولية الشخصية للقيادة العراقية في قرار وقف النار. ومثلما تقع التبعة التاريخية بقوّة على الرئيس جورج بوش، فإن سياسة الاحتواء في عهد الرئيس كلينتون، الرافعة أيديها عن المشكلة، قد اشهرت ايضاً افلاسها، بعدما سمحت بأن يعيد صدام حسين تنظيم أجهزته في وقت كان يستعمل آلام شعبه ليفرض التطبيع مع فرنسا وروسيا والبلدان الأخرى، وقد نجح في اضعف طوق العزلة من خلال أزمات متتالية جاءت الى بغداد بعدد بارز من المحاورين الغربيين والعرب. فبعد سبع سنوات، وقد أعاد الحاكم العراقي تشكيل ترسانته بشكل مروع، يتساءل المرء عما قد يسمح لرفع خطره عن المنطقة، وكأن الوسيلة الوحيدة المتاحة عملية جيمس بوندية ينزل فيها عدد من المغاوير على قصر الطاغية المهووس، كما في فيلم Air Force One، لالقاء القبض على الزعران. ولحسن الحظ، او لقلّته، فإن الشرق الأوسط ليس على صورة كازاخستان في فيلم أميركي طويل. والخطة القادمة واضحة المعالم اليوم، شرحها بتفصيل السيد ساندي بيرغر الأسبوع الماضي في واشنطن، مؤكداً ان "الولاياتالمتحدة سترفض أي اقتراح يضعف من فعالية انسكوم". وإذا فشل الأمين العام في ايجاد حلّ سحري في الأيام القليلة المقبلة - قد يكون عنوانه فتح القصور بلا شرط امام المفتشين، يرافقهم بعض ممثلي السفارات من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، كما جاء في اقتراح مبكر للسفير بتلر - ستعلن الولاياتالمتحدة عن طريق مجلس الأمن او غيره، ان صدام حسين خرق قرار وقف النار، وتشرع في ضرب العراق. ما هي ملامح الخطة الأميركية في مرحلة ما بعد الضرب؟ في حديثه في 13 شباط فبراير تابع مستشار الأمن القومي قائلاً: "اما إذا سمح العراق بعودة انسكوم بعد استعمالنا القوة، فلا بأس. وإذا رفض، فهكذا سيظهر لصدام في الأسابيع والأشهر التي ستلي استعمال القوة: أولاً، ان امكانية اقتناء أسلحة الدمار الشامل تكون قد خفّفت، وخطر صدام على جيرانه أضعف جذرياً… ثانياً، سيعرف صدام، من خلال أعمالنا وتهديداتنا، اننا مستعدون للتحرك مرة أخرى إذا ثبت لنا انه يحاول اعادة تشييد سلاح الدمار الشامل… ثالثاً، لن ترفع العقوبات طالما لم تنجح انسكوم في انهاء مهمتها… رابعاً، في الأسابيع والأشهر المقبلة، سيعرف صدام اننا سنتعامل بجدية مع مناطق الحظر الجوي في جنوبالعراق وشماله…". هذه الأمور الأربعة تقود الأزمة، في أفضل الاحتمالات، الى المراوحة مكانها. ويجيب بيرغر نفسه عن النقطة الأولى، بالاعتراف بپ"انه لا يمكننا ان ندمر كل شيء…"، مما يجعل أي سلاح لم يدمر قادر على ترويع العالم مجدداً بمشيئة الحاكم العراقي. اما النقاط الثلاث الأخرى فلا تختلف البتة عن الحال الراهنة، لأن استمرار العقوبات يكرس ذريعة صدام حسين باستدرار الشفقة على الشعب المسكين، ولأن مناطق الحظر الجوي قائمة على كل حال. اما النقطة الرابعة، وهي استعداد أميركا للتحرك بما يذكّر صدام "بأن عليه أخذها في الاعتبار"، فهي بديهية للجميع، لأن الولاياتالمتحدة ماثلة في أفق الحاكم العراقي كل يوم منذ سبع سنوات. في ضوء تصورات أصحاب القرار في واشنطن، تبقى المشكلة هي هي، وسط تزايد الشعور بأن الادارة الأميركية غير قادرة على الاجابة بشكل مقنع عما يمكن ان تقوم به في الخطوة التالية، باستثناء الاعلان في أفضل الأحوال، عن توسيع عقيم لمنطقة الحظر الجوي على جميع الأراضي العراقية. ولذلك، فبدلاً من ضرب العراق بشكل اعتباطي، يجدر طرح السؤال الوحيد الذي يمكن ان يكون حاسماً: ما هي التدابير التي من شأنها ان تطال مقومات الحكم العراقي وأن تلحق أقل ضرر ممكن بأهل العراق، وهم الذين توقفت حياتهم منذ جاء صدام حسين الى الرئاسة في صيف سنة 1979؟ الجواب يتلخص في رفع الغطاء الشرعي عن حكم صدام في العراق عن طريق مساءلته الجزائية. فالخرق المادي لاتفاق وقف النار يحتم نتائج مهمة في عرف المحامي: ان الطرف المستفيد من الاتفاق - هنا المجموعة الدولية، مهما كان المفهوم غامضاً - يغدو حلاً منه. وهذا يعني ان كل الاحتمالات واردة، بما فيها "السبل الضرورية كافة"، بحسب التعبير المتداول، لارغام الطرف الآخر على الامتثال. وهذا الأمر مفهوم جيداً لدى الولاياتالمتحدة، وسيتم الأخذ به بحذافيره متى أعلن الخرق المادي. لكن العمليات العسكرية التي أعدت على شكل ضرب جوّي موجع تفتقد الى الفعالية، كما تفتقد اليها سياسة العقوبات الحالية. فكلاهما مضرّ بالانسان العراقي اكثر مما هو مضرّ بصدام حسين، في حين ان الرئيس العراقي وحده مسؤول عن خرق الاتفاق. وأنّى للعراقيين البسطاء ان يكونوا مسؤولين عنه، كما يجهد الشارع العربي في تسطيره للعالم كل يوم؟ من هنا الحاجة الى اعتبار النتيجة القانونية التالية لخرق قرارات الأممالمتحدة. فالخرق المادي يحمل ايضاً في طيّه مسؤولية الطرف الذي أقدم عليه. وبعبارة أخرى، ليس كافياً للحكومة الأميركية ان تعلن، كما جاء على لسان وليم كوهين في زيارته الخليجية، ان "صدام حسين وحده مسؤول عن نتائج أعماله…"، فعلى صدام حسين ان يكون مسؤولاً قانونياً عن هذا الخرق. ولذلك كانت المساءلة الجزائية ضرورية، وهي قائمة على خليط من معالم قديمة للقانون الدولي على نسق محاكمات نورنبرغ، ومن تطورات حديثة له ادخلتها حرب الخليج الثانية، وثبتتها ظاهرة المحاكم الجزائية الدولية في يوغوسلافيا وفي رواندا. اما النتيجة المحتمة لالقاء الاتهام على صدام حسين، فتتمثل برفع الاعتراف الدولي عن أي عمل يقوم به الحكم في العراق وبضرورة مثول القيادة العراقية في هذه الحال، أمام محكمة يقيمها مجلس الأمن من قضاة محترمين، او تحال الى المحاكم الموجودة كمحكمة العدل الدولية او محكمتي يوغوسلافيا ورواندا. وطبعاً، لن يمتثل صدام حسين لاتهام قانوني او مذكرة جلب، لكن أي تدبير يقام حينئذ ضدّه - وليس ضدّ العراق ككلّ - يصبح قانونياً. فللمرة الأولى سيبرز بشكل واضح فرق في المقام، في تعاطي المجموعة الدولية مع الأزمة العراقية، بين الحاكم والمحكوم في هذا البلد المسكين، ويترجم على الفور بمنع العراقيين القريبين من الحكم من السفر الى دول العالم المتحضر. ولئلا يظن أحد ان مثل هذا التدبير طوباوي، فإن نتائج عديدة أخرى تترتب ايضاً من جراء المساءلة الجزائرية الدولية، ولا سيما الامكان المتاح أمام تقليص رقعة سيطرة النظام في البلاد، وهي الدلالة الوحيدة على الأرض لضرر يطال صدام حسين ويحرر شعبه في آن واحد. وأكثر هذه التدابير فعالية هي الاعتراف القانوني والدعم الفعلي لحكومة عراقية تقام على أية نقطة من الأرض العراقية، او حتى في المنفى. ومهما كان الوضع مأسوياً بالنسبة الى المعارضة، فهنالك منطقة واسعة في شمال العراق تنفذ أوامر صدام حسين فيها بصعوبة، وهنالك مجموعة من القياديين المعارضين في المؤتمر الوطني العراقي يتمتعون بتاريخ حقيقي في مواجهة الدكتاتورية من داخل البلاد، وقد قدّموا لقناعاتهم الديموقراطية تضحيات كثيرة بما فيها مئات الأرواح في السنة الماضية في المواجهة مع الحكم. وعلى أساس القرار 688، الذي يطلب من صدام ان يكفّ عن قمع شعبه، طوّر المؤتمر الوطني العراقي مفهوم المناطق الخالية من السلاح المدرع في شمال البلاد وجنوبها، التي يمكنهم الشروع منها، مع دعم لوجستي بسيط، في تعاون جديد مع المجموعة الدولية، وتصبح عندئذٍ القيادات المعارضة المؤتلفة في حكومة مرحلية هي المحاور الشرعي في العراق حتى تتم انتخابات حرة في البلاد. ولقد بدأ هذا الطرح يأخذ مدى أكثر جدية بفضل مبادرات حثيثة من جانب زعماء المعارضة في واشنطن. وليست الحجة ان المعارضة منقسمة كافيةً للمضي في تجاهلها. فالمعارضة العراقية متفقة على ضرورة تغيير الحكم، وستجيب باجماع لالقاء الاتهام على صدام، والمؤتمر الوطني العراقي وغيره من المجموعات قادرة على حشد مئات المتطوعين فور توفير الامكانات اللوجستية. وقد احتفظ المؤتمر، على رغم التردي في آب اغسطس 1996 في أربيل - عندما سمحت الولاياتالمتحدة لمدرعات صدام حسين ودباباته بأن تقتحم الشمال - بجهاز متنفذّ من المجندين والمناصرين على الأرض. ويشكل إلقاء التهمة على صدام حسين فرصة مهمة لرفع العقوبات عن المناطق العراقية التي يتم تحريرها من قبضة الحكومة الحالية، فيما يتيح لمناطق المعارضة المعترف بها دولياً ان تشكل مع لوقت محطة عبور للمواد الطبية والغذائية الى البلاد بأسرها. فسياسة العقوبات الحالية، بغض النظر عن المتاهات التي أدخلت بشكل استثناءات في الأطعمة والأدوية، وفي قرار النفط مقابل الغذاء، لم تفِ بغرض التضييق الحاسم على صدام حسين، لأنه يستخدم أذاها الحقيقي للعراقيين البسطاء لدفع الشفقة على العراق ككلّ، وهو ليس متضرراً منها بأي شكل من الأشكال. فكرة اتهام صدام حسين ليست جديدة، ولقد بدأت حملة دولية باسم Indict لهذا الغرض في البرلمان البريطاني في كانون الأول ديسمبر 1997، وتوبعت في الكونغرس بعد شهرين، فأخذت دعماً خطياً في مذكرة رفعها الى الادارة 396 عضواً فيه. وكلينتون وبلير كلاهما أعلنا دعمهما لپIndict، والاثنان محاميان، يجدر بهما مقاربة حملة قانونية ضارية ناتجة عن خروقات الحاكم العراقي للقرارات الدولية، بدلاً من الاقتصار على عملية ضرب جوّي أملها في النجاح ضئيل. وقد لا تمنع الحملة القانونية صدام حسين من اللجوء الى أسلحة الدمار الشامل. لكنه في هذه الحال، يكون قد تعرض لسياسة عالمية أكثر جدوى من الضرب الأعمى او من قذف العراق نووياً. وبالفعل يجدر المضي في المساءَلة الدولية الجزائية حتى إذا قبل صدام بدون شرط فتح المواقع كافة أمام المفتشين، فحاكم العراق انتهك النظام الدولي على وتيرة تجعل سجله في العالم من أسوأ السجلات منذ الحرب العالمية الثانية، بل أسوأها، من جرّاء اجرامه تجاه شعبه أولاً، وتجاه جيرانه الذين زحف عليهم مرتين في أقلّ من عقد. وفي غياب مساءلة صدام حسين القانونية وما يتفرّع عنها من دعم مشروع لحكومة عراقية بديلة، لا تبقى سوى خطة Air Force One لانهاء الأزمة. ومن المؤسف اننا وصلنا الى نقطة يمكن لهذه الخطة ان تحمل على محمل الجدّ.