الفنان التشكيلي والكاريكاتوريست المصري جورج البهجوري هو من الفنانين الذين قدموا خلال مشوارهم الفني الطويل، بصمة خاصة تنحاز الى البسطاء من الناس، ولا تتعالى عليهم بالأساليب المستوردة أو الهجينة أو الاجنبية، هو أشبه ما يكون بلص ماهر، استطاع سرقة "الحياة" من الشارع والبيوت، ليسكنها لوحاته وأعماله. يعرّف البهجوري عن نفسه قائلاً: "ثقافتي عفوية وفطرية، وأنا لا أتعامل مع مصطلحات أو مراجع أو قواميس لإخراج فكرة ما، فالرسم بالنسبة لي هو رحلة قررت القيام بها، ولكنها رحلة تحكمها المصادفة، فوعيي موجود، وثقافتي وخبراتي تستوعب مغامرتي، ولكن هناك نية الاكتشاف التي تجعل من العمل الفني رغبة في الرحيل إلى أماكن لم أرها من قبل". جورج البهجوري ولد مرتين - بحسب تعبيره - الأولى في قرية "بهجورة" في صعيد مصر العام 1932، والثانية في العاصمة الفرنسية "باريس" العام 1969، وأقام أكثر من مئة معرض، بين معارض فردية وجماعية، في معظم العواصم العربية والعالمية، وحصل على الكثير من الجوائز العالمية في الكاريكاتير من: "إيطاليا 1994، اسبانيا 1991، فرنسا 1993، ويوغسلافيا 1996. اقام الفنان اخيراً معرضين متزامنين في اثنتين من أهم قاعات العرض الفني في القاهرة، ما يُعد مغامرة أخرى من مغامرات البهجوري الدائمة. ففي غاليري "أرابيسك" عرض أكثر من أربعين عملاً فنياً، تنوعت ما بين الاسكتش واللوحة، رسمها البهجوري في الفترة من بداية الستينات وحتى نهاية الثمانينات، ما يغطي ثلاثين عاماً كاملة من إبداعه وتطوره الفني. يقول البهجوري عن هذه التجربة الجديدة: "جاءت فكرة عرض هذه الأعمال القديمة من الصديق طارق المرصفي صاحب غاليري "أرابيسك"، فهو يملك مجموعة ضخمة من أعمالي، بل أنها تعد من أهم أعمالي على الإطلاق، وهو استطاع في خلال عشر سنوات ان يرمم الكثير من هذه اللوحات، خاصة أنها كانت مهملة جداً لدي، ومكدسة في مخازن متربة وبشعة. استطاع طارق المرصفي عبر هذه السنين أن يصنفها ويعنونها، بل قسمها إلى مراحل مؤرخة، ما أفادني في النهاية". أما المعرض الثاني، فقد استضافته غاليري "مشربية". وضم ثلاثين لوحة جديدة، لم يسبق عرضها، منها عشرة اعمال نفذت على السجاد، في سابقة لم تحصل من قبل في مشوار البهجوري، وعشرون لوحة رسمت بألوان الزيت والماء. وفي هذه الأعمال الجديدة يؤكد الفنان انحيازه الدائم للحياة الشعبية المصرية، في الشارع والمقهى والمدينة، فهو يرسم القاهرة الراهنة بمجمل تناقضاتها، بفرح الحارة المصرية البسيطة، بعربدة الشباب على أرصفه مقاهيها، بضحك البنات المراهقات وهن خارجات في أسراب زرقاء ورمادية من مدارسهن الحكومية، ببائعي الخضراوات والفاكهة في الحسين والأزهر، وبالوجوه التي حرقتها الشمس وهي تعرق طيلة النهار على "سقالات البناء". هذه المغامرة الجديدة للبهجوري تضعنا أمام اسئلة لابد من طرحها والبحث عن أجوبة مقنعة عنها، فمن يشاهد المعرضين تستنفره هذه التقنية المتطورة والدائبة في البحث عن جوهر الروح المصرية الأصيلة لدى الفنان، والاختلافات الحادة في المعالجة ما بين القديم والجديد، والأيديولوجيا الفطرية التي تتحكم في استدعاءاته التراثية لمكنونات الشخصية العفوية للمصريين، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من الشخصية العربية ذات الميراث الحضاري الطويل. الملاحظة الأولى التي نستطيع الخروج بها من هذين المعرضين المتزامنين، أن لوحات البهجوري وأعماله التي رسمت في الستينات والسبعينات والثمانينات، يغلب عليها الألوان القاتمة أو الرمادية، ما يمكن أن نسميه في النهاية "المرحلة الترابية" في مشوار البهجوري على العكس تماماً من لوحاته التي قدمها منذ أوائل التسعينات، والتي تحتفي بألوان زاهية تنم عن فرح غامر بالحياة الشعبية في الحواري والأزقة القاهرية. يقول البهجوري: "في هذه الفترة كنت ارسم الناس بألوان التراب، أو الألوان المستمدة من لون الرماد، وربما يعود ذلك إلى درامية حياتنا كمصريين، وحزننا الرهيف كعرب مختلفي الأنماط والثقافات الشعبية. وكل لوحاتي في هذه الفترة أضحت عبارة عن تدرجات من ألوان التراب هذه، ونافية تماماً لأي لون مبهج او مفرح. ولكنني الآن اقتنعت بأن "الحارة" التي في "الغوري" او "شارع الخيامية" أو "حي الحسين" أو "حي الأزهر"، تمتلئ بالفرح اللوني الخالص، ويظهر ذلك في القماش الذي يعد للسرادقات الإسلامية، وألوانه العديدة المفرحة الزاهية. هنا بدأت أفكر كيف كان الفنان المصري القديم يطحن حجارة الجبل الأحمر كي يحصل على اللون الأحمر، وحجارة جبل أبيض كي يحصل على اللون نفسه. وما اريد قوله هو إن الفكرة جاءت بأن عليّ كفنان أن استوحي ألواناً من البيئة التي أحياها، فليس من المعقول ان اشتري ألواناً باريسية أو إيطالية كي ارسم بها الحارة المصرية!". الملاحظة الثانية، أن البهجوري في أعماله الجديدة المعروضة في غاليري "مشربية" يزاوج للمرة الاولى في تاريخه ما بين خط الكاريكاتير وخربشة ألوان الفرشاة، فهو يرسم الكاريكاتير بطريقة خاصة جداً، وصعبة في الآن نفسه، فالقلم لا يُرفع بعد وضعه على الورقة إلا بعد انتهاء اللوحة او العمل ذاته، وهي الطريقة التي تميز بها الفنان وسط رموز فناني الكاريكاتير في مصر والعالم أجمع. هذه الملاحظة جعلت البهجوري يستفيد لأقصى مدى ممكن، من تقنيات فنّي الرسم والكاريكاتير في صنع نسيج يقف على برزخ بين الفنين: الرسم أو التشكيل، والكاريكاتير، في ما يشبه نسيجاً فنياً جديداً، يحضه وحده. الملاحظة الثالثة والأخيرة، هي أن البهجوري، في جميع أعماله قديمة وحديثة، يتعامل مع خط وهمي غير مرئي على سطح اللوحة، هو الأساس الخفي لجوهر هذه الأعمال، فهو لا يرسم الخطوط التي يراها جميع الناس، بل هو يرى خطاً وهمياً وحقيقياً في الآن ذاته، هو العمود الفقري لحياة العمل لديه، والذي لا يمكن الاستغناء عنه بأي حالٍ من الأحوال، لأنه كالروح بالنسبة للجسد. هذا الخط سواء كان في الوجه أو البورتريه، أو حتى الجسم كله، لا بد من وجوده، كي يصل البهجوري الى اقصى مدى ممكن للاكتمال الذي يستطيعه عقل بشري لا حول له ولا قوة. وعلى الرغم من ان هذا الخط ليس جديداً على فنون التشكيل، بمختلف ألوانها وأنواعها، بسبب وجوده منذ العصور الأولى والبدائية لهذا الفن، فإن البهجوري يتعامل معه بطريقة الطمس والإظهار حسب قوانين العمل الداخلية، ما يبتعد به عن اللمسات الاكاديمية أو التنظيرية الغربية، ويصبه في روح العمل نفسه.