لو كانت الولاياتالمتحدة بلا خطيئة لأحجم كثيرون عن التشكيك في نياتها من وراء إلقاء الحجارة الصاروخية على نظام مىلوشيفيتش. إلا ان البيت الأميركي من زجاج، وواشنطن برهنت غير مرة على ان الاخلاق وحماية حقوق الاقليات تأتي في آخر سلم اهتماماتها. اذ ان الادارة الاميركية كانت امام خيارات عديدة مماثلة للوضع البلقاني لكنها امتنعت عن حشد الأساطيل الجوية والبحرية لمنع الأتراك من إبادة الشعب الكردي، أو لثني الصقور الاسرائيليين عن تدمير بيوت الفلسطينيين وتهجيرهم. وسكتت واشنطن عن إبادة شاملة للشعب الشيشاني لتمسكها بحليفها الروسي بوريس يلتسن الذي ارتكب مجازر تتضاءل ازاءها حملات التطهير العرقي في كوسوفو، وإن كانت مآسي البشر لا تقاس بالأعداد. وموقف الكرملين ايضاً لا ينطلق من اخلاقيات عالية أو رغبة في حماية "الأشقاء السلافيين" بمقدار ما هو تجسيد لمخاوف من تحجيم دور روسيا عالمياً واقليمياً، وإقالة للنظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وتمثل في ولادة هيئة الأمم وجعلها المرجع والحكم الأعلى في العلاقات الدولية. ويدرك الطرفان ان الغارات على يوغوسلافيا لا تهدف الى مساندة الحق المشروع للألبان، بمقدار ما هي محاولة لدق المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفياتي وتكريس هيمنة القطب الأوحد. وضمن هذه القراءة كانت استدارة طائرة يفغيني بريماكوف فوق الأطلسي رمزاً لتحول جدي وانعطاف من الانبطاح والرضوخ الكامل الى التمرد والمقاومة. وغالباً ما يردد الساسة الروس سؤالاً تقريرياً هو "العراق والسودان وافغانستان والآن يوغوسلافيا، فمن التالي؟" والجواب لا يحتاج الى فك طلاسم معقدة، اذ هناك في الفضاء ما بعد السوفياتي بؤر ساخنة جاهزة للانفجار، وفيها الكثير من المقومات "الكوسوفية" مثل القوقاز ومولدوفا وقره باخ وابخازيا. وأحدثت الغارات في البلقان ما يشبه ثقب الأوزون الذي أخذ يبتلع بسرعة كل منجزات مرحلة ما بعد الحرب الباردة وعادت "صورة العدو" الى الواجهة. واتضح ان كل التحولات في ذهنية المواطن الروسي كانت فوقية ولم تغير كثيراً في الطبقات السفلى للوعي القومي. واللافت ان التظاهرات الصاخبة عند مبنى السفارة الاميركية في موسكو جمعت الى جانب المتقاعدين من "محترفي" العداء لواشنطن كثيراً من الوجوه الشابة. وفي القوات المسلحة ابدى الجنرالات والضباط ارتياحهم لأن "الخصم" صار واضحاً بعدما كان هلامياً خلال السنوات الأخيرة. وموجة العداء للاميركيين قد تسفر عن فوز ساحق للقوى القومية واليسارية في الانتخابات البرلمانية الروسية المقبلة، وسيكون ذلك من أهم "الأهداف" التي حققتها الغارات الاطلسية، الى جانب انها أبعدت عن الرئيس بوريس يلتسن خطر حجب الثقة الذي بدأ يتحول شبحاً مرعباً للكرملين. لكن موسكو التي اعتادت الاستكانة وابتلاع المهانات حرمت نفسها من القدرة على الرد الفعلي، اضافة الى ان تورطها بالدفاع عن بلغراد سىؤدي الى احراجها وخلق مشاكل مع الأطراف القومية. لذلك يبدو الموقف الروسي اقرب الى الارتباك والحيرة، فموسكو اليوم لا يمكن ان تحرك قطعات بحرية نحو الادرياتيكي أو تنفذ طلعات استعراضية فوق الاطلسي كما كان سيفعل الاتحاد السوفياتي، بل ان ردودها تقتصر على المبارزات الكلامية وتهشيم نوافذ السفارة الاميركية... وانتظار غزو بري ليوغوسلافيا يجر واشنطن الى مستنقع شبيه بفيتنام، ويكفي الروس شرور التورط المباشر بالمعركة