ما إن أقرّ المجلس النيابي اللبناني مشروع قانون حماية الملكية الفكرية والأدبية والفنية حتى سادت سوق بيع الأشرطة والأقراص المدمجة المقرصنة حال من الارباك، فتراجع كثر من التجار عن عقد صفقات جديدة، وبدت المحال التي تقدم هذا النوع من السلع حذرة اكثر في تعاملها مع الزبائن. لكن القانون ليس محصوراً في برامج الحاسوب التي حاول بعض النواب ممن اعترضوا على إقراره حصره فيه، علماً ان تجارة المنسوخ والمزوّر تدرّ ملايين الدولارات على أصحابها. فالقانون المحدث يحمي كل انتاجات العقل البشري سواء كانت كتابية أو تصويرية أو نحتية أو خطية أو شفهية أياً تكن قيمتها وأهميتها وغايتها وطريقة التعبير عنها أو شكله. مؤيدو القانون يعتقدون أنه خطوة على طريق استعادة سمعة لبنان الملطخة بعمليات القرصنة العلنية، فحجم التعديات على الأعمال والمصنفات الموسيقية والغنائية يفوق 85 في المئة. ويقول المستشار القانوني لجمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى العالمية ساسيم سمير ثابت ان سني الحرب شهدت قرصنة بما يوازي 20 مليون كاسيت منسوخة سنوياً من دون دفع أي حق للمؤلف والملحن. ويلجأ القراصنة الى النسخ والبيع من دون التصريح عن الكميات الحقيقية والفعلية لمبيعاتهم، علماً أنهم بدورهم يتعرضون للقرصنة والتزوير من طريق قراصنة معروفين، بعضهم صغار وآخرون كبار. وبعض القراصنة وعددهم لا يصل الى عشرة يصدّرون قسماً من انتاجهم المزوّر عبر المرافق اللبنانية الى الخارج، وتحديداً الى الخليج عبر شركات مسجلة أصولاً، ولا تستطيع الدول المستوردة تمييز الاصلي من المزور لأن لا خبرة لديها كافية لذلك. ويشير ثابت الى ان التزوير يطاول الكتّاب والشعراء وحتى المهندسين الذين تُقلّد تصاميم أعمالهم والمخترعين، ويقدّر حجم الخسائر التي يتعرض لها المؤلف والملحن والناشر بما يفوق المليوني دولار سنوياً. ويضيف المحامي في الاستئناف المتخصص في قوانين الملكية الفكرية، رئيس لجنة الملكية الأدبية والفنية لدى غرفة التجارة الدولية في لبنان وليد ناصر، ان القرصنة تشمل ايضاً الكتب مضموناً وشكلاً، والبرامج التي تبثها المحطات المتلفزة فيتم نسخها والمتاجرة بها، وهناك قطاع البث المرمّز الذي تتم قرصنته وبثه الى المنازل وتحصيل اشتراكات مالية شهرية. ويحصي نائب رئيس جمعية المعلوماتية المهنية في لبنان جلال فواز ما بين 100 و150 ألف قرص مدمج لبرامج حاسوب منسوخة تدخل لبنان، شهرياً، ويبلغ ثمن مبيعات مئة ألف قرص نحو 700 ألف دولار. وإذا كانت سوق الحاسوب في لبنان تقدّر، بحسب فواز، بما بين 150 و170 مليون دولار سنوياً، وتشمل الاجهزة والبرامج الاساسية والبرامج التطبيقية والخدمات والصيانة والاستشارة، فإن 20 مليون دولار منها يدفعها لبنان ثمن برامج أساسية أصلية ومقرصنة. ويعتقد فواز ان 10 في المئة فقط من هذا المبلغ تدفع بدل برامج أصلية والباقي بدل برامج مقرصنة، تستورد من دول آسيوية، وقليل منها يُنسخ في لبنان، لأن كلفة النسخ في الدول الآسيوية أقل منها في لبنان. ويشير المحامي ثابت الى ان قانون حماية الملكية الفكرية القديم المعمول به منذ 1924 كان يحمي حقوق المؤلفين والناشرين والملحنين، لكن صيغته وأحكامه القانونية لم تكن تأتلف مع نهاية القرن العشرين، فالقانون القديم لم يكن يعطي القضاء المستعجل في صورة صريحة إمكان اتخاذ القرار لوقف التعدي على الحقوق، بموجب استدعاء من دون خصومه. كان يقتضي تبليغ كل اللوائح والاستحضارات، وعلى سبيل المثال فإن متعهدي الحفلات وأصحاب المؤسسات السياحية كانوا يتهربون من تبلغ الدعاوى الى حين احياء الحفلات، علماً ان العقوبات التي كان يتضمنها القانون القديم تتفاوت بين ستة اشهر وسنة حبساً و500 ليرة أو ألف ليرة غرامات. كان الإعداد للقانون الجديد بدأ في 1994 في هيئة تحديث القوانين وبمبادرة من رئيسها النائب السابق أوغست باخوس الذي شكا له عدد من الفنانين سرقة اعمالهم، وأُحيل الى المجلس النيابي لتدرسه لجان العدل والتربية والاقتصاد، والأخيرتان أدخلتا عليه تعديلات أساسية واستعانت بخبير من منظمة الملكية الأدبية في جنيف، وأحيل على اللجان النيابية المشتركة، وتمت هنا الاستعانة بالمحامي ناصر لاختصاصه في قوانين الملكية الفكرية علماً انه وكيل شركة "مايكروسوفت" في لبنان لوضع المواد المتعلقة بحماية برامج الحاسوب، وأقرته اللجان وبقي في المجلس النيابي حتى إقراره في 18 آذار مارس 1999 بعد جلسة عاصفة احتج فيها النواب، نجاح واكيم ومروان فارس وتمام سلام على المادة المتعلقة بمنع النسخ لبرامج الحاسوب، معتبرين ان هذه المادة ستنعكس سلباً على طلاب الجامعات الذين ليس في مقدورهم شراء برامج أصلية، وبلغ الأمر بواكيم ان اتهم السفير الأميركي في لبنان ديفيد ساترفيلد بتدخله لإقرار المشروع لمصلحة شركة أميركية وحيدة، عقب زيارته رئيس المجلس النيابي نبيه بري عشية انعقاد الجلسة العامة. ولم تنفع الوعود التي نقلها وزير الاقتصاد ناصر السعيدي عن شركات الكومبيوتر بتأمين خفوضات وحسومات تصل الى 90 في المئة للطلاب في ثني المعارضين للمشروع عن مواقفهم. وتقدم النائب بطرس حرب باقتراح تعديل أقر على مرحلتين بعدما هدد واكيم بالطعن في التصويت الذي تم على مشروع القانون وباتت المادة المتعلقة بهذه القضية على الشكل الآتي: "لا يجوز تسجيل او نسخ برنامج الحاسب الآلي الا اذا قام بذلك الشخص الذي اجاز له صاحب حق المؤلف استعمال البرنامج، وكان ذلك من اجل صنع نسخة واحدة لاستعمالها فقط في حالة فقدان او تضرر النسخة الاصلية، ويجوز من غير موافقة المؤلف ومن غير دفع اي تعويض له نسخ او تصوير عدد محدود من نسخ البرامج في الحاسب الآلي من قبل المؤسسة التربوية الجامعية والمدرسية والمكتبات العامة التي لا تتوخى الربح، شرط ان يكون في حوزتها نسخة واحدة أصلية على الاقل، من اجل وضعها في تصرف الطلاب والجامعيين، على سبيل الاعارة المجانية، على ان تحدد شروط آلية النسخ ومواصفاتها وعدد النسخ المسموحة بموجب قرارات تطبيقية تصدر عن وزارات التربية الوطنية والتعليم العالي والتعليم المهني، كما يحق للطالب ان ينسخ او يصور نسخة واحدة لاستعماله الشخصي". هذا التعديل الذي أرضى النواب المعارضين الذين يتحدثون، كما وصفهم المتابعون لعالم الكومبيوتر، "بمنطق الصين والدول المؤيدة لعمليات النسخ والمروّجة لها"، لقي في المقابل احتجاجاً من شركات برامج الكومبيوتر التي حاولت التقليل من اضراره بالمقارنة مع خطوة اقرار القانون ككل. المؤيدون للتعديل يعتقدون ان "المغريات التي قدمتها شركات برامج الكومبيوتر لجهة الخفوضات على أسعار البرامج لا تقارن بالأرباح التي ستجنيها من المؤسسات والشركات". ويعتبرون ان "شركة "مايكروسوفت" هي الرابح الأكبر في هذه السوق لأن معظم المؤسسات في لبنان تعتمد أجهزة هذه الشركة، وبالتالي فإنها مضطرة الى شراء برامجها التي تخضع سنوياً لتطويرات تُبقي المستهلكين في حال شراء دائمة لمنتوجاتها". ويرى هؤلاء ان "الخسائر التي سيتكبدها الاقتصاد المحلي ستكون كبيرة كونه قائماً على المنطقة الرمادية مع القانون وخارجه وانتقال هذا الاقتصاد الى المنطقة البيضاء سيشكل ضربة قاضية له وللمستهلكين الافراد". فهل يفتي التعديل الذي أدخل على القانون ان الدولة تبنت منطق إباحة القرصنة والسرقة؟ يقول المحامي ناصر ان "التعديل ليس واضحاً وغير دقيق وستنتج عنه اشكالات كثيرة عند التطبيق". ويسأل "هل يعني التعديل الذي ادخل ان النسخ سيتم عن برامج موجودة داخل الحاسوب أم عن قرص مدمج؟ ومن الذي يحق له ان ينسخ؟ وجملة "التي لا تتوخى الربح" لمن تعود؟ خصوصاً ان واو العطف شملت "المؤسسة التربوية الجامعية والمدرسية والمكتبات العامة"؟ ومن هي المؤسسة التربوية؟ هل هي المعتمدة من قبل الدولة اللبنانية أم غيرها، وما معنى "وضعها في تصرف الجامعيين على سبيل الإعارة المجانية". ويوضح ناصر ان "برنامج الكومبيوتر ليس كتاباً، فلا يمكن استعماله الا اذا وضع على حاسوب، ومتى وضع البرنامج على الحاسوب يُصبح جزءاً منه فتنتفي الإعارة". ويسأل هل التعديل الثاني الذي ينص على "كما يحق للطالب ان ينسخ.."، مكمل للتعديل السابق أم منفصل عنه؟ فإذا كان مكملاً معنى ذلك انه اذا كان لدى الجامعة برنامج ونسخت عنه نسخاً عدة، يحق للطالب ان يستعيد نسخة ومعنى ذلك انه يحق له صنع نسخة والاحتفاظ بها في البيت، وهنا ايضاً بطلت الإعارة وأصبح الفعل فعل نسخ، وهنا يقع التناقض في القانون. اما اذا لم يربط هذا التعديل بالذي سبقه، فقد يُفسر ان لدى الطالب نسخة أصلية وصنع نسخة عنها، صحيح ان القانون يسمح بذلك، انما لا يبيح له ان يعطيها لشخص آخر مما سيؤدي الى صعوبة في التعقب". ويعتقد ناصر ان للتعديل انعكاسات سلبية على مستوى القانون الدولي، "فالتعديل سمح لمؤسسات تربوية ومكتبات عامة صنع نسخ عن نسخة أصلية، ما يعني ان القانون سمح لها بالاعتداء على حق المؤلف من دون تعويض، علماً ان المؤلف لا يسمح للجامعة بنسخ البرنامج، لكن التعديل الذي ادخل على القانون سمح لها بذلك". ويقول: "المعلوم ان معاهدة برن التي انضم لبنان اليها، أخيراً، لا تجيز لأي شخص يمتلك نسخة أصلية عن عمل أدبي ان ينسخه، من دون إذن المؤلف، وهذا يعني ان النسخة اذا ارسلت خارج لبنان تمنع لأن ذلك يتعارض مع المعاهدة الدولية، حتى لو سمح بذلك قانون لبناني. وتجدر الاشارة، في حال حصل اختلاف بين القانون الداخلي والمعاهدة الدولية، الى ان الاخيرة هي الاقوى. ويضيف ان "لبنان سيصطدم ايضاً باتفاقية "حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة" TRIPS فهو يسعى الى الانضمام الى منظمة التجارة الدولية، ومن شروط ذلك ان تكون قوانين البلد متماشية مع احكام الاتفاقية المذكورة، وتفرض المادة العاشرة فيها حماية برامج الحاسوب. فإذا بالتعديل الذي ادخل على القانون ينسف هذه الحماية، وسيحول بالتالي دون انضمام لبنان الى المنظمة بصفة عضو دائم، علماً ان على لبنان ايضاً ان يعدل قانونين لديه منذ العام 1924 ويتعلقان ببراءات الاختراع والعلامات التجارية لدخول المنظمة". ويرفض ناصر اتهام شركة "مايكروسوفت" بالسعي الى احتكار السوق اللبنانية "لأن القانون سيتيح لشركات كثيرة دخول السوق بعدما امتنعت عن ذلك بسبب غياب القانون الذي يحميها وبسبب النسخ الذي يغزو السوق اللبنانية ويطاول برامجها"، مع اعترافه بحجم شركة "مايكروسوفت" وقدراتها. ويضيف: "على رغم الثغرة التي أُوجدت في القانون، لا يزال الأفضل في المنطقة العربية لجهة مدة الحماية التي يمنحها والتي تصل الى خمسين سنة، في حين انها في الدول الاخرى لا تتعدى ال25، ولجهة العقوبات الصارمة التي تصل الى ثلاث سنوات سجناً والى 50 مليون ليرة غرامة، فضلاً عن الفصل المتعلق بالحقوق المجاورة التي لم تكن واردة في القانون القديم، والتي تحمي منتجي التسجيلات السمعية، وشركات البث التلفزيوني والإذاعي، ودور النشر والفنانين المؤدين، كالممثلين والعازفين والمطربين وأعضاء الجوقات الموسيقية والراقصين، وفناني مسرح الدمى المتحركة أو فناني السيرك". ويقلل جلال فواز من إمكان حصول سوق سوداء في مجال البرامج المقرصنة: "ففي كل بلدان العالم هناك قرصنة مخفية، تصل في الولاياتالمتحدة الى ما نسبته 30 في المئة من البرامج المتداولة". ويعتقد ان "الاموال التي تُدفع لشراء البرامج المزورة ستتجه نحو شراء البرامج الأصلية، وسيكون الفارق بين صرف الاموال بطريقة صحيحة او غير صحيحة". فهو يرى ان "تدني سعر البرنامج المنسوخ الى مئة دولار في مقابل ثلاثة آلاف دولار للبرنامج الأصلي يغرّي بشراء اكثر من برنامج، من دون توظيف هذه البرامج في الاتجاه الصحيح، في حين ان شراء البرنامج الاصلي سيدفع الشاري الى التفكير في مدى حاجته اليه، اما بالنسبة الى المؤسسات والشركات فمن غير المنطقي ان تكون عاجزة عن شراء البرامج الأصلية". هل يعني ان الطالب سيكون وحده الضحية؟ يقول رئيس دائرة هندسة الكومبيوتر والكهرباء في كلية الهندسة والعمارة في الجامعة الأميركية في بيروت البروفسور حسان دياب ان "طلاب هذا الاختصاص هم من اكثر الطلاب حاجة الى برامج الكومبيوتر على مدى سنوات التخصص الاربع، وتؤمن هذه الحاجة اما بواسطة الجامعة التي تشتري برامج أصلية مع ترخيص يبيح لها استخدام البرنامج على 40 جهاز حاسوب، وأما بواسطة الطالب الذي يؤمن برامجه من خارج الجامعة، وقد يلجأ الى البرامج المنسوخة لتدني كلفتها، علماً اننا في الجامعة نمنع الطالب من استخدام برنامجه هذا على اجهزتها، ولا نسمح بإعارته برنامجاً من الجامعة لاستخدامه خارج الحرم الجامعي لأنه قد يعطيه لشركة او مؤسسة وبالتالي نكون خالفنا الترخيص المعطى لنا". ويشير الى ان "الجامعات تحصل عادة على حسومات على البرامج التي تشتريها من الشركات، فلم لا يحصل الطالب على حسومات قد تصل الى 90 في المئة فطالب اليوم زبون الغد، ولا تتوانى هذه الشركات عن تأمين دورات تدريبية للطلاب في مؤسسات تبيعها برامجها، وهي تقدم الى هذه المؤسسات خفوضات على مشترياتها من البرامج في مقابل القبول باستضافة دورات التدريب". ويعتقد دياب ان "الطالب يشتري نوعين من البرامج، ما له علاقة بدراسته، وآخر لا علاقة له بها، وحين يطبق قانون حماية الملكية فإن الطالب سيمتنع عن شراء البرامج "الأخرى"، وإذا عجز عن شراء البرامج المتعلقة بدراسته فإنه يعلم ان الجامعة توفرها له من دون ان نسقط من الاعتبار ما يوفره ال "أنترنت" من برامج مجانية للطلاب". شركة "مايكروسوفت" تنفي حصول اي صفقة بينها وبين الدولة اللبنانية لتمرير قانون قيل انه صُنع على قياسها، والمعنيون بحماية الملكية يصرون على ان القانون خطوة على طريق تغيير سمعة لبنان السيئة في الخارج، مقللين من حاجة بيل غيتس صاحب "مايكروسوفت" الى لبنان لزيادة ثروته. وتبقى العبرة في تنفيذ القانون، في ضوء معرفة الدولة التامة بمروجي البضائع المقرصنة لأنها تعبر الى الداخل، بعد موافقة الجمارك عليها ومعرفة المؤسسات التي تنادي بحماية حقوقها بسالبي هذه الحقوق معرفة تشبه التواطؤ.