في 4 أيار مايو 1999 تنتهي المرحلة الانتقالية التي أسسها اتفاق أوسلو قبل خمس سنوات. وبانتهائها تنتهي فترة الحكم الفلسطيني الذاتي الانتقالي. ومع اقتراب المرحلة الانتقالية من نهايتها، أصبح الفلسطينيون والإسرائيليون ورعاة عملية السلام وجهاً أمام مأزق آخر أخطر من مأزق تعثر المفاوضات وجمود العملية السلمية الذي تواجهه الأطراف منذ مطلع عام 1997. وبعد تنصل بنيامين نتانياهو من الاتفاقات والتفاهمات التي تمت في عهد حزب العمل ورفضه عملياً تنفيذ بقية استحقاقات المرحلة الانتقالية التي نص عليها اتفاق الخليل وبخاصة مرحلتي الانسحاب وإعادة الانتشار الثانية والثالثة، ارتفعت وتيرة النقاش وزادت سلبيته. وبانتعاش حركة مصادرة الأراضي وعمليات التوسع في الاستيطان في الضفة الغربية، سادت الشكوك في قدرة بقاء عملية السلام على قيد الحياة على مسارها الفلسطيني - الإسرائيلي. وبتراجع دور الإدارة الأميركية في رعاية المفاوضات، توسعت دائرة البحث السلبي وشملت جهات اقليمية ودولية عدة، وتنوعت قضاياه وطالت فكرة الدولة المستقلة ومسائل أخرى كثيرة كانت تعتبر مسلمات فلسطينية. ومع تيقن الجميع من استحالة توصل الطرفين من الآن وحتى أيار المقبل إلى اتفاق حول قضايا الحل النهائي، التي لم تبدأ إلى الآن مفاوضاتها مع الليكود، بدأت مراكز الأبحاث والدراسات الفلسطينية والإسرائيلية وكل المعنيين بعملية السلام بالبحث في كيفية ملء الفراغ الذي سينشأ في أيار المقبل. ومع اعلان رئيس السلطة الفلسطينية في أكثر من مناسبة عزم الفلسطينيين على ملء الفراغ باعلان قيام دولتهم على الأراضي التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس العربية، تحددت الوجهة الفلسطينية، وخطا البحث خطوة جديدة إلى الأمام، وانتقل النقاش إلى الشارع الفلسطيني وما زال الموضع موضع تداول بين أطراف الحركة الوطنية، وداخل المؤسسة الفلسطينية الرسمية وفي صفوف المثقفين المستقلين. والخيارات المطروحة محصورة بالآتي: - الأول، استئناف المفاوضات بين الطرفين حول قضايا الحل الانتقالي والاتفاق على تنفيذها والدخول في مفاوضات حول قضايا الحل النهائي والتوصل أيضاً إلى اتفاقات حولها قبل 4 أيار 1999، وملء الفراغ الذي سينشأ بانتهاء المرحلة الانتقالية. ويمكن الجزم باستحالة تحقيق هذه الاتفاقات خلال الفترة الزمنية المحدودة الباقية. فإذا كانت المفاوضات حول تنفيذ اتفاق الخليل وملحقه المتعلق بإعادة الانتشار في الضفة الغربية قد استغرق حتى الآن قرابة عامين ولم تصل لنتيجة ايجابية، فليس عسيراً تقدير عدد السنوات الكثيرة التي ستأكلها المفاوضات، إذا بدأت، حول قضايا: القدس، اللاجئين، المستوطنات، الحدود، الترتيبات الأمنية النهائية، العلاقات المستقبلية، والمياه. والمغفل سياسياً هو من يصدق أي حديث عن قرب توصل الطرفين إلى اتفاق سري أو علني جديد حول هذه القضايا الكبرى والشائكة. - الثاني، توصل السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، بضغوط خارجية، أو بدونها، إلى اتفاق على تمديد المرحلة الانتقالية وتمديد الحكم الذاتي الفلسطيني القائم حالياً، من دون إحداث أي تغيير في الوضع القائم على الأرض، ومن دون التوصل إلى اتفاق حول قضايا المرحلة الانتقالية وقضايا الحل النهائي. والواضح ان هذا الخيار هو أفضل الخيارات لنتانياهو وأركان حكومته، فهو يعفيهم من كل أشكال الصراع الداخلي والخارجي الذي سينشأ في حال الأخذ بالخيارات الأخرى. ويحافظ على وحدتهم، ويقوي مواقفهم ومواقعهم في مواجهة المعارضة الإسرائيلية. ومن غير المستبعد ان يتعمد نتانياهو إلى الاعلان عن تبكير الانتخابات الإسرائيلية وتوقيتها مع انتهاء المرحلة الانتقالية، ظناً منه أنه بهذه الخطوة يجعل هذا الخيار بمثابة أمر واقع لا مفر منه، ويحشر الجميع ويضعهم أمام موقف صعب يفرض عليهم التعامل ايجاباً مع الموضوع. وهذا الخيار مرفوض حتماً من الفلسطينيين، فهو يلحق أضراراً فادحة بمصالحهم الوطنية، ويفتح شهية الحكومة الإسرائيلية باتجاه الابقاء على الوضع على الأرض على ما هو عليه إلى إشعار آخر، ويقفل الطريق أمام كل أشكال المآزرة والمساندة العربية والدولية للمواقف والحقوق الفلسطينية، ويضعف السلطة الفلسطينية إلى أبعد حد ويبين خضوعها لمواقف نتانياهو، وينزع عنها صفتها الوطنية في نظر الشعب الفلسطيني، ويفجر الأوضاع الفلسطينية، ويدفعها نحو صراعات داخلية دموية، ويسهل على القيادة الإسرائيلية بناء مزيد من الوقائع الكفيلة بتحويل الحل المرحلي الانتقالي إلى حل نهائي دائم. - الثالث، التوصل إلى صفقة تقوم على تنفيذ الحكومة الإسرائيلية كل أو بعض استحقاقات المرحلة الانتقالية التي تحدثت عنها المبادرة الأميركية، مقابل ليس فقط تنفيذ المطالب والشروط الإسرائيلية التي تتضمنها، بل وأيضاً قبول السلطة الفلسطينية بتمديد المرحلة الانتقالية وتمديد الحكم الذاتي القائم حتى الانتهاء من الانتخابات الأميركية والإسرائيلية سنة 2000. تعامل نتانياهو وأركان حكومته مع هذا الخيار باعتباره البديل للخيار الثاني، وصمموا له سيناريواً متكاملاً، يقوم على رفض المبادرة الأميركية تكتيكياً، ورفض الانسحاب من نسبة 5،13 في المئة التي طرحتها، وقتل الوقت حتى ربيع 1999، ويعتقدون بأن اعلان موافقتهم عليها على أبواب أيار 1999 يقطع الطريق أمام أية خطوات فلسطينية مربكة، ويعفيهم من تحمل المسؤولية عن دفن الاتفاقات وقتل عملية السلام وما يمكن أن تجره من ويلات على الجميع، ويعفيهم من التعرض لضغوط دولية أميركية وأوروبية، ويظهرون وكأنهم يقدمون للجميع مخرجاً من المأزق. الأخذ بهذا الخيار يجمد الصراع ويؤجل الانفجار. اما قبول الفلسطينيين به فيلحق أضراراً كبيرة بمصالحهم وحقوقهم الوطنية وباستراتيجيتهم التفاوضية. ويعني قبولهم صفقة خاسرة تماماً، نتائجها السلبية لا تختلف كثيراً عن نتائج القبول بالخيار الأول، وتصريحات رئيس السلطة حول ملء الفراغ بالاعلان يوم 4 أيار المقبل عن قيام الدولة على الأراضي التي احتلت عام 1967، تشير إلى نية الفلسطينيين قطع الطريق مبكراً أمام هذا الخيار، وقبل طرحه في سوق المساومات بصورة رسمية. - الرابع، عدم توصل الطرفين إلى أي اتفاق، وقيام كل طرف بما يحلو له من خطوات واجراءات سياسية وعملية على الأرض وعلى صعيد العلاقات. وهذا الخيار يعني من الناحية العملية إعلان كل طرف، من جانب واحد، عن أهدافه الأساسية التي كان يسعى لتحقيقها عبر مفاوضات الحل النهائي، والعمل على فرضها بالوسائط والقوى المتوافرة عنده والمتاحة له. ويبدو ان هذا الخيار هو الأوفر حظاً من بين الخيارات المرئية ومواقف الأطراف مندفعة باتجاهه. ومواقف رئيس السلطة الفلسطينية وتصريحاته المتكررة حول الموضوع، تشير إلى أن الفلسطينيين اعتمدوه أولياً. وهو ولا شك خيار صدامي ويحتاج الى تحضيرات طويلة وعريضة مسبقة. تبدأ بردم الهوة بين السلطة والشارع الوطني، وتنتهي بتحضير الاجواء الدولية لاستقباله. وسيناريو حركته العملية تبدأ باعلان المؤسسات التشريعية الفلسطينية عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض الفلسطينية ضمن الحدود التي حددها اعلان الاستقلال الذي أعلنه المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في نوفمبر 1988، والتقدم بطلب للجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وبسيادتها على الأراضي التي احتلت عام 1967. وتمسك الفلسطينيين بهذا الخيار سيقود حتماً الى تصادم سياسي وعنيف بين الطرفين. وردود فعل اليمين الديني والقومي المتطرف على تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية تؤكد ذلك. فكلها كانت سلبية ومتوترة، وتضمنت تهديدات باجراءات سياسية وعملية ردعية قاسية. فرئيس الحكومة الاسرائيلية سخر منها واعتبرها استفزازاً وابتزازاً سياسياً، وخرقاً للاتفاقات، وتهديداً لأمن اسرائيل ووجودها. وهدد بالغاء كل الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، وباتخاذ كل الخطوات والاجراءات السياسية والميدانية الكفيلة بالحفاظ على أمن دولة اسرائيل وعلى مصالحها الاستراتيجية. وهناك من طالب بإعادة احتلال المدن والأراضي الفلسطينية المحررة. وما زالت الحرب الكلامية مشتعلة بين الطرفين حول هذا الخيار، وأظنها ستقوى أكثر فأكثر كلما اقتربنا من شهر أيار 1999. لا شك في أن موازين القوى حاسمة في تقرير طبيعة الحلول الممكنة في كل مرحلة من مراحل الصراع، ومقررة لاشكالها ولكل التبدلات التي يمكن أن تقع عليها. وانشطار المانيا الى شرقية وغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وإعادة توحدها بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نموذج حي على ذلك. وبديهي القول ان خيار اللجوء للحرب التقليدية مسقط من الحساب. وموت عملية السلام الحالية والوصول الى أيار 1999 دون اتفاق لا يعني بأن خيار الحرب عاد ليحتل موقعاً بارزاً ضمن خيارات أطراف الصراع، فجميعهم ساروا على درب السلام لحل خلافاتهم بالطرق السلمية، بعد ادراكهم بأن دروب الحرب لم ولن تحقق أهدافهم الاستراتيجية. صحيح أنهم كانوا في البداية متشككين من امكانية التقدم عبر المفاوضات بأية خطوة جدية تقربهم من أهدافهم، لكنهم الآن بعد سبع سنوات من اللقاءات والمباحثات الرسمية وغير الرسمية، وبعد تحقيق ما تحقق من اتفاقات ومن مصالح، أصبحوا أسرى للحلول السلمية ومتورطين في تفاصيلها. وبعضهم انتقل للتعاطي معها كاستراتيجية. وإذا كانت القيادة الاسرائيلية، لاعتبارات عملية متنوعة داخلية وخارجية، ليست بحاجة لشن حروب لتنفيذ توجهاتها، فموازين القوى العسكرية العربية - الاسرائيلية، ومواقف القوى الدولية بعد الحرب الباردة لا تمكّن النظام الرسمي، جماعة أو أطرافاً منفردة، من العودة الى خيار الحرب لحل خلافهم مع اسرائيل، وفرض حلولهم التي تعيد لهم حقوقهم الوطنية والقومية المغتصبة. وإذا كان لا يزال هناك من يفكر من العرب والاسرائيليين بالحرب لتحسين مواقفه وتعديل ميزان القوى، فأظنهم يدركون بأن النتيجة الوحيدة لأية حرب جديدة هي العودة للمفاوضات على ذات القواعد والأسس تقريباً التي ساروا عليها منذ عام 1991 وحتى الآن. والتطورات الدولية ومصالح القوى الكبرى التي ألزمت العرب والاسرائيليين بالذهاب الى مدريد، وفرضت عليهم حل خلافاتهم بالطرق السلمية، ما تزال قائمة حتى لو تراجع اهتمام الادارة الأميركية والدول الأوروبية وروسيا بصنع السلام في المنطقة. لا شك ان في امكان نتانياهو تجميد الاتفاقات، وتعطيل المفاوضات، ووقف عملية السلام عند حدودها الحالية دون أن يدفع ثمن مواقفه المتطرفة، لكن لا يمكنه القيام بخطوات تعيد الأوضاع على الأرض الفلسطينية الى ما كانت عليه قبل بدء عملية السلام، واحتلال مدن الضفة الغربية وقطاع غزة من جديد مثلاً، أو ضمهما رسمياً لاسرائيل، أو الاعلان من جانب واحد عن الحاقهما بالأردن، أو تنفيذ عملية ترانسفير للفلسطينيين. فبعض هذه الخيارات تجاوزتها الأحداث والتطورات السياسية، وبعضها مرفوض من قبل التكتل اليميني نفسه، وبعضها الآخر يرفضه الفلسطينيون، وترفضه المعارضة الاسرائيلية وهي تمثل نصف المجتمع الاسرائيلي تقريباً. وكلها مرفوضة أو غير ممكن قبولها من الأردنيين والمصريين ولا يمكن تمريرها دولياً. ولا تستطيع حكومة ليكود، التي تولت السلطة بأغلبية بسيطة، تحمل المسؤولية أمام شعبها وشعوب الدول المجاورة لها وأمام العالم، عن النتائج والآثار المدمرة التي تحملها أية محاولات فرض أي من الخيارات المرفوضة من الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والاسلامية ومن العرب والعالم. والحلول المفروضة لا تصنع سلاماً. ومن البداهة القول إن بقاء الوضع على ما هو عليه غير ممكن. فالوضع القائم لم ينه الصراع، واستمراره مرفوض من الفلسطينيين والعرب ومن قطاع واسع من الاسرائيليين ويقوي التطرف والارهاب في الشارع العربي والاسرائيلي وفي المنطقة ويقتل عملية السلام في منتصف الطريق، ويؤجج الصراع بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي ويعيده الى اسوأ مما كان عليه قبل انطلاق عملية السلام، ويحمل في طياته عوامل وعناصر متعددة قادرة على اشعال حرائق متنوعة على الأرض الفلسطينية تمتد نيرانها بالتدريج الى كل الدول والشعوب المحيطة بفلسطين حتى لو كان بينها وبين اسرائيل معاهدات أو اتفاقات سلام. وسيؤدي الى إضعاف مميت للاتجاهات الواقعية عند الطرفين وفي المنطقة ككل. ويقوي الارهاب والتطرف والتعصب، بكل أشكاله الديني والقومي والوطني، ويساعده في السيطرة على أوضاع المنطقة وتولي دفة قيادتها لسنوات طويلة، وزجها في صراعات دموية، طائفية، ودينية، وعرقية، يصعب التكهن بنتائجها منذ الآن. واختيار القيادة الاسرائيلية لهذا الخيار يعني السباحة والتجديف عكس التيار. اما الخيار الفلسطيني بالاعلان عن قيام الدولة على الأرض فله أنصار. * كاتب سياسي فلسطيني