لم يقرر الفلسطينيون رسمياً إعلان دولتهم في الرابع من أيار مايو المقبل، هم يتحدثون عن موعد مقدس، وتاريخ مهم وحاسم، يفصل بين مرحلتين: مرحلة المفاوضات الانتقالية، ومرحلة المفاوضات النهائية. ووفقاً لأجندة الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي، وما تتضمنه من تواريخ محددة، تفضي الى إتمام الخطوات العملية في مفاوضات المرحلة الانتقالية، فقد كان من المفترض انجاز اعادات الانتشار من الضفة الغربية، وبسط السيطرة الفلسطينية على معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967 من مدن وقرى، لكن معظم ما اتفق عليه لم ينفذ، وتتالت جداول الزمن من دون ان تجد لها تجسيداً وتنفيذاً على الأرض، بعدما أطلق رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل اسحق رابين، وقبله بزمن قصير، اسحق شامير، بأن لا "أزمنة مقدسة" في المفاوضات ومقتضيات الأمن الاسرائيلي. والى ذلك، يمكن للمتابع لشؤون المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية، ومنذ بدء تنفيذ اتفاق أوسلو، ان يلحظ وبوضوح، ان نقطة "عدم قدسية الزمان التفاوضي"، هي نقطة مشتركة ما بين "العمل" و"الليكود" وغيرهما من القوى الفاعلية الاسرائيلية، وأن تحديد الأزمنة الفعلية لتنفيذ هذا الاتفاق أو ذاك، لا تحدده سوى الاعتبارات السياسية والأمنية الاسرائيلية أولاً وقبل أي شيء آخر. وتأسيساً عليه يمكن تفسير تأكيد حكومة الليكود وقبلها "العمل" من إطالة أمد المفاوضات، وخلق المزيد من الآليات والإطارات والخطوط المتشابكة والمعقدة، في شأن استمرارها، دون تحديد مسبق لأية آفاق محتملة، وبالتالي قدرتها على تجاوز خطوط الزمن التفاوضي، دون ان يشكل هاجساً حقيقياً قد تترتب عليه نتائج سلبية على اسرائيل. وفيما إذا حاولنا قراءة الصورة السياسية، الناجمة عن مسار المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية وتجسيداتها العملية خلال السنوات الخمس الخوالي، لوجدنا ان التاكتيك الاسرائيلي القائم على جعل المفاوضات مفاوضات الزمن المفتوح، هو تكتيك مثمر ومفيد للاسرائيليين، وبالمقابل لوجدناه يحمل المزيد من النقاط السلبية للجانب الفلسطيني، ولعل أبرز تلك النقاط: تكريس مقولة "عدم قدسية الزمن" كمقولة اسرائيلية قابلة للتنفيذ، دون ان يبقى ذلك استنكاراً جدياً، خاصة من الولاياتالمتحدة كراعية للاتفاقات المعقودة. تهرب اسرائيل من تنفيذ استحقاقاتها المنصوص عليها باوسلو، والاتفاقات التالية له، وصولاً الى استهلاك الفترة الزمنية 5 سنوات، المنصوص عليها بالاتفاق، كفترة انتقالية. عدم اعتبار ما قامت به اسرائيل من استهلاك للزمن التفاوضي، عملاً انفرادياً، مقابل اعتبار النية الفلسطينية بإعلان الدولة في نهاية المرحلة الانتقالية، عملاً أحادي الجانب. تمكن الجانب الاسرائيلي من التملص من نصوص اتفاق اوسلو، والهروب منه، عبر جسر "الزمن غير المقدس" الى اتفاقات جزئية. وباختصار، حمل تكتيك مفاوضات الزمن المفتوح، والقفز عن أجندة الأزمنة، على اعتبارها أزمنة غير مقدسة، المزيد من المخاطر ومراهنات القوي على الضعيف، واحتمالات دفعه عبر سياسات الباب الدوار في أروقة المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية، الى القبول بالاشتراطات الاسرائيلية، تحت وطأة الضغوط. إزاء هذا التكتيك الاسرائيلي الخطر، تكتيك الزمن التفاوضي المفتوح، وجدت السلطة الفلسطينية نفسها أمام استحقاق تاريخي، وهو انتهاء المرحلة الانتقالية، واقتراب موعد دخول المرحلة النهائية، دون تحقيق انجازات ميدانية موعودة. وبمواجهة التكتيك الاسرائيلي ومخاطره، كان لا بد من اشهار سلاح مقابل، قادر على وضع حد عملي للتكتيك الاسرائيلي، وعدم الرضوخ للإرتهانات القائمة والمستقبلية على حد سواء. وعبر ذلك، يمكن فهم اعلان الدولة المستقلة، وقدسية تاريخ الرابع من أيار مايو المقبل. في سياق المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية، وما تحمله من تحديات تاريخية عميقة الدلالات. ولعل أبرز دلالاتها، اضافة لبعدها التكتيكي القائم على ضرورة اجهاض التكتيك الاسرائيلي، الخاص بالزمن التفاوضي المفتوح، هو ان ثمة مرحلة شارفت على الانتهاء فعلياً وعملياً، بكل ما حملته تلك المرحلة الانتقالية من نقاط سلبية وايجابية لسنا بصدد عرضها في هذا السياق، وبأن بدايات مرحلة أخرى قد أخذت بالتشكل الميداني، وهي في مجموعها وقوامها العام تشكل كياناً فلسطينياً، باعتراف وإقرار القوى الاسرائيلية كافة، ومنها الليكود. ولم تعد القوى الاسرائيلية الاساسية، تنكر هذا الوجود، لكنها تختلف وتتباين في تحديد ماهيته المستقبلية، وحدود التعامل الاسرائيلي مع أبعاده الفعلية. وعلى رغم التباعد الكبير ما بين الرؤيتين: الفلسطينية والاسرائيلية لطبيعة الكيان الفلسطيني وماهيته المستقبلية، فإن ذلك لا يعني مطلقاً، قدرة الاسرائيليين على اعادة عقارب الزمن الى الوراء، وإلغاء ما تم انجازه ميدانياً، كما وانه لا يعني بالضرورة، قدرة الفلسطينيين، استناداً على حقوقهم التاريخية ومقررات الشرعية الدولية، بسط سيادتهم على الضفة الغربية وقطاع غزة، وإقامة دولتهم المستقلة على كافة ترابهم الوطني وفق تاريخ محدد سلفاً، اذ ما يجري ميدانياً داخل أروقة المفاوضات وخارجها، هو عملية تجاذب وتنابذ شديدة الحساسية والتعقيد، يحاول كل طرف فيها تجسيد مشروعه التاريخي المتناقض مع مشروع الآخر، ويتداخل في عملية التنابذ والتجاذب تلك عوامل اقليمية دولية معقدة. وعبر ذلك، يأتي مشروع بناء الوطن الفلسطيني كمشروع تاريخي لا يمكن إقامته الا لبنة لبنة، عبر مسار شائك وشديد الخطورة. إن أبرز استحقاقات ومستلزمات ما بعد الرابع من ايار المقبل، ليس إعلان الدولة بقدر الشروع الجاد في اقامتها وبنائها، بعد خمس سنوات، من مشروع السلطة الفلسطينية ومفاوضاتها وفق اتفاق اصبح في ذمة الماضي، وبالتالي أصبح من الضرورية بمكان اعادة قراءة الحدث، عبر منظور وطني عام، بعدما وقع على "فتح" قيادة المشروع السلطوي في ظل غياب الفصائل والقوى الفلسطينية ومعارضتها المشاركة في اقامة السلطة وقيادتها. إن ما تمليه مرحلة ما بعد الرابع من أيار، هو بلورة مشروع وطني فلسطيني شامل، وتحديد قضايا العمل الوطني الجوهرية، وبشكل قادر على مواجهة المشروع الاسرائيلي المتبلور في برامج ودعاوى الاحزاب الاسرائيلية المتنافسة، والتي تشكل في قواسمها المشتركة، تحديات مصيرية تطال المشروع الفلسطيني في الصميم، وترمي الى اجهاض اي مكسب وطني قائم. إن صياغة المشروع الوطني، بمعناه المستقبلي، هو مسؤولية وطنية عامة، تتحملها قوات وفصائل العمل الوطني كافة، الأمر الذي يقتضي بالضرورة، العمل على تجديد آليات العمل المشترك، بعيداً عن التعصب التنظيمي، وتغليب المصلحة التنظيمية على المصلحة الوطنية، وعدم الاحتكام لآليات المواقف المسبقة، ورنين الجمل الثورية، البعيدة عن سيمفونية الحياة الوطنية ومستلزمات ديمومتها. * استاذ فلسفة في جامعة بيرزيت.