«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهمية التعليم ... للديموقراطية
نشر في الحياة يوم 15 - 09 - 1998

مع اقتراب بداية الألفية الثالثة يتزايد الادراك بأن النوع البشري يقف على اعتاب مرحلة جديدة لكن من دون الكثير من الاستعداد أو امعان النظر. ويعود هذا الشعور بالقلق في السنين الأخيرة من القرن العشرين، في جزء منه، الى ان نهاية الحرب الباردة لم تقد، كما كان متوقعاً، الى خفض التوتر في انحاء العالم. إذ جاءت حرب الخليج مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تلك الحرب التي ارى انها تشكل علامة رئيسية في مسيرة تاريخ العالم. أظهرت الحرب بوضوح دور الولايات المتحدة كالقوة العظمى الوحيدة، وأبرزت مدى اتساع سطوتها العسكرية والاقتصادية. وجاءت الغارات الأخيرة على السودان وأفغانستان لتعطي مثالاً صارخاً أكثر على انها الدولة التي تستطيع القيام بما يحلو لها حيثما ارادت ومتى ارادت. وظهرت نظريات كثيرة في الغرب لتوضيح ما سمّاه الرئيس السابق جورج بوش "النظام العالمي الجديد"، وتمتع البعض منها، كل على حدة، بفترة قصيرة من الرواج قبل ان تختفي تباعاً، فيما أثار القسم الآخر المخاوف بتنبؤه بعالم تزيد فيه المشاكل واعمال العنف على كل ما عرفنا من قبل. من هذه النظريات مقولة فوكوياما عن "نهاية التاريخ"، التي شاعت سنة او سنتين قبل ان تتلاشى مثل الدخان. ثم دخل الى الحلبة صموئيل هنتنغتون بمقولة "صراع الحضارات" التي تبدو أيضاً في طريقها الى النسيان، بعدما أثار المخاوف من الخطر على الغرب، بكل ما يفترض له من فرادة وتفوق تقني وروحي واخلاقي، من الحضارات الأخرى، واخطرها الاسلام والكونفوشيوسية. ويشترك هنتنغتون وفوكوياما في الايمان بتفوق انجازات الغرب على كل ما سواها، وايضاً في محاولة الاثنين الحفاظ على نقيضة "نحن وهم" التي سادت اثناء الحرب الباردة ولكن مع تكييفها لملائمة الوضع الحالي.
من السخف طبعاً عدم الاعتراف بوجود صراعات ثقافية او حضارية وما يبدو من تصاعدها منذ نهاية الحرب الباردة. ويكفي تذكر تلك القائمة الدموية من الأمكنة التي دارت وتدور فيها هذه الصراعات ليبرز فشل الحلول التقسيمية من جهة مثلما في يوغوسلافيا السابقة وفلسطين، ومن الثانية المبالغات التي فات عليها الزمن الى حد ما عن توحيد العالم من خلال "العولمة". المشكلة كما يبدو هي أن العالم يمر بمرحلة يتراجع فيها التجانس ويتزايد التنافر والتعددية، وتبدأ اصوات طال كبتها بالارتفاع مطالبة الآخرين بالاستماع اليها. واذا كان لتلك الأصوات عموماً الحق في ذلك فإن المشكلة الصعبة تبدأ عندما نطرح السؤال: "ما هو السبب الداعي للاصغاء اليها، وباسم ماذا تتكلم"؟ ونجد الآن أن بلدانا في اوروبا الغربية مثل فرنسا وبريطانيا والمانيا وعدداً من الدول الاسكندينافية تجد في مجتمعاتها، للمرة الأولى في تاريخها، جاليات من المهاجرين غير الاوروبيين. ولا بد لهذه الدول ان تكتشف الآن ان ليس لثقافة او حضارة او أمة تستطيع حقيقة ان تعمل بموجب التفريق ما بين "الصفاء" الحضاري واللاصفاء او الهجنة الحضارية، اذ لم يكن في العالم أبداً، ولن يكون، حضارة او ثقافة معزولة عن الثقافات او الحضارات الأخرى. ولا بد لكل محاولة لعزل الحضارات عن بعضها كل في صندوقه المغلق، مثلما يفعل هنتنغتون، أن تأتي بالضرر الى ما في الحضارات من تنوع وتفاوت وتعقيد في العناصر، أي بالتالي كل ما فيها جذرياً من الهجنة. من هنا يبدو أننا نعيش مرحلة اصبح فيها تعريف الحضارة أو المجتمع قضية بالغة التفجر والاثارة للخلاف. وهذا بالتأكيد ما يحصل حاليا في العالم الاسلامي، حيث يدور من المغرب الى ايران نقاش حيوي واسع عن معنى الاسلام وكيفية تفسيره وما هو السبيل الذي يسلكه حالياً. لكن نجد ان الغرب يغفل كل هذا، اذ تستمر فيه هيمنة النظرة الاستشراقية التقليدية التي تطمس حركية الحضارات وتنوع الحضارات. ولا يبقى بعد هذا سوى تصور للاسلام كحضارة هامدة وقعت الآن في قبضة قاسية هي الاصولية - وهو أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة.
يدور نقاش مشابه الى حد كبير في الولايات المتحدة، وهي بلاد تشكلت ولا تزال تتشكل من جاليات مهاجرة قضت على السكان الأصليين، الذين أبيدوا تقريباً وسلبت أراضيهم فيما وضعت البقايا في معازل. من اعراض العلة الحالية في الولايات المتحدة النقاش حول التصورات المختلفة لأميركا التي طرأت عليها دوماً الكثير من التحولات واحياناً التغيرات الجذرية.
اتذكر في صباي ان افلام الغرب الأميركي كانت دوماً تظهر الأميركيين الأصليين، أو "الهنود الحمر" كما كانت تسميهم، على انهم شياطين لا يعرفون سوى الشر ولا علاج لهم سوى القتل او الترويض. واذا كان لهم في تلك الافلام، او حتى في الدراسات الأكاديمية، من دور في الثقافة الأميركية فهو دور النقيض او المعادي لتقدم حضارة البيض. أما اليوم فقد تغيرت الصورة تماماً، اذا ينظر الى الأميركيين الأصليين على انهم ضحية توسع اميركا نحو الغرب وليس الأشرار الذين أعاقوا ذلك التقدم. كما طال التغير موقع كولومبوس نفسه من التاريخ. فيما شهدت النظرة الى الأميركيين الافريقيين والنساء تغيراً اكثر جذرية حتى من هذا. ولاحظت القصصية الأميركية الأفريقية توني موريسون، الحائزة على جائزة نوبل للأدب، هوس الأدب الأميركي الكلاسيكي باللون الأبيض، كما في رواية هيرمان ميلفيل الشهيرة "موبي ديك"، و"آرثر غوردن بيم" لادغار الن بو . وتعتبر موريسون ان المؤلفين الأميركيين الرئيسيين في القرنين الماضي والحالي، الذين انتجوا ما نعتبره اليوم الأدب الأميركي الكلاسيكي، وكلهم من الذكور البيض، قاموا بعملهم الابداعي عن طريق استعمال البياض وسيلة لتجنب واخفاء وجود السود في مجتمعنا. ويمكن القول ان ألمعية اعمال موريسون الابداعية والنقدية والنجاح الكبير الذي تحرزه يشهدان بذاتهما على مدى التغير من عالم ميلفيل وهيمنغواي الى عالم الكتاب السود مثل و. ي. دوبوا وجيمس بولدوين ولانغستون هيوز وتوني موريسون. ما هي، اذن، أميركا "الحقيقية"، ومن يحق له تمثيلها وتحديد صفاتها؟ انه سؤال معقد عميق الأهمية، لكن لا يمكن اختزال الجواب عليه بحفنة من الكليشيهات.
هناك نقاش مشابه في العالم الاسلامي اليوم، لكن وسائل الاعلام الغربية تطمسه في غالب الأحيان في موجة الهستيريا المستمرة حول "الخطر الاسلامي" و"الاصولية الاسلامية" والارهاب. ان الاسلام، مثل الحضارات العالمية الرئيسية الأخرى، ينطوي على تنوع مذهل في التيارات والتيارات المعاكسة، لكن غالبية المستشرقين الغربيين التي تنظر الى الاسلام نظرة الخوف والعداء لا ترى الكثير من هذه التيارات، كما لا يراها الصحافيون الغربيون الذين لا يعرفون اللغات والتواريخ المتعلقة بالموضوع، مكتفين باجترار الوصفات العدائية الجاهزة التي استمرت في الغرب منذ القرن العاشر للميلاد. وها هي ايران اليوم - خصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة - تخوض نقاشاً نشيطاً حول القانون والحرية والمسؤولية الشخصية والتقاليد، لكن لا نجد له اثراً في صحافة الغرب. وهناك محاضرون ومثقفون لامعون - من داخل المؤسسة الدينية وخارجها - يستمرون على أسلوب علي شريعتي في التحدي الجريء لمراكز السلطة والفكر المحافظ، ويتمتعون في ذلك كما يبدو بشعبية كبيرة. وبرزت في مصر قضيتان تمثلان تدخلاً فجاً من متشددين دينيين ضد سينمائي وباحث، انتصر فيها الأول فيما خسر الثاني أقصد قضيتي المخرج يوسف شاهين والباحث حامد نصر ابو زيد. وكنت أوضحت في كتاب اصدرته اخيراً "سياسات السلب"، 1994 ان ما يشهده العالم الاسلامي من التحديات الكبيرة التي توجهها المعارضة العلمانية، وتتخذ شكل صراعات حول تفسير الشريعة والسنة في قضايا القانون والسلوك الشخصي واتخاذ القرار السياسي وغير ذلك، يفوق بكثير ما تسميه الصحافة الغربية، بتبسيطاتها الساذجة، الفورة الاصولية.
الثقافة الرسمية هي ثقافة الكهنوت والأكاديميين والدولة، التي تقدم تعريفات للوطنية والولاء والحدود وما اسميته مرة الانتماء. هذه الثقافة الرسمية هي التي تتكلم باسم المجموع وتحاول التعبير عن الارادة العامة والقيم السائدة، والتاريخ في صورته الرسمية، والنصوص المؤسِسة والأشخاص المؤسسين، ونخبة الأبطال والمجموعة المناقضة من الأشرار الخ، وتبقي خارج التاريخ كل ما هو اجنبي او مختلف او مكروه. كما تحدد الثقافة الرسمية ما يمكن ان يقال أو لا يقال، وما يباح او يحرم، وغير ذلك من العناصر التي لا غنى عنها لأي حضارة اذا كان لها ان تديم سلطتها.
لكن من الصحيح ايضاً ان هناك، اضافة الى الثقافة الرسمية أو السائدة ثقافات بديلة لا رسمية خارجة على السائد ومعادية لروحية التسلط. ويمكن تسمية هذه الثقافة المضادة، اي تلك التشكيلة من الممارسات التي تسم مختلف مجموعات المهمشين، مثل الفقراء والمهاجرين والبوهيميين الفنييين والعمال والثائرين والفنانيين.
المؤسف ان كل انظمة التعليم المعروفة اليوم لا تزال، ضمناً او صراحة، تقوم على الاعتبار بالقومية. وهذا الى حد ما من ضرورات اللغة والسياق والوجود الفعلي: مثلاً، اذا كنت فرنسياً عليك تعلم لغتك الوطنية وتاريخ بلادك وفهم مجتمعها لكي تستطيع العيش فيها. وفي المجتمعات الاقل ليبرالية هناك اصرار اكثر على تلقين الناشئة ان لغتهم وثقافتهم هي الأرفع، ما يعني تلقائياً ان الآخرين اقل أهمية او انهم غرباء وغير مرغوب فيهم الى درجة تجعلهم "الآخر" الكريه.
كان بودي القول ان بعض المشاريع التي قدمت اخيراً عن التعليم والتنمية الثقافية تثير الحماسة، لكن المؤسف انها ليست كذلك. خذ مثلاً "تقرير الهيئة العالمية عن الثقافة والتنمية"، الذي جاء بعنوان "تنوعنا الخلاق" وصدر عن "اونيسكو" في 1995، وهو مؤلف تتماشى ضخامته مع حجم حسن النية التي يعبر عنها. المشرفون على اعداد التقرير ومؤلفوه مجموعة لامعة من النساء والرجال، بينهم عدد من الحائزين على جائزة نوبل، وكلهم من كبار العلماء والشعراء ومنظري الاجتماع. عنوان التقرير يتماشى تماماً مع تركيز العمل على التعددية والتنوع الثقافي والابداعية في التعليم. واعتبر معدّو التقرير ان التنمية ليست فقط اقتصادية بل انسانية وثقافية ايضاً، وعليها ان تصل بمجالات الفن والثقافة الى مستوياتها الأعلى. قائمة المواضيع التي عالجها التقرير شاملة: ضرورة نظام اخلاقي جديد للعالم، التزام التعددية، الابداع والتمكين، التحديات التي يأتي بها الانتشار العالمي لوسائل الاعلام، الجنس والثقافة، الأطفال واليافعون، الارث الثقافي والتنمية، الثقافة والبيئة، اعادة النظر في سياسات الثقافة. ونجد عند قراءة الصفحات الثلاثمئة التي يتكون منها التقرير اننا نوافق على كل ما يُطرح: نعم، علينا الاهتمام بالتعددية والتنوع، نعم علينا اخذ الجنس، أي في الدرجة الأولى موقع المرأة في الثقافة، في الاعتبار، والعمل من اجل التكافؤ في الفرص، وادراك استحالة الممارسة الثقافية الصحيحة في بيئة طبيعية متزايدة التردي... ويدعو التقرير الى اعتماد الموارد والتفكير الخلاق وروحية المشاركة والابداع والتحرر. كل هذا ممتاز، لكنه لا يتجاوز نوعية تفكير اللجان الدولية الحسنة النية التي تهدف تقاريرها في النهاية الى التوصل الى الاتفاق والتراضي، وليس التفكير الجذري الحقيقي.
ما ينقص التقرير، كما ارى، هو ذلك البعد الجوهري بالنسبة الى الديموقراطية، أي دور التعليم في تمكين الافراد من التفكير لأنفسهم، أي التفكير المضاد للخط السلطوي والمحافظ، التفكير ليس مستنداً الى مفاهيم الخضوع والموافقة بل التشكك والمعارضة. أما الهيئة العالمية للثقافة والتنمية فترى الحضارة في منظور ينحصر تماماً بالايجابية ولا يعطي أي مجال لحيّز السلب. انه نقص خطير. ذلك ان كل ما حولنا في عصر الاتصالات التكنولوجية الهائلة هذا مصمم من اجل ضمان الموافقة ان لم يكن لاصطناعها. ومن النماذج الاقتصادية التي لا يتحداها التقرير نموذج السوق الحرة، او النموذج الرأسمالي - وكأن ليس من خيار سواه، أو ان انتصار السوق الحرة ادى فعلاً الى انهاء التاريخ كما قال فوكوياما. وهناك الآن خطر تشبع ايديولوجي يصل، على سبيل المثال، الى درجة استبعاد حيّز الفنون عندما لا يخضع للسيطرة السياسية او الاقتصادية. وبلغ من نجاح هذا النوع من التفكير الرأسمالي الجماعي انه استولى على الوعي الى درجة تحتم على التعليم كما اعتقد ان يقوم بدور الراعي لروح المقاومة وليس الطاعة، مركزاً على دور الفرد وليس الحتمية الجماعية. وإلا فكيف لنا ان نشجع طلبتنا على التمييز بين العدل والظلم، وبين الأفكار المحافظة عن الديموقراطية والديموقراطية الحقيقية التي تقوم على المشاركة في القرار؟ وقبل هذا، كيف لنا ان ننمي من خلال التعليم الادراك بأن البشر يصنعون تاريخهم بانفسهم وان التاريخ نفسه يمثل صراعاً على قضايا اخلاقية أساسية مثل القوة والسلطة والحس الاخلاقي؟ لأحاول الآن ان اقدم رأياً بديلاً عن الرأي الذي نجده في تقرير "تنوعنا الخلاّق" الذي أصدرته الهيئة العالمية.
هناك تعبير يدور في ذهني منذ سنين وجدته في مقال عن ليوناردو دافنشي كتبه أوائل القرن الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري. فقد اعتبر فاليري أن عقل دافنشي، بما فيه من قوة وتناغم، ما ان يفكر في هوّة حتى يفكر في جسر يعبرها. الهوة، مجازاً، هي كل ما يبدو لنا ثابتاً ونهائياً ومستحيل التجاوز. وفي حال دا فنشي فمهما كان عمق المشكلة امامه كانت له القدرة دوما على التفكير ببديل، أو التوصل الى حل، أي ان له موهبة عدم القبول السلبي بالوضع أمامه بل ان في امكانه دوماً تصوره في شكل مختلف قد يكون أكثر ايجابية وأملاً.
ليوناردو دافنشي بالطبع عبقري، وليس في اي حال من الاحوال انساناً عادياً، ولا يمكن مقارنة انفسنا به. لكن اعتقد ان من بين مزايا التعليم انه، اضافة الى اعطائنا المنهجية والمهارات اللازمة للتعامل مع مجالات مثل الطب او القانون او العلوم الانسانية، يقدم لنا ايضا فرصة رؤية الأمور في شكل مختلف، وان نحاول، بطريقتنا الخاصة، انشاء جسر عبر الهوة. لا اقول بالطبع ان التعليم لا يدور على تحصيل المعرفة، فهذه بالتأكيد وظيفته. لكن ارى ان في المعرفة ما يفوق كثيراً مجرد تراكم المعلومات. وقال جان بول سارتر مرة عن صديق له درس في في "ايكول بوليتكنيك"، وهي الكلية العلمية الأعظم في فرنسا: "صديقي مذهل الذكاء. انه يعرف كل شيء. لكن هذا هو كل ما يعرف!".
من أصعب مهماتي كمعلم ان اعطي طلابي كل ما اعرفه عن موضوع ما، وان احاول تفسيره بأدق وأشمل ما يمكن، ولكن ايضاً اثارة شعور بعدم الرضا ازاء وجهة نظري، او على الاقل التشكك فيها. ذلك ان من الاسهل بكثير على معلّم ان يعطي الطلبة انطباعاً بأنه المرجع الحقيقي في ما يخص ذلك العلم، من ان يوحي لهم بضرورة الحفاظ على قدر من التساؤل والتشكك في الآراء المطروحة. ان التشكك هذا ابعد ما يكون عن موقف الرفض الأعمى، بل هو الخطوة الأولى التي تتخذ لبناء جسر عبر الهوة. واذا لم تستطع اثارة هذه الروح لدى طلبتك، اي اذا لم تستطع اقناعهم بأن التعليم هو في حقيقته تعليم الذات وليس القبول غير المشروط بما تقوله المراجع، فأعتقد أنك حكمت عليهم بالعبودية الفكرية، وبالتالي الروحية.
ليس هناك ما يدعو اكثر الى الاحباط في هذا الوقت الذي نتقدم نحو الألفية الجديدة من الخنوع والمطواعية الفكريين. انظروا الى ما تقدمه الينا شاشات التلفزيون - الأخبار الموضبة مسبقاً، وبرامج النقاش المملة التي تستمر الى ما لا نهاية، وبرامج الرياضة بتغطيتها الروتينية، واخبار الاثارة الآنية التي تطمس كل شيء مثل موت ديانا. ما نراه عندما ننظر الى كل هذا هو آلية هدفها تنويم القابلية النقدية لدى الذهن، واجباره على القبول بوجود هوة خلف المشهد لا يمكن عبورها او عمل شيء تجاهها. المحزن ان الوضع حتى في اكثر المناقشات التزاما بالمستوى الأكاديمي والعلمي لا يختلف كثيراً عن هذا، حيث تسود الموضات الفكرية فيما يتوالى سيل المفاهيم المنقولة التي تجبر الغالبية على القبول بالأمر الواقع كما تفرضه هذه السلطة او تلك. ما أريده هو عكس هذا تماماً: القلق الفكري، ورفض ادعاء الفكر التقليدي او الدغمائي انه لا حقيقة غير ما يقول، ومحاولة ان تفهم الاشياء بنفسك في شكل يعني تغييرها لكي تكون اشياءك.
يمكن لكل من عانى من مرض خطير إخبارك ان اقسى ما يحمله المرض ليس فقط الألم الجسماني والحزن لما يصيب الجسم بل فقدان وضوح التفكير. وذكر ارنست جونز، كاتب سيرة سيغموند فرويد، أن مؤسس التحليل النفسي عندما اصيب بسرطان الفك وعانى أشد الالام كان يرفض أخذ الاسبرين للتخيف، خوفاً من أن تقلل ولو ذرة واحدة من حدة ذهنه. وما الذي يجعلنا نتعلق بستيفن ديدالوس، بطل رواية جيمس جويس "صورة الفنان شابا"، ان لم يكن شعاره "لن اخدم!" ؟ اي "لن اخدم كل ما لم اعد اؤمن به، سواء سمى نفسه سكني او وطني الأم او كنيستي". وما المعنى الحقيقي لعدم الايمان؟ ان لا تستطيع بعد ذلك التفكير كما يفكر الآخرون، ولا تستطيع التعايش مع الأمور كما هي.
المفارقة الاساسية في التعليم هي ان عليك ان تخدم او تخضع لسلطة - سلطة التقاليد او العلم نفسه والعلماء والباحثون الذين سبقوك، وكانوا، بمعنى من المعاني، الشرط الضروري لوجودك - لكن عليك في الوقت نفسه المحافظة على على ملكة النقد بل حتى التحدي. وماذا يضعك في موقف التحدي؟ ما الذي يمكنك من اقامة الجسر عبر الهوة التي فشل امامها الكثيرون سوى الأمل والاعتقاد بفكرة عظيمة، مثل العدالة والتحرر، وفكرة الاستنارة، وهي بالطبع ما يقودك اليه الجسر. هناك مخاطر كثيرة على الطريق: ان ينفضّ عنك الآخرون، ان تتحمل العزلة، ان يهاجمك الكثيرون. لكن تذكّر شخصية بامينا في مسرحية موتسارت "الناي السحري"، التي تغني في لحظة الخطر الأكبر عليها: "لا بدّ من قول الحقيقة، حتى لو كان ذلك جريمة".
لكن اعتقد، في التحليل النهائي، ان ليس هناك ما هو انبل من المخاطرة بالتعرض لكل هذا لكي تتمكن من بناء ذلك الجسر. ان اهم ما في المدارس والجامعات هو توفير الفرصة، لعدد من السنوات، للقيام بهذه المحاولة بعزم واصرار. وبالطبع، ربما لم ينجح المرء، لكنه سيدرك ان ما يعطي حياتنا الفكرية وممارستنا الديموقراطية قيمتها هو الجهد الدائم لايجاد الطريق، بناء الجسر بروح تتسم بخيال منطلق وروح انتقادية.
* استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.