من المهم أن تكون هناك رؤية إسلامية واضحة لمجمل التحولات الحضارية التي تحدث في عالم اليوم وان ينطلق المسلمون من هذه الرؤية لصياغة ذاتهم ومستقبلهم ليس بغرض الخصومة والعداوة مع الآخر ونظريته ولكن لتأكيد الذات والهوية الحضارية للإسلام والتي تتخطى في أحيان كثيرة مساحات الفكر المطروح في الواقع الإسلامي نفسه باعتبار المنظومة الحضارية للإسلام وان الإسلام يقدم نموذجا حضاريا متكاملا وليس منقوصا للكون والحياة في مواجهة الفكر الوضعي البشري وان سلمنا بان الاجتهاد العقلي للإنسان مطلوب في ضوء المشروع الحضاري الاسلامي فان هذا العقل مرشح أيضا أن يخطئ ويصيب ومن الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها الحضارة الغربية برمتها أنها اعتمدت على العقل وحده في بنائها الحضاري ومن ثم حين طرح الإسلام نفسه على الساحة العالمية واجهه الغربيون بامتعاض وحرب شديدة ليس من منطلق صراع او خلاف الديانات ولكن من حيث الخلاف الحضاري على دور وماهية الدين في بناء الحضارة. ولئن كان هنتجتون قد طرح نظرية صراع الحضارات فان كثيرا من المفكرين والمثقفين المسلمين وقفوا لهذه النظرية وانتقدوها واعتبرها مخالفة لروح الإسلام في بناء السلم الحضاري واعتبروها رؤية غربية محدودة تؤكد انتصار الرأسمالية دون أن يكون لها عمق فلسفي يرى التغيرات الحضارية بشكل أعمق. وأن هذه النظرية تعيد صياغة نظريات تعود للقرن ال19 عبر عنها "هيغل وماركس" وتتحدث عن أن مسار التاريخ هو مسار خطي متصاعد. وترجع أزمة الحضارة الغربية إلى نسبية المعرفة الإنسانية وعجز العلم أن يحيط بكل الظواهر الطبيعية والإنسانية وأن يكون بديلا للدين، والاختلال الأخلاقي - المادي المتمثل في غياب التوازن بين القيم الأخلاقية والقيم المادية على نحو مروع يهدد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان بل ويهدد علاقة الإنسان بذاته. ثم اختلال التوازن البيئي المتمثل في ثقب الأوزون والتغييرات المناخية وخطر الإشعاعات المتزايدة. لقد ظل الغرب عاجزا عن تقديم بديل يتغلب على الأزمة الحضارية رغم الإصلاحات المستندة إلى النموذج الحداثي وهذه المحاولات لم تطرح بديلا يتحدى نموذج الحداثة الغربية، كما أنها لم تحقق للإنسان الغربي الحرية أو الأمن. وتجديد المسيحية التي حاولت التغلب على الفصل الثنائي بين الإله والطبيعة والعقل والوحي والأخلاق والنظم الاجتماعية. وفي هذا التناقض الغربي الحضاري الغربي خاصة مابين التقدم المادي والخواء الروحي طرح الاسلام نفسه بقوة باعتباره هو القادر على أن يطرح بديلا للحداثة الغربية، فصمود الإسلام أمام محاولات القضاء عليه يشير إلى قوة وتماسك الرؤية التي يقدمها للعالم وتمثل بديلا للرؤية الحضارية الغربية. فالإدراك الذاتي للإسلام من جانب المسلمين هو شرط تحقق إسلامهم، وهو ملازم للإنسان ما بقي حيا، فصمود أهل البوسنة راجع لذلك وحركات الإحياء الإسلامي هي نوع من تجديد الإدراك الذاتي بالإسلام. وهذا الإدراك هو الذي يحدد حرية الإنسان وأمنه، فالحرية في المنظور الإسلامي هي تعبير عن نضج روحي يمكن الإنسان من أن يتحكم في أنانيته الذاتية، فالحرية ليست موضوعا من موضوعات القوة بقدر ما هي موضوع للوعي بالذات ومعرفة النفس وكذلك الأمن يكمن في شخصية الإنسان ووعيه الذاتي. ينطلق النظام المعرفي الإسلامي من التوافق والاتساق بين جميع مصادر المعرفة والمبدأ الأسمى وهو "التوحيد"، ومن هنا لم يعرف الإسلام العلمانية التي هي تعبير عن عجز المؤسسة الدينية للإجابة عن أسئلة الواقع المتجددة، والعقل والاجتهاد يعملان بكل قوة ولكن في سياق الوحي الضابط لاحتمال سوء الاستخدام. وينطلق النموذج الإسلامي من جعل القيم حاكمة على الواقع ومؤسساته فهي مطلقة ومتجاوزة للزمان والمكان، ولذا فالنظريات الاجتماعية الإسلامية لا يمكنها أن تتجاوز القيم الإسلامية ولا أن تؤسس نماذج اجتماعية وقانونية ضدها، وهكذا تظل القيم الإسلامية هي معيار الشرعية لأي مؤسسات أو نظم أو قواعد. ويضمن النموذج الإسلامي السلام مع البيئة لأن الكون هبة الله وهو حق مشترك للجنس البشري ولذا لا بد من المحافظة علي البيئة سمة جوهرية لبقاء الكون. ويعبر النموذج الإسلامي عن الأصالة والتعددية، فتصوره للتاريخ والزمن يؤكد على الطبيعة الدائرية وليست الخطية الأحادية، ومن هنا أهمية التجديد وقدرة الحضارة الإسلامية على استعادة مكانتها، فالسيادة الحقيقية لا تنطلق من التفوق المادي وإنما من التفوق القيمي والروحي. إلا أن أزمة الأفكار والمؤسسات في العالم الإسلامي لبناء نموذج حضاري جديد تمثل العائق أمام الطرح الحضاري الإسلامي ويرجع هذا إلى انفصال النخب الفكرية العلمانية عن المرجعية الإسلامية، ومحاولة هذه النخب الحاكمة والمسيطرة فرض ثقافة جديدة مطابقة للمفاهيم الغربية وإنجاز التنمية الاقتصادية وبناء القوة العسكرية لتحقيق موقع أفضل على الساحة الدولية وفي نفس الوقت تسويغ السياسات الاحتكارية لهذه النخب في مختلف المجالات. ولكن هذه النخبة تواجه مأزقا اليوم وهناك تحول حضاري جديد أهم ما فيه أنه يستلهم المرجعية الإسلامية ويقوده جيل جديد من المسلمين ذوي التعليم العالي فكثير من قيادات الحركة الإسلامية داخل المجتمعات الإسلامية تجدهم إما مهندسين أو علماء اجتماع أو أطباء. وهناك أزمة اقتصادية حالت دون تحقيق وحدة بين دول العالم الإسلامي فحرص كل منها على الاندماج في النظام العالمي أكثر من حرصها على تحقيق الوحدة بينها وهناك أيضا أزمة سياسية متمثلة في الشرعية الشكلية المنفصلة عن منظومة القيم والميراث الاستعماري المتمثل في تكريس ميراث التجزئة المصطنعة. هذه الأزمات تحول دون تحقق الإسلام بديلا حضاريا. ومن خلال هذه الرؤية فان هناك حقيقة لا جدال فيها وهي وجود اتجاه حقيقي نحو بناء مركز مستقل عن الغرب بظهور حركات الإحياء الإسلامي وتنامي وعي متزايد لدى الجماهير الإسلامية بضرورة العودة إلى الإسلام. •أستاذ التاريخ الإسلامي