غلبة الطبع على التطبع ظهرت بجلاء في روسيا بعد الغارات الأطلسية على يوغوسلافيا. فقد بينت الاستطلاعات ان زهاء 70 في المئة من المواطنين يحمّلون الولاياتالمتحدة مسؤولية الأزمة البلقانية ولا يخفون مشاعر العداء لها. وكره أميركا ظاهرة لم تكن معروفة في روسيا القيصرية، بل ان الولاياتالمتحدة ظلت حتى في العهد السوفياتي خارج "القوس الامبريالي" وحظي رئيسها فرانكلين روزفلت بموقع خاص لم يفرد لأحد من نظرائه الغربيين الذين كان الاعلام السوفياتي يظهرهم وحوشاً بليدة متعطشة للدماء، فيما ظل الرئيس الأميركي المقعد رمزاً ل "حيز الخير في دائرة الشر". إلا أن الصورة تغيرت بعد تولي هاري ترومان الرئاسة وبالأخص اثر قراره القاء القنبلة النووية على هيروشيما، وهو قرار - رسالة موجهة الى القطب الجديد الناشئ في العالم. ومنذ اندلاع الحرب الباردة في أواخر الأربعينات صار المواطن السوفياتي "يرضع" العداء لأميركا ويعتبر واشنطن أصل البلاء. ووضعت البيريسترويكا رتوشاً على الصورة من دون أن تلغيها نهائياً، إلا أن العهد ما بعد السوفياتي شهد مداً قوياً موالياً لأميركا على صعيد النخب الحاكمة وعلى مستوى الشارع الذي عقد الآمال على أن تكون الولاياتالمتحدة منقذاً لا يطالب بثمن. إلا أن الشكوك بدأت تساور الروس حينما امتنعت أميركا عن فتح الخزانات وسارعت الى ملء الفراغ الجيوسياسي في العالم وأوروبا وحتى في الفضاء ما بعد السوفياتي، واستمرت في وضع قيود على الصادرات الروسية خصوصاً الأسلحة، بل فرضت عقوبات على مؤسسات اتهمت بالتعاطي مع ايران وسورية. وكانت الحرب البلقانية "القشة" التي قصمت ظهر الود السابق واعتبرها الروس اهانة لدولتهم، اضافة الى ان كثيرين من الساسة والمحللين يرون ان يوغوسلافيا هي محك لاختبار نظرية جيوسياسية جديدة، تمهيداً لتطويق روسيا بحزام أطلسي ومن ثم وضعها أمام خيارين: اما الرضوخ الكامل للإرادة الأميركية أو التعرض لضربات أشد وأقسى مما وجه لحليفتها البلقانية وتفتيتها على غرار ما جرى في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا. وإذا كانت المعلومات متناقضة في شأن الخسائر التي أوقعتها الغارات بالقوات الصربية، فالمؤكد ان الصواريخ أصابت أهدافاً داخل روسيا، وزعزعت مواقع القوى الحليفة للولايات المتحدة، تحديداً الرئيس بوريس يلتسن الذي لم يعد بوسعه ان يردد عبارته الأثيرة عن "الصديق الصدوق بيل" كلما ورد ذكر لنظيره الأميركي. ولعل من اخطر علامات تغلب الطبع على التطبع ان الكره لأميركا صار ظاهرة شملت فئات واسعة ابتداء من المثقفين الذين كانوا يعتبرون النموذج الأميركي قدوة ومثالاً، وانتهاء بالشباب من "جيل البيبسي كولا" الذي أخذ يكتب على الجدران شعارات "الموت لميكي ماوس". والأرجح ان النفور من السوبرمان العالمي الجديد سيتعاظم في روسيا وينفخ روحاً جديدة في الذهنية التي عملت الدعاية السوفياتية على تكوينها خلال أربعة عقود.