يستوحي الفنان التشكيلي جمال عبدالرحيم من مواليد البحرين، العام 1965 مناخات الشعر والرواية والمسرح في محفوراته وأعماله الطباعية، باحثاً عن آفاق جديدة تفتح ابواب مخيّلته على رؤى انسانية قلقة ورموز ميثولوجية وزخارف بسيطة هي بمثابة مفردات لا تلبث ان تتكرر كإشارات خاطفة ولكنها مليئة بالإيحاءات. من مجموعة عمر الخيّام وكتاب المعلّقات السبع وكتاب العاشق ومؤلفات فريد رمضان الى مسرح سعد الله ونّوس ثم اخيراً مسرحية "الباب" لغسان كنفاني. وفي كل مرة يعيد الفنان تنظيم مساحته الداخلية راداً العمل الطباعي الى فعله الثقافي اي مقامه التاريخي الموروث المتصل بتجسيد النص وبعملية النشر، ما يستدعي قراءة بصرية للعمل التشكيلي وإن بدت مستقلة، إلا انها مرتبطة احياناً بمناخات شعرية تجريدية وخيالية او تصويرية سينوغرافية وربما حروفية وهندسية زخرفية. فالقناعة بضرورة الاتصال الثقافي بين مختلف الفنون هي التي ميّزت توجهات جمال عبدالرحيم وأعطت اختباراته اعماقاً جديدة لا سيما في خوض غمار التقنيات المتعددة في اساليب الحفر والعمل على اظهار إيحاءاتها لابتكار جماليات لوحة طباعية حديثة تكون على صلة وثيقة بما حققه فن الغرافيك في الغرب ومنفتحة في آن على جذورها الشرقية وعناصرها التراثية. فهو من الفنانين الشبان العصاميين الذين ساهموا في إطلاق اللوحة الطباعية الحديثة في البحرين. بدأ مسيرته اوائل التسعينات معتمداً على موهبته الفطرية وبراعة يديه في اعمال النجارة والحدادة وتمديدات الكهرباء. وبعد ان تعلم مبادئ الرسم والتلوين اتجه نحو مواضيع الخيول العربية مجسّداً المناخات الصحراوية بأسلوب سوريالي، ولكنه سرعان ما تحول الى العمل الطباعي حيث اكتشف ولعه بالفن الذي يحتاج مهارة الحرفة. هذا الولع تكرّس مع عودة الفنان عبدالجبّار الغضبان الى البحرين وتأسيسه اول ورشة للغرافيك في جمعية البحرين للفنون ومساعدته عبدالرحيم على امتلاك اسرار التقنيات الطباعية، ما شجعه على تأسيس محترفه الخاص في العام 1992 لا سيما بعد شرائه مكبساً حديثاً من إيطاليا. ومنذ ذلك التاريخ بدأت رحلة جمال عبدالرحيم في اختبار المؤثرات الخاصة من حوامض وأحبار وألوان على مسطح "البلاك" أداة التجريب وتنوعاته اللامتناهية، حتى بات له عالم خاص فضلاً عن اسلوبه المتميز الذي أهّله المشاركة في معارض الغرافيك الدولية فرنسا والسويد وكوريا وإسبانيا والنروج ... وغيرها وكذلك البينالات العربية التي حصد منها غير جائزة آخرها جائزة ترينالي الحفر في القاهرة العام 1996. والمعرض الذي اقامه جمال عبدالرحيم في بيروت - غاليري "اجيال" - اتاح الاطلاع على تجاربه الاخيرة عبر 55 قطعة محفورات ومواد مختلفة تعكس حركة انتقالية من شاعرية الأسود والأبيض في مراحله السابقة، نحو تشييدية تعتمد على شحن المناخ التجريدي بطاقة مصدرها عصب اليد وقدرته على تحريك الفراغ والتلاعب به عبر خرطشات وتكاوين خطية ولطخات لونية كبيرة مستخدماً انواعاً من الأساليب بين حفر وتحبير وضغط وتبصيم وتذهيب وصولاً لإعطاء المطبوعة درجات عالية من الحساسية لا سيما النافر والغائر التضاد والانسجام توهج ألوان الذهب ودكنة الأسود الفاحم. فالمراحل التي تمر بها مطبوعة عبدالرحيم، تعكس تطور المستجدات ولوازمها كذلك الاقتراحات التي تتعاقب على مسطح المحفورة وربما في أمكنة محددة منها. فالتأليف يعطي التصميم العام للعمل خطواته المبدأية قبل التنفيذ المباشر الذي يتميز بالحرية والإرتجال، لمعرفة الفنان بمدارك التقنية وإمكاناتها. فالحفر يتم من الفاتح الى الغامق، لذلك يحتل التذهيب موقعه الأول على المسطح وتالياً اللينوكات اللون الأصفر ثم "الكربوراندوم" مع التدرجات الفحمية للأسود وطبقاته واختيارياً التبصيم الذي يظهر ملمسه نافراً على الورق. ضمن هذه التراتبية، تبدو التلقائية محدودة ظاهراً، لكنها عملياً تطل من خلال قوة التحكم بمراحل العمل الطباعي ونتائجه وربما من تجربة الصواب والخطأ. فالمطبوعة على درجة الاحتمالات تفتح قابلية التصويب، ضمن تآليف عبدالرحيم المتكررة الى حدٍ ما، حيث الخطوط الفاصلة كثوابت والأشكال الهندسية هي متغيرات، وضمن هذه التحولات الداخلية للعمل تتراءى لغة لاشكلانية جميلة، تتراوح ما بين الكثافة والشفافية والفارغ والملآن المستقيمات والأقواس، الذهبي البرّاق والأسود القاتم. كأن ثمة مقومات لتلك اللغة في منحاها التجريدي الذي يعتمد على الزيح وأنصاف الدوائر والمربّع والنقطة والبقعة واللطخة، بالإضافة الى رموز تاريخية تعود لحضارات قديمة ولكنها مؤسلبة وقليلة مثل الزهرة رمز الحب والمشط للأنثى والمربّع للدلالة على الأرض. إلا ان استخدام اللون الذهبي هو الجديد الذي يدخله عبدالرحيم على المطبوعة التي لا تصل الى توازنها اللوني إلا مع الأسود كقاعدة راسخة ومؤدّية للحركة العريضة والظاهرة للعيان، ربما لأنه يأتي في المراحل المتأخرة ليختتم العمل وكأن كل المراحل التي سبقته على المسطح كانت مجرد خلفية حرّة وعبثية قدر ما هي مضبوطة الإيقاعات والتوزيعات. فاللون الذهبي بلا شك هو ميزة شرقية رغم صيغة المبالغة والتكرار التي وُضع فيها، ليتداخل مع بعض اشكال الزخارف، على حد فاصل مع عناصر لوحة لها سمات أوروبية وعالمية في الصوغ والرؤية. يقول عبدالرحيم: "من لغة الأسود والأبيض التي كنت أرى فيها كل الألوان، الى نقيضها في اللون الذهبي. وهو لون عدمي غير موجود مادياً فهو لون السراب وشعاع الشمس في الحضارات القديمة اما اللون الفضي فهو لون القمر. ولأن الذهبي هو ذروة اللامادة أردت من خلاله ان اعبر عن صحوة الشرق وأن اصل لخصائص جمالية تنتمي الى حضاراتنا الشرقية ومن خلاله استطيع ان ارى ضوء الشمس ولمعانه القوي حين يضرب اطراف الصحراء ويسطع كسراب. لذلك اطرح مسألة اختراق التقنيات والأساليب الأوروبية لمصلحة مسألة وجودية الإنسان العربي والمشرقي عموماً، لما نمتلكه من لغة ودين وأساطير وتراث وحضارات ولا سيما القيم الضوئية. وإذا فتشنا اكثر في آثارنا وحضاراتنا لوجدنا بأن لغة الحفر عند شعوبنا سبقت الغرب. فالأختام هي اقدم تراث للحفر. وباعتقادي ان تاريخ الطباعة بدأ مع البصمات الأولى على جدران الكهوف".