بعد إسقاط الصرب طائرة الشبح الأميركية العملاقة، دخلت الأزمة بين حلف الأطلسي وهذا البلد المدعوم من روسياوالصين وقوى يسارية أخرى منعطفاً هاماً، استدعى اختصار المرحلة الأولى من الحرب القصف الجوي لوسائل الدفاع الجوي الصربية ومباشرة المرحلة الثانية التي حددها وزير دفاع الولاياتالمتحدة وليم كوهن وزير دفاع الولاياتالمتحدة، وهي ضرب المراكز العسكرية الصربية وتدمير الجيش الصربي في كوسوفو بغية اخراجه منها، وإلزام ميلوشيفيتش رئيس صربيا بالتوقيع على معاهدة السلام التي اقترحها الحلف في رامبوييه ووقعها ألبان كوسوفو. فلماذا نشبت الحرب واتسع نطاقها؟ وما هي أهداف قوى الصراع الأساسية وانعكاس النتائج - الاحتمالات على موازين القوى العالمية وعلى الساحة العربية؟ ان المتابع لاجتماعات الحلف الأطلسي وبياناته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، يعرف ان استراتيجية الحلف الذي نشأ عام 1949 قد تغيّرت بعد خمسين عاماً 1999، فقد انتقل ميثاق الأطلسي من الدفاع عن أوروبا بوجه الشيوعية الى الدفاع عن مصالح الغرب الأوروبي - الأميركي في كل أنحاء العالم. ماذا يريد حلف الأطلسي من حرب كوسوفو؟ في الأهداف المعلنة للاطلسي تحقيق حكم ذاتي لألبان كوسوفو باشراف قوات أطلسية. ويعلن أعضاء الحلف أنهم لا يستطيعون الاكتفاء بمراقبة الصراع بين صربيا القوية وألبان كوسوفو الضعفاء، فالصراع لو استمر بدون حسم أطلسي لتوسع اقليمياً في عموم منطقة البلقان. روسيا بالمرصاد، واليونان حليفة صربيا، وتركيا مع الالبان، وبلغاريا تاريخياً مع الصرب. ومن جهة أخرى فقد كانت بلاد البلقان موزعة الولاء في الحربين الأولى والثانية ما بين المانياوفرنساوروسيا. أما الأهداف الغامضة لحملة الأطلسي على صربيا، فنجتهد في كشفها لنقول: ان أميركا تفتش دائماً عن عدو مشترك لها ولأوروبا معاً، تريد تثبيت زعامتها العالمية المنفردة، تريد توجيه رسالة للعالم الاسلامي بأنها نصيرة ألبان كوسوفو المسلمين لامتصاص نقمة المسلمين عليها بسبب مظالمها الواسعة، تريد اشعار ما تبقى من دول أوروبا بأنها حامية الجميع وبأن روسيا مكبّلة، ثم اخراجها من دائرة الفعل والمبادرة. تريد أن تقول للعالم ان ميثاق الأممالمتحدة قد زال كلياً، فلا مرجعية دولية شاملة ومتوازنة، وبأن الشرعية الدولية الجديدة تنبثق من مواثيق وأنظمة الحلف الأطلسي. ان كل هذه المعاني تود أميركا تثبيتها في عقول العالم لو هي انتصرت على صربيا في اطار الأهداف المعلنة. ولكن إذا لم تنتصر واضطرت لابرام صفقة تعبّر عن تنازلات أميركية للصرب ولروسيا، فما الذي سيحدث من نتائج ترتسم فوق المسرح العالمي؟ أهداف قوى الصراع الأخرى ان الصين، التي تتزايد حدة خلافاتها مع أميركا، تؤيد الصرب من منطلق رفضها للهيمنة الأميركية، وهي اغتاظت جداً من التصرفات الأميركية بقصف العراق أخيراً وبصورة منفردة بعيداً عن قرارات مجلس الأمن. أما روسيا فانها الحليفة التاريخية والراهنة للصرب، وهي تجد نفسها أمام مأزق اضطراب علاقاتها مع العرب والعالم الاسلامي، وهذا ما تريده لها الولاياتالمتحدة الأميركية. إلا أن لروسيا حسابات أخرى: 1 - فهي تعتبر ان سقوط الاتحاد السوفياتي لا يعني سقوط روسيا كقوة عظمى أوروبية خصوصاً وأنه لا زال بيدها أسلحة نووية متقدمة ومصانع أسلحة متطورة تستطيع عن طريق تسويقها إزعاج سياسات الولاياتالمتحدة في كل أنحاء العالم. 2- ان روسيا لا تسلم "بحق الانفراد" الأميركي بالقرار العالمي فهي تتمرد في مجلس الأمن، وتتجه لاقامة حلف مع الصين وتنفتح على أوروبا الغربية والعالم الثالث مجدداً. 3- انها في الحرب الأطلسية على صربيا اليوم تتصرف كالأسد الجريح والجائع في نفس الوقت، فهي تحتاج لمساعدات البنك الدولي ولا تريد التخلي عن صربيا أو السماح بانتصار أميركي كاسح في أوروبا الشرقية. لقد رفضت انضمام حلفائها السابقين الى الحلف الأطلسي، وتعمق التحالف بين القوميين والشيوعيين في روسيا ولقد ضاق الشعب الروسي ذرعاً بالهيمنة الأميركية وبالتدخل السافر في الشؤون الداخلية الروسية. إن من مصلحة روسيا الآن اطالة أمد الصراع في البلقان، لأن ذلك سوف يجعل الأطلسي يحتاج الى تدخل روسيا مع صربيا، وهذا ما يفتح أمام موسكو أوسع الأبواب لاثبات الحضور على المسرح الدولي بعد طول تجاهل وتغييب، كما يسمح بعقد الصفقات السياسية والاقتصادية مع الأطلسي. ومع اسقاط طائرة الشبح الأميركية بأسلحة روسية، فإن سوق السلاح سيفتح على أوسع أبوابه أمام منتوجات روسيا! الخطط الأطلسية في مواجهة النهوض الروسي حسب المصادر الصحافية الأميركية الخبيرة بدوائر الحلف الأطلسي، فإن الخطط العسكرية التي أعدّها الحلف ضد صربيا، تتكون من ثلاث مراحل، الأولى، وتقضي بتدمير وحدات الدفاع الجوي اليوغوسلافية، والثانية ترمي الى ضرب المنشآت العسكرية الصربية كافة في كوسوفو بما فيها القوات الصربية المحيطة بكوسوفو، والثالثة: تنص على تدمير المنشآت الحيوية الاستراتيجية كافة في عموم صربيا يوغوسلافيا بما فيها امكانية استخدام القوات البرية الأطلسية لفرض الاستسلام الشامل على صربيا. ونلاحظ هنا ان الرئيس الأميركي بيل كلينتون أعلن في يوم اسقاط طائرة الشبح الأميركية العملاقة ان المرحلة الثانية قد بدأت وهي تدمير قوات صربية في كوسوفو، مع أن المرحلة الأولى لم تحقق كامل أهدافها، إذ أن الاعتراف الأميركي، بتاريخ 29/3/1999، بتقليص طلعات القوات الجوية الأطلسية بسبب سوء الأحوال الجوية وقوة نيران وسائل الدفاع الجوي الصربية، هو إقرار بفشل المرحلة الأولى من الخطة، وهي تدمير وسائل الدفاع الجوي التي يعترف الأطلسي بأنها لا زالت متواجدة وفعّالة. ان اسقاط "الشبح" وتقلص طلعات الأطلسي والاعتراف بحيوية الدفاع الجوي الصربي جعلت الروس يستعيدون شيئاً من المبادرة، لقد أصبحوا في حالة الدفاع المتحرك إذا جاز التعبير. لقد صرح السفير الروسي في تركيا الكسندر ليبيدوف "انه لعب بالنار، لأنه إذا اضطرت روسيا لاظهار قوتها فقد يعني ذلك يوم القيامة"، وقال "ان الهدف الرئيسي لتدخل حلف الناتو في أزمة كوسوفو هو روسيا وليس يوغوسلافيا"، وقال أيضاً "ان لدى روسيا أسلحة جديدة". وإذا كان الناطق الرسمي الروسي باسم الرئيس يلتسن قال للقناة الثالثة الفرنسية، بأنه يجب وقف الغارات فوراً قبل أي حوار، وهو يعلم باستحالة تحقيق هذا المطلب الآن، فإن زيارة رئيس الوزراء الروسي يفغيني بريماكوف لبلغراد حيث قابل الرئيس ميلوشيفيتش بتاريخ 30/3/1999، كشفت بأن الروسي لم يخطط أصلاً لحل المشكلة وفق تصورات الأطلسي، فإذا كان الروسي يقف مع صربيا برفض تواجد قوات أطلسية في كوسوفو، فكيف له أن يقنع الصرب بما يرفضه هو؟ هكذا تحولت روسيا من دور المهمش الى دور الفاعل، فأصبحت محور التحركات الدولية، حوار مع فرنسا، وساطة مع صربيا، مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، اتفاق مع الصين في مجلس الأمن. كل ذلك بهدف استنزاف الأطلسي في أوروبا ومنع أميركا من تحقيق هدفها الاستراتيجي في الحرب، وهو على ما يبدو تحويل كوسوفو الى قاعدة أميركية في البلقان تشيع الاطمئنان بين حلفائها وتوفر الدعم لدول أوروبا الشرقية المنفتحة حديثاً على الحلف الأطلسي مع احكام الطوق حول روسيا. ان تصريح الرئيس بيل كلينتون بتاريخ 30/3/1999 بأن رفض الصرب لشروط الأطلسي حكم ذاتي لكوسوفو مع تواجد عسكري أطلسي لحماية اتفاق رامبوييه، سوف يتسبب في استقلال كوسوفو عن صربيا، هو تحديداً ما يخيف الروس ويجعلهم يشككون بنوايا الأميركيين ويتهمونهم باستغلال قضية كوسوفو لأمركتها وتحويلها الى قاعدة معادية لروسيا في البلقان. وبقدر ما يصرّ الروس على وقف الغارات شرطاً لأي حوار مع الصرب، فإن الأميركيين يتشددون ويستعرضون أهم أنواع أسلحتهم في محاولة للتعويض عن آثار اسقاط طائرة الشبح... انهم يستعرضون مزايا طائرة - B.1 - والأواكس التي أقلعت الى أوروبا استعداداً للمرحلة الثالثة في اشارة واضحة الى استمرار النية في الحسم العسكري. والمرحلة الثالثة هي أخطر المراحل ليس فقط على صربيا وعموم أوروبا، ولكن خطرها مرشح لأن يكون عامل تهديد جاد للسلام العالمي ولتطورات نوعية تعكس آثارها الواسعة في الساحة الدولية. فهل يسمح الروس بانتقال الأطلسي الى المرحلة الثالثة وتدمير المراكز الحيوية في عموم صربيا؟ وماذا سيفعلون إذا حدث ذلك؟ إن روسيا وهي تعمل لاطالة أمد الحرب كما أسلفنا، تراهن على فك عرى التحالف بين الأميركان والأوروبيين، وخصوصاً بين فرنساوالمانيا، وهي تعلم ان الاتحاد الأوروبي ليس من مصلحته في العمق إطالة أمد الحرب والانغماس في عملية استنزاف لموارد أوروبا على الطريقة الفيتنامية، والمغامرة باستقرار هذه القارة. فقد كان ملفتاً تصريح رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان من "ان فرنسا لا تذهب الى حيث لا تريد، ولا تريد أن تتورط في ما لا تعتبره يحقق مصلحة فرنسا". إن الترجمة الميدانية لهذا التصريح تعكس قلقاً فرنسياً من مستقبل الصراع وكأنه تمهيد لاعلان الانسحاب من الصراع عند انتقال الأطلسي الى المرحلة الثالثة وهذا هو الرهان الروسي. ثم ان روسيا الملتزمة بقانون توازن الرعب النووي منذ أيام الحرب الباردة بين المعسكرين السوفياتي والأميركي، لن تدخل بحرب مباشرة مع الأطلسي. ولكنها تستطيع إدارة صراعها مع الأميركيين بواسطة الصرب كما يحدث الآن. وما تصريح السفير الروسي في تركيا عن الأسلحة الجديدة لدى روسيا سوى مؤشر واضح في هذا الاتجاه. ومن المعروف ان شعوب بلغاريا واليونان والصرب تجمعهم روابط تاريخية عميقة، لذلك فإن روسيا تلعب على مشاعر اليونان، العضو في الحلف الأطلسي، لاضعاف رابطتها مع أميركا! إن الأميركيين مقبلون على الحسم العسكري حتى لا تفاجئهم التطورات بما فيها احتمال انسحاب عدد من دول الأطلسي الأوروبية من الصراع. واستناداً الى موازين القوى الراهنة عسكرياً فإن الأطلسي قد يستطيع الحسم العسكري لكنه لا يضمن النتائج السياسية لهذا الحسم: أ - لأن كل القوى المتضررة من الهجمة الأميركية في العالم سوف تتجمع بشكل أو آخر في اطار جبهة عالمية. ب - إن الحلف الأطلسي سوف يعاني من مشاكل داخلية نوعية خاصة إذا انسحبت بعض الدول الأوروبية قبل الانتقال الى المرحلة الثالثة من خطة ضرب صربيا. ج - ان الرأي العام الأميركي يبدو أنه غير مقتنع بجدوى هذه الحرب، والانتخابات الرئاسية على الأبواب، بعكس حالة الرأي العام أيام ضرب العراق عام 1991. ملاحظات من وهج الصراع 1- لقد تحركت كل الأحزاب الشيوعية في العالم، التي غيّرت ايديولوجيتها والتي لم تغيّر مثل الصين وكوبا، تضامناً مع صربيا ذات النظام القومي العنصري الرأسمالي! 2- وبدأت أحزاب اليسار في أوروبا الغربية احتجاجاتها على ضرب صربيا كموقف تقليدي معادٍ للهيمنة الأميركية. 3- تخشى أوروبا الغربية من انعكاسات الحرب على صربيا اذا اتسعت الدائرة. وهي ان كانت تريد تحجيم صربيا الا أنها لا تريد أن تتحول الحرب المحدودة الى استنزاف لقواها واضطراب لاقتصادها وتزايد للنفوذ الأميركي في أوروبا. 4- من مصلحة الولاياتالمتحدة الحسم السريع للحرب، لأن أميركا تخشى من تململ أوروبا وتزايد الضغوط على حكوماتها، فتنسحب تدريجاً من الحرب، فتصبح أميركا مكشوفة بموقف المنفرد المهيمن بمواجهة مراكز القوى العالمية الأخرى! 5- ان العرب والعالم الاسلامي يشعرون بضرورة معاقبة النظام القومي العنصري في صربيا، الذي فتك بأهالي البوسنة والهرسك، وهو اليوم يستأنف معارك التطهير العرقي على ألبان كوسوفو، الا أنهم لا يشعرون بالارتياح أمام تطوير عقيدة الحلف الأطلسي التي تتجاوز ميثاق الأممالمتحدة ونظامها وتضع العالم العربي تحت النفوذ الأطلسي، يتدخل أينما كان ومتى شاء! يشعر العرب بالقلق على قضاياهم المصيرية، بخاصة في فلسطين، وعلى حقوقهم في التضامن والنهضة بسبب الارتباط العنصري بين الولاياتالمتحدة واسرائيل. 6- لقد قلت عام 1990، وأكدت ذلك في كتابي "العرب والتحديات" الصادر عام 1996، انه ليس بمقدور الولاياتالمتحدة الأميركية ان تحتفظ بزمام القيادة العالمية على المديين المتوسط والبعيد لاعتبارات تتصل بحالة الاقتصاد الأميركي نفسه وبمشاكل أميركا الداخلية العرقية والاثنية، ثم بسبب التطور العام الذي نشهده في بلدان آسيا وأوروبا. وإذا كان الصراع الايديولوجي قد طبع مرحلة التنافس الأميركي - السوفياتي سابقاً، فإنه الآن توازن قاري إذا جاز التعبير أو صراع قاري بين أميركا من جهة وأوروبا وآسيا وفي قلبها الصينوروسيا. الآن أميركا في ذروة الغرور وستظل كذلك على المدى القصير، لكن في المديين المتوسط والبعيد ستصبح قوة من القوى العالمية لا أكثر ولا أقل! وهذا التطور الحتمي سيكون في صالح كل شعوب العالم الثالث وخصوصاً الأمة العربية. * رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني عميد المركز الوطني للدراسات.