إستقبلت قاعات "قصر الفنون" التابعة لدار الأوبرا المصرية وزارة الثقافة، معرضاً شاملاً لأعمال الفنان الرائد الدكتور حسين الجبالي، والمنجزة خلال السنوات الأخيرة وعلى الأخص في بحر عام 1998. الجبالي من مواليد الجيزة 1934، تفتحت قريحته على اشكال الاهرامات، ولم تفارقه منذ حبواته التشكيلية الأولى، وقد تنوعت اسباب تحصيله الفني الدراسي ما بين القاهرة وروما، هولندا والولايات المتحدة. والتمع اسمه بسبب كثافة مشاركاته في المعارض والتظاهرات المحلية والعالمية، وخصوبة عدد معارضه الشخصية منذ اوائل الستينات، وقد حصد خلال هذه الفترة العديد من الجوائز والميداليات، كان آخرها حصوله على الجائزة الأولى في ترينالي الحفر الدولي الأول في القاهرة. عرف هذا الفنان بشكل اساسي في ميادين الطباعة الحجرية الليثوغراف، والطباعة على الشاشة الحرير السيريغراف، ولكن طباعاته في المعرض الراهن اقتصرت على باقة اساسية بالغة الأهمية من تجريداته المتميزة والمنجزة بطباعة الحفر على الخشب، وقد طبعت طريقة حياكتها، ورهافة ألوانها بقية المواد، من مثال الأعمال المنجزة بأقلام الباستيل، او ذات التقنيات الجرافيكية المختلطة، حتى نصل الى سجاجيده الخمسة الموشحة بوجدانية الحلم والحساسية التطبيقية الحرفية المتراكمة. يتميز الجبالي بشدة تأثيره التربوي، ليس فقط بسبب موقعه كرئيس لقسم الجرافيك بالمعهد العالي للفنون التطبيقية، وإنما وبشكل خاص بسبب تعدديته المعرفية بالمواد الحرفية والطباعية. بذلك يرجع اليه الفضل في رسم العديد من مناهج التربية الفنية العامة، فهو مربٍّ كبير ترك بصماته على خبرة العشرات من تلامذته وأشرف على العديد من اطروحات الدكتوراه، فكان تأثيره على خصائص المحترف الجرافيكي المصري أبعد من مساحة إنتاجه الشخصي، لعل هذا يفسر موقعه الرمزي كنقيب للتشكيليين. لعله من النادر اليوم ان نعثر على تجربة حروفية اصيلة خارج حدود محترفات الرواد، فأمثال الجبالي لا تستحوذهم قدسية الحرف وذرائع نمطيته واستجداء مصداقيته من بعده اللغوي. فلوحته تعتمد الحرف كواسطة نغمية مجردة قابلة للتعديل الدائم وفق متطلبات نواظم اللوحة، بحيث يبدو كأنه كائن عضوي متبدل بما يتوافق مع وعائه التشكيلي، ومنسلخ بالتالي عن موروث الطرز والأقلام الخطية، ومتطهّر من المحسّنات البديعية التي تفد من الحشو اللغوي سواء في سلوك الفرشاة ام في مزاج اشباح الحروف المستدعاة من مساحة الحدس، وليس من ذخائر مجاميع وأصول الخط تقع في هذه النقطة خصوبة تكوينات الجبالي، وتمفصل الحروف والأشكال والإشارات وحياكتها وفق تقنية تهشيرات الحفر الخشبي. يرسّخ الإعتماد على مقام لوني اشتقاقي هذه الصبوة الموسيقية، خصوصاً وأنه لا يتم انتصاره إلا من خلال الصراع بين لونين متكاملين: البارد والحار، يشاركه فناننا في طقوس انتصاره بضبط توقيع الخرائط العامة بحيث تبدو وكأنها ترفع عقيرتها بالغناء ضمن شحنة صاغية اوركسترالية عامة، تتقابل في هذه السلالم اللونية محرق الشمس مع أعماق بحر النيل، نسمع انقداح شرارة اللون وإخراسه في رطوبة الأزرق في آن. تشبه مجاميع لوحاته الطباعية متتالية من النوافذ التربيعية الملحنة، موشومة بشتى التعاويذ والإشارات الجرافيكية، تخرج نواظمها العامة من هيئة هندسات الهرم، ومناخاته الرملية المترامية الأطراف، تتعدل نسبته ومدرجات بيئته وفق إملاء حدسي، يحتقن بخضاب الشمس، وتوهج المساحات الرملية. انه التصوير بالشمس بدلاً من الضوء، تماماً كما كانت بشارة زميله المرحوم حامد ندا، فالنار والحريق واللهيب وسعير الهاجرة واحتدامات براكين تحولات الشمس، تشحن جميعها فراغ اللوحة بقزحية مشبعة بالدرجات اللونية القصوى كما هي ذخائر فنون النار الموروثة من السيراميك والزجاج المعشّق. لعله الحفار العربي الوحيد الذي توصل الى انتاج لوحة طباعية تملك رهافة وطواعية عجائن صباغات لوحة الألوان الزيتية نفسها. فالتهشيرات المنقوشة على صفيحة الخشب تتحول عند نسخها بالطباعة الى معادل للمسات الفراشي، بحيث تمر عبر المعادل الصباغي نفسه المتناغم ما بين اشتقاقاته الحارة والباردة. وبالنتيجة فان الرسم الجرافيكي وصباغاته لا تخرج بمجملها عن الكتابة الذاكراتية الحميمة، وهي تذكرنا بالفعل البريء الذي يحفره عاشقان متضمناً اسميهما على جذع شجرة عند المغيب او الإفتراق. يوسم المعلم الجبالي بتعدديته التجريبية في المواد وأنواع التعبير، تتجول نشاطاته الحرفية بين حدودها الفرضية، من دون اي حرج نظري لأن ذائقته منحازة منذ بداياته الى الحساسية البكر في الفنون الشعبية والتطبيقية، فهو يبحث عن تلقائية التعبير وحالاته المغتبطة اكثر من ادعاءاته التثاقفية النظرية. ولا شك بأن صلابة منظوره التوجيهي والتربوي تقع في براءة مختبره وتبرّئه من الحداثات المفتعلة التي تضج مسارحها الإعلامية بشتى العقائد الطليعية، ودعوى اجتياح القرن المقبل. يصيخ الجبالي سمعه المرهف الى صوت آخر يرد من أبدية ما يسكن القلب، مطبقاً المثل المغربي: "الموسيقى الحسان تدخل الآذان من دون استئذان"، اي من دون تنظير عقيم.