سمير صبح الكاتب الاقتصادي اللبناني عاد من زيارة اخيرة الى تونس ويكتب هنا عن وضع الطبقة المتوسطة وحجم مساهمتها في الحياة الاقتصادية والسياسية في البلاد التي تقبل على انتخابات رئاسية يحل موعدها بعد ستة اشهر. هل يمكن اعتبار "الطبقة الوسطى" حقيقة اجتماعية في المدى المتوسط ام مجرد أداة من ادوات التعبئة السياسية؟ مفهوم الطبقة الوسطى هو، بحد ذاته، ثمرة التاريخ في الوقت الذي يشكل فيه ايضا عنصرا مميزا في حركته. والطبقة الوسطى حسب رأي المفكرين الألمان هي، والحالة هذه، مرادفة للتنمية والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. لذا، فان تعزيزها بات الهدف الأساسي لكل رئيس او مسؤول، حريص على ضمان التجانس على مستوى الدولة وادارتها. وينطبق هذا الوضع اليوم على الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، حيث تشكل نسبة الطبقة الوسطى في بلاده نحواً من 66 في المئة. وهو لا يريد ترك المقدرات بين ايدي الذين يملكون الكثير او بين ايدي الذين يملكون القليل. لذلك، توجه نحو تبني هذا الخيار الوسطي، الأقل تعرضاً للاختلالات او الضغوطات الداخلية والخارجية. والمتتبع لمجريات الأمور في تونس، يلاحظ من دون صعوبة تذكر، ان التغيير موجود على رأس كل جداول الاعمال تقريباً: التغيير على صعيد العقليات والتصرفات وأسلوب التعامل الاقتصادي وايضا على مستوى العلاقات. هذا التغيير الحاصل حسب رأي المسؤولين في البنك الدولي وفي طليعتهم نائب الرئيس لشؤون الشرق الاوسط وشمال افريقيا، كمال درويش، يشمل الاصلاحات التي تمس بالدولة ومؤسساتها، والشركات وكذلك العلاقات مع العالم الخارجي. في هذا السياق، يشير آخر التقويمات الصادرة عن مؤسسة "ضمان الصادرات الفرنسية كوفاس"، الى ان التغيير القائم على قدم وساق في تونس، والهادف الى رفع مستويات النمو، المبنية على قواعد جديدة بفضل التأقلم التنافسي للنظام الاجتماعي الاقتصادي انعكس ايجاباً على انخراط الطبقة الوسطى في صلب صناعة القرار السياسي في هذا البلد. من جهة اخرى، يرى بعض الخبراء العاملين في اطار البرامج الاجتماعية اليورو متوسطية في بروكسيل، ان التحولات العالمية الكبرى التي سُجلت في الأعوام الاخيرة، دفعت القيادة التونسية الى تسريع وتيرة برامجها المندرجة في اطار خطتها الخمسية تمهيدا لمواكبة المتطلبات المستجدة بأنواعها كافة. إنطلاقاً من هذا الواقع، بات من غير الممكن امام الحكومة التونسية تجزئة الملفات. فالسياسة والمالية والدفاع والاجتماع واتفاقات الشراكة الموقعة مع الاتحاد الاوروبي او تلك التي هي قيد البحث والتفاوض في هذه المرحلة مع الولاياتالمتحدة مشروع الشراكة الاميركية المغاربية، تداخلت فيما بينها في شكل متنوع. والملفات الفنية اصبحت سياسية والسياسة باتت اقتصادية، من هنا يطرح السؤال: حول اي تغيير تتحدث وكيف يمكن انجاح التحولات المفروضة عالمياً؟ الإستثمار في العنصر البشري أياً تكن تحليلات وآراء مختلف المدارس السياسية والاقتصادية، فان الحقيقة تؤكد ان الطبقات الوسطى لم تسر في يوم من الأيام بعكس تيار التاريخ، وما يحمل في طياته من تقدم اجتماعي. والمثال على ذلك، التطور المسجل، على وجه الخصوص، على صعيد تونس. من هنا يطرح السؤال: ماذا تمثل هذه الطبقة الوسطى بالنسبة لمجموع القوى العاملة في هذا البلد العربي الصغير؟ وما هو حجم التأثير الذي تعكسه فاعلية هذه الطبقة في بلد لا يملك ثروات نفطية او غازية على غرار جارتيه، الجزائر وليبيا؟ واخيراً، ما هي الأسباب التي تقف وراء نجاحه في المجالين الاجتماعي والاقتصادي منذ نحو 11 سنة؟ على هذا السؤال المركب تتفق مجموعة من الباحثين التونسيين والاوروبيين على القول بأن التركيز على تنشيط الطبقة الوسطى وتعزيز دورها الفاعل في المجتمع التونسي يعود بالدرجة الاولى الى ادراك الحكومة ان تجاهل او تهميش هذه الشريحة الاجتماعية في بلد لا يتجاوز عدد سكانه العشرة ملايين نسمة، يعتبر خطا استراتيجياً في غير صالح مستقبل الحكم وتركيبة النظام فيه. من هنا كان لا بد من وضع الطبقة الوسطى في قلب التفكير المجتمعي لتونس. وكانت نتيجة هذا التوجه ان قفز معدل النمو الاقتصادي في شكل ملفت ليستقر عند مستويات مقبولة نحو 5 في المئة منذ سنوات عدة. كما ادى تجاوب هذه الطبقة الوسطى مع المشاريع والخطط التي اعتمدتها الحكومات المتوالية الى الاخراج التدريجي لغالبية المؤشرات الاقتصادية من الخط الأحمر. كما جعل من زيادة دخل المساهمين في القطاعين العام والخاص، احد ابرز سياسات الحكومة. كذلك شجع على مضاعفة الاستهلاك على المدى المتوسط. كل هذه العوامل أدى مع الوقت الى خلق الاطار المثالي للنموذج الاجتماعي المبني على تقوية الطبقة الوسط والذي ساعد في شكل مباشر، على ارساء الاستقرار الاقتصادي والتخفيف من المخاطر في هذا الميدان. واصبحت هذه البنية الاجتماعية في منطقة المغرب العربي سابقة يحتذى بها. وتعتبر الطبقة الوسطى في تونس اليوم الأهم في العالم العربي ان تشكل، كما ذكرنا آنفاً، نحو 66 في المئة من مجموع القوى العاملة في مجتمع يعتبر شاباً نسبياً يتكون مما معدله 49 في المئة دون سن العشرين. ويعلق كمال درويش على هذه الظاهرة بالقول: "ان تونس اليوم هي احدى الدول القليلة التي بدأت بجني ثمار اعادة هيكلة بنيتها الاقتصادية التي واكبتها عملية تعزيز لطبقتها الوسطى التي تشكل المرأة احد دعائمها". فتجذر هذه الطبقة في بنية النظام هي بدون شك احد اساسات الخيار الذي دفع بالمسؤولين التونسيين الى مضاعفة حجم الاستثمار في الرأسمال البشري. كما ان تعزيز هذه الطبقة ووضعها في الواجهة يعودان الى التوزيع العادل لكلفات التصحيح بين مختلف "اللاعبين" الاقتصاديين على مستوى النظام السياسي اي: الدولة وأرباب العمل، والقوى العاملة. في هذا الاطار، يظهر التقرير الذي اعدته الأممالمتحدة في 13 ايلول سبتمبر 1998 حول النمو السكاني في العالم، ان تونس نجحت في ابعاد نظامها الاقتصادي والاجتماعي عن المضاعفات السلبية الناجمة عن فورة العولمة والانقياد الأعمى خلف اقتصاد السوق. ويشير هذا التقرير الى ان تونس احتلت المرتبة 83 من اصل 174 بلدا على صعيد مؤشرات التنمية الاجتماعية. وأعطى التقرير نفسه امثلة عدة بينها: وصول ناتج الدخل القومي الفعلي للفرد الى حدود 6518 دولاراً متجاوزاً بذلك المعدل الوسطي العالمي البالغ 3990 دولاراً. كما ان نسبة التعليم على جميع المستويات وصلت الى 69 في المئة متقدمة بذلك بثلاث نقاط على المقياس الوسطي العالمي. انطلاقاً مما تقدم، لا يمكن تحديد الطبقات الوسطى بمعزل عن الجوانب السياسية والاقتصادية المترافقة مع حركة المجتمعات او بالتقليل من اهمية البيئة السياسية التي توفر لها الامكانات اللازمة للعب دور متقدم. بنتيجة ذلك، فان وجود طبقات وسطى واسعة الانتشار من شأنه انتاج توازن في البنية الاجتماعية، مما يحصنها ويحميها من كل اشكال التطرف التي تهدد استقرار النظام السياسي. فعلى سبيل المثال، لعبت الطبقة الوسطى في تونس دوراً لا يستهان به في العامين 1989 و1990 في التصدي الميداني اليومي لمحاولات زعزعة الاستقرار التي قامت بها مجموعات دينية متطرفة. وكان لتحرك هذه الطبقة في العاصمة تونس وفي المدن الكبيرة والصغيرة أثر في سد طريقها ومنعها من تحقيق اهدافها. في هذا السياق، شدد الرئيس التونسي في الخطاب الذي ألقاه في السابع من تشرين الثاني نوفمبر 1994 على اهمية دور هذه الطبقة في بلاده بالقول: "ان قوة ومناعة المجتمع تكمن بشكل أساسي في صلابة وتوسيع رقعة الطبقة الوسطى. من هنا، تعتبر تونس هذه الطبقة احتياطاً استراتيجياً للنظام السياسي في وجه العاتيات من كل نوع. وترى في الحرص على نموها وتحسين أوضاعها وإدائها في المجتمع ضرورة لا يمكن التقاعس حيال مطالبها. المحور المتكامل عام 1955، كتب القانوني الفرنسي الكبير موريس دو فرجييه في كتابه "الأحزاب السياسية والطبقات الاجتماعية" يقول: "ان حلم الطبقات الوسطى يسمح بخلق حالة تضامنية بين صغار وكبار الرأسماليين من جهة وبين الموظفين والعمال المشاهرين من جهة اخرى". مما يعني ان ارتباط الطبقات الوسطى المشاهرة بالطبقات الوسطى الرأسمالية يؤدي في نهاية المطاف الى الدفاع عن مصالح المجتمع ككل. في ظل هذا التفكير المبني على قاعدة المحور المتكامل، نشأت مرحلة جديدة على صعيد تشكيل فكرة حديثة تتحدث عن الطبقة الوسطى وذلك على غرار ما حدث في تونس إبتداء من العام 1989. فبعد وصوله الى سدة الحكم بسنتين، عمد الرئيس بن علي وفريق عمله الى دراسة الصيغ الملائمة لخلق حالة من التواصل والترابط المتينين بين الدولة والمجتمع. وأخذت هذه الدراسات في الاعتبار، لا سيما لناحية مضامينها، الثقافة والمكاسب الاجتماعية المتجذرة تاريخياً في البلاد والمرتبطة عضوياً بالجانب الانساني. ويعلق المحللون الاوروبيون على ظاهرة بروز دور الطبقة الوسطى في تونس ومشاركتها المباشرة وغير المباشرة في عملية الاستقرار السياسي والاقتصادي بالاشارة الى "كون الموظفين، والكوادر وصغار التجار، والمدرسين، والمثقفين وجزء من المزارعين باتوا يشكلون اليوم واجهة التمثيل في هذا البلد"، مما يعني ان الطبقة الوسطى في تونس وتجربتها الناجحة في جذب غالبية مكونات المجتمع المدني اصبحت كبيرة لا يمكن الالتفاف عليها أو الاستغاء عن "خدماتها" تحت كل الظروف، كما اضحت بالتالي رهاناً بالنسبة الى الجميع. هذا ما شجع السلطات المحلية المختصة على وضع جملة من البرامج الاجتماعية الطموحة موضع التنفيذ. وتجدر الاشارة هنا الى "الصندوق الوطني للتضامن" المعروف باسم 26/26، نسبة الى رقم الحساب المفتوح بشأنه، و"البنك التونسي للتضامن" الذي يمول اصحاب المشاريع الصغيرة من خريجي الجامعات والصناعيين الصغار والمزارعين. كل هذه المبادرات الحكومية تخدم السياسة الداعمة للطبقة الوسطى. من ناحية اخرى، تحولت ظاهرة تطور الطبقة الوسطى في تونس تدريجاً الى نشوء نقاشات على أعلى المستويات في حين باتت غالبية القرارات ذات الطابع الاجتماعي - الاقتصادي تأخذ في الحساب مصالح هذه الشريحة الفاعلة والمؤثرة في المجتمع. وعلى أية حال، فان المحور التكاملي القائم بين الدولة والطبقة الوسطى في تونس هو حقيقة لا يقر بها الجميع فحسب بل سيشجع على ازديادها وثوقاً: يضاف الى ذلك كون هذا المحور يعمل بانتظام وبدقة متناهيين، فبروز حركة فعلية للطبقة الوسطى لا بد وان يوظف من دون إبطاء في عملية الانفتاح السياسي والتعددية الحزبية الجارية على قدم وساق في تونس. في هذا الاطار، يرصد بعض الدوائر المتخصصة في متابعة تطور الحركات ذات الأهداف الاجتماعية داخل الاتحاد الاوروبي، فاعلية الدور الذي ستلعبه الطبقة الوسطى التونسية في الانتخابات الرئاسية المقبلة والمقررة في تشرين الأول اكتوبر من السنة الجارية. كما وتتابع عن كثب المبادرات والتحركات التي تقوم بها منذ الآن المنظمات المهنية والاجتماعية والتي تسعى من خلالها الى اثبات وجودها في جميع القطاعات وعلى المستويات كافة. وتتحدث اليوم السلطات المحلية والصحافة التي اكتشفت اخيراً الأهمية العددية والاقتصادية والاجتماعية للطبقة الوسطى في تونس. لكن مفهوم هذه الطبقة لا يعود فقط الى وجود مجموعة متجانسة تمثل وزناً عددياً في المجتمع بل لانها تحمل في ثناياها ايضا تقاليد عريقة يمكن على الأقل احياؤها كي تزيد من حجم فاعليتها السياسية. وهي لا تتوانى، في ظل هذه الظروف، عن اثارة وتبني مبادئ الديموقراطية والاستقرار. واذا كانت الطبقة الوسطى التونسية تفرض نفسها في بعض الحالات على توجهات وخيارات الدولة، الا انه لا يمكنها، في المقابل، الالتزام بالدخول في عمليات الصراع السياسي. وهي تكون في وضعية مريحة عندما تلعب دور الوسيط او الاداري للشؤون العامة وللاقتصاد. بمعنى آخر تفضل ان تكون دوماً في خدمة الدولة وتطبيق سياساتها، لكن هذه الأخيرة بدأت تستبق الأمور من خلال تشجيع الطبقة الوسطى على الانخراط اكثر فأكثر في عملية التحول التي تشهدها تونس ونظامها على السواء. مما يعني ان هذه الطبقة باتت تقف اليوم أمام منعطف مهم يتلخص بامتحان جديد تكرم فيه أو تهان. وهذا يعود في نهاية الأمر الى قدرتها على استيعاب المستجدات الحديثة المطروحة من قبل القيادة السياسية في تونس التي تريد لها ان تخرج من دائرة مواكبة السياسات المرسومة وتنتقل الى دائرة المشاركة في صنع الفعل.