يكتفي بعض المثقفين العرب والمسلمين بما يسوغه التقويم النقدي الغربي حول الإسلام والمجتمعات الإسلامية، فيقع المثقف المحلي في فخ المعنى، ويصبح أسير سلطة تزجه في مواجهات عنيفة مع مجتمعه وتدفع به نحو خلع الأحكام، فيما يسعى آخرون الى استخدام أدوات مغايرة في محاولة لتوسيع المفاهيم وضبطها وتحريرها من أوهام الفكرويّة الإيديولوجيا التي تلازمها. على أي حال، ليس من الضروري هنا أن نقوم بسرد الأسماء ومناقشة الأعمال. لكن علينا أن نشير الى تشارك بعض الكتّاب المسلمين وبعض علماء الإسلاميات في الغرب في رسم الصور التاريخية الخيالية حول الإسلام" في وقت اعتبر فيه الغربي نفسه مخلوقاً من صنع الله وإبداعه ومالكاً لوحي فريد من نوعه، ثم اعتبر نفسه سيداً للعالم وصانعاً للحضارة الوحيدة الصالحة للانتشار، الى غيره من الاعتبارات. الواضح أن الغرب اكتشف أخيراً وعلى حد قول مرسيا الياد أنه يقع على قدم المساواة مع سائر البشر الآخرين، ولم يعد وحده صانع التاريخ، لكنه بقي يعتبر في الوقت نفسه أن تاريخه هو التاريخ الكوني الجامع، وانه لا بد من تخطي التاريخ المتمحور على بعض الناس لأنه ليس إلا تاريخاً قطرياً ضيقاً. لقد ابتكر الغرب مفهوم "الحداثة" في هذا السياق وأراد أن يعبر من خلاله عن تجربته الفكرية، ورؤيته للتقدم والحضارة، وكما أراد احتكار التاريخ أراد أيضاً احتكار الفكر والتقدم، وبذلك كان يخلع على المجتمعات والحضارات الأخرى صفات مثل "البدائية" ويقدم على ابادة بعضها كما حصل مع الهنود الحمر في القارة الجديدة. ولكن ما خفي على الغرب أن إبادة شعب لا تكون إلا من الزمن، فالزمان يمر، والأجساد تموت، لكن التاريخ هو غير الزمان، فالتاريخ هو أعمال الناس ومنجزاتهم عبر زمانهم الحيّ. يمكن أن نفهم تبعاً لذلك التطلع الغربي الى ديانة عالمية، خارج التاريخ المتمحور، ديانة كونية أسطورية. ربما العولمة، فكانت العلوم والفلسفات الجديدة تعتبر جميع الأديان المعروفة، بما فيها المسيحية، غير قائمة على أساس حتى انها اعتبرت بمثابة الخطر الذي يتهدد الصعيد الثقافي. ولا وهم عندنا أن الحداثة لا تقوم على شرعية العلم والفكر والسياسة بل على مبدأ السيادة المطلقة، سيادة الغرب وتفوقه، وقد جاءت مقولة "صدام الحضارات" عاملاً محرضاً للغرب على مقاومة ورفض انبعاث الحضارات الأخرى كالإسلام، مثلاً، الذي يمتلك رؤية شاملة حول الإنسان والكون والحياة، ويبدو أنه مزاحم رئيسي للغرب في المستقبل. لطالما أقدم الغرب على تشويه صورة الإسلام خصوصاً بعدما حُصرت تفاعلاته بظواهر مقلقة، كالسياسة والدين، وربما أثارت هذه التفاعلات اهتماماً أكبر فأكبر في الغرب من أجل تطوير أدواته اللغوية لمواجهة ما أثارته تلك التفاعلات في المجتمعات الإسلامية. ما حصل هو استعادة لوجهة الصراع الحضاري الذي يخوضه الغرب في مواجهة الحضارات الأخرى، وتطوير الأدوات اللغوية عنده ليس إلا استكمالاً لمشروعه الذي يقسم العالم الى عالم "متحضر" وعالم "بدائي"، فالإرهاب الذي أطلق على المجتمعات الإسلامية، هو الوجه الآخر لمفهوم البدائي الذي أطلق على مجتمعات الهنود لتبرير ابادتها جسدياً ومن ثم ابادة تاريخها وطمس معالمها الثقافية والحضارية. هكذا تجدنا أمام مشروع يسعى الى السيطرة الكاملة" العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ويستخدم أدوات مختلفة وتأسيساً على تجربة سابقة مع ما عرف بالمجتمعات "البدائية". ولكن، هل يمكن أن يحصل لمجتمعاتنا ما حصل لتلك المجتمعات؟ الفرق بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات التي أطلق عليها صفة "البدائية" هو امتلاك المجتمعات الإسلامية لمثال عيني تاريخي في كيان جغرافي سياسي حضاري، كاد يشمل الأرض بأسرها" فهل يمكن احالة هذا المثال الى العدم؟ وهل يمكن القطع مع موروثنا؟ استرجاع المأثور في الواقع يشهد مجتمعنا استرجاعاً للمأثور الديني والفلسفي والسياسي والعلمي، في سياق اعادة احياء دور الإسلام مجدداً، ولكن كيف يجب استعادة هذا الدور؟ هل يكون بالتصادم مع الغرب؟ أم يكون على قاعدة حوار الحضارات التي أطلقها الرئيس الإيراني محمد خاتمي أخيراً؟ وهل تمثل الدعوة الخاتمية استعادة للرشدية؟ إننا أمام فلسفة تتخطى حدود الكبت، تسعى الى محاورة الآخر في العلم والإبداع والسياسة، تفرض عليه الحوار مقابل سعيه للإبادة" لقد استطاع السلطان أن يكبت الفلسفة الإسلامية ويسقطها لردح من الزمن، ويحاول الغرب اليوم كبتها مجدداً بعدما استفاقت، ولكن بأسلوبه، من خلال فرض هويته الثقافية علينا، كشرط لدمجنا في ما يعرف اليوم بالعولمة "المنظومة الدولية الجديدة" وهذا شرط يعني تغريبنا عن مأثورنا التاريخي ومثالاته العينية وتجريدنا من كل هوية. ان تخطي الخاتمية لحدود الكبت والاتجاه الى التحاور بين الفلسفي والإبداعي هو الحقل الواسع الذي لا يمكن أن يعاد فيه صوغ معرفتنا، وتقديم عقلنا الحواري الفاعل المعرفي الحر، والانتقال من مرحلة التلقي والتهجين الى مرحلة النهوض والمشاركة في اعادة صياغة التاريخ العالمي، فالعالم هو حصيلة عملية جدلية وتبادل مراسيل. * كاتب لبناني.