فن التصوير الفوتوغرافي في "يوم التأسيس" وأبراز التراث الجيزاني    خطة بريطانية فرنسية لنشر قوات في أوكرانيا    يوم التأسيس.. واستشراف المستقبل..    وكيل إمارة منطقة الرياض يثمّن التوجيه الكريم بإطلاق أسماء أئمة وملوك الدولة السعودية على 15 ميدانًا بالرياض    حملة توعوية عن "الفايبروميالجيا"    وادي الدواسر تحتفي ب "يوم التأسيس"    هيئة الهلال الأحمر بنجران تنفذ فرضية لتفعيل مسار الإصابات الخطرة    آل برناوي يحتفلون بزواج إدريس    محافظ رجال المع يدشن مهرجان البن الثاني بالمحافظة    «منتدى الأحساء»: 50 مليار ريال ل 59 فرصة استثمارية    أمير القصيم يدشّن مجسم يوم التأسيس تزامنًا مع يوم التأسيس السعودي    بالأزياء التراثية .. أطفال البكيرية يحتفلون بيوم التأسيس    برعاية مفوض إفتاء جازان "ميديا" يوقع عقد شراكة مجتمعية مع إفتاء جازان    Big 5 Construct Saudi يشهد توقيع مذكرات تفاهم كبرى ويكشف عن تقنيات متطورة تتماشى مع رؤية 2030    برعاية ودعم المملكة.. اختتام فعاليات مسابقة جائزة تنزانيا الدولية للقرآن الكريم في نسختها 33    بيفول ينتزع الألقاب الخمسة من بيتربييف ويتوّج بطلاً للعالم بلا منازع في الوزن خفيف الثقيل    عائلة أسيرة إسرائيلية ترفض حضور وزراء نتنياهو الجنازة    رونالدو: تشرفت بلقاء ولي العهد السعودي في يوم التأسيس    لأول مرة منذ ربع قرن.. دبابات إسرائيل تقتحم جنين    المملكة تهدي جمهورية بلغاريا 25 طنًا من التمور    مكافحة المخدرات تقبض على شخصين بالقصيم لترويجهما مواد مخدرة    الكرملين: انتقادات ترامب لزيلينسكي "مفهومة"    بنهج التأسيس وطموح المستقبل.. تجمع الرياض الصحي الأول يجسد نموذج الرعاية الصحية السعودي    فعاليات متنوعة احتفاءً بيوم التأسيس بتبوك    دامت أفراحك يا أغلى وطن    «عكاظ» تنشر شروط مراكز بيع المركبات الملغى تسجيلها    علماء صينيون يثيرون القلق: فايروس جديد في الخفافيش !    انخفاض درجات الحرارة وتكون للصقيع في عدة مناطق    8 ضوابط لاستئجار الجهات الحكومية المركبات المدنية    ذكرى استعادة ماضٍ مجيد وتضحياتٍ كبرى    لا إعلان للمنتجات الغذائية في وسائل الإعلام إلا بموافقة «الغذاء والدواء»    تمنت للسعودية دوام التقدم والازدهار.. القيادة الكويتية: نعتز برسوخ العلاقات الأخوية والمواقف التاريخية المشتركة    لا "دولار" ولا "يورو".." الريال" جاي دورو    ابتهاجاً بذكرى مرور 3 قرون على إقامة الدولة السعودية.. اقتصاديون وخبراء: التأسيس.. صنع أعظم قصة نجاح في العالم    " فوريفر يونق" يظفر بكأس السعودية بعد مواجهة ملحمية مع "رومانتيك واريور"    هيئة الصحفيين تدشن هويتها الجديدة    الداخلية تستعرض الإرث الأمني بأسلوب مميز    في ذكرى «يوم بدينا».. الوطن يتوشح بالأخضر    تعزيز الابتكار في صناعة المحتوى للكفاءات السعودية.. 30 متدرباً في تقنيات الذكاء الاصطناعي بالإعلام    الاستثمار العالمي على طاولة "قمة الأولوية" في ميامي.. السعودية تعزز مستقبل اقتصاد الفضاء    مذكرة تعاون عربية برلمانية    الصندوق بين الابتكار والتبرير    رئيس "النواب" الليبي يدعو لتأسيس "صندوق" لتنمية غزة    ضبط وافدين استغلا 8 أطفال في التسول بالرياض    مشروبات «الدايت» تشكل خطراً على الأوعية    جيسوس يُبرر معاناة الهلال في الكلاسيكو    الرافع للرياض : يوم التأسيس تاريخ عريق    نهج راسخ    الملك: نهج الدولة راسخ على الأمن والعدل والعقيدة الخالصة    جمعية رعاية الأيتام بضمد تشارك في احتفالات يوم التأسيس    الاتحاد يقسو على الهلال برباعية في جولة يوم التأسيس    500 لاعب يتنافسون في «بطولة السهام» بجازان    من التأسيس إلى الرؤية.. قصة وطن    بنزيما: الاتحاد ليس قريبا من لقب الدوري    الحياة رحلة ورفقة    فريق الوعي الصحي التابع لجمعية واعي يحتفي بيوم التاسيس في الراشد مول    الدولة الأولى ورعاية الحرمين    لائحة الأحوال الشخصية تنظم «العضل» و«المهور» ونفقة «المحضون» وغياب الولي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاسلام الأصولي والديكتاتورية العسكرية اذ "تتحالفان" ، في الشرق الاوسط، ضد ... "العمل"
نشر في الحياة يوم 13 - 04 - 1999

دخل القطاع الصناعي الى الشرق الاوسط دخولا حديثاً، وبمعنى ما مستورداً. لكن غربته لم تتغير مع الزمن. فما بين تكوين ديني وطائفي واثني، ونظام عسكري وقمعي، وحرب واستبداد، وتقاليد معينة في البحث والتأريخ، بقي تاريخ العمل ثانوياً في تاريخ المجتمعات، او ان هذه الاخيرة لم تظهر مرةً في مظهر عضوي ومتلاحم يندمج فيه... تاريخ العمل. انه دائماً الخط الموازي والملحق. فاذا كان تأريخ هوبزباوم للصناعة البريطانية، وتأريخ تومسون للطبقة العاملة البريطانية، تأريخين لبريطانيا، فهذا لا يصح في بلدان الشرق الاوسط حيث ظل السياسي سيداً مطلقاً والعمالي عبداً تابعاً.
والكتاب الذي حرره واعدّه اليس غولدبرغ، يضعنا وجهاً لوجه امام هذه المشكلة. ف"التاريخ الاجتماعي للعمل في الشرق الاوسط" وستفيو اذ يتناول تركيا وايران واسرائيل، فضلاً عن مصر وسورية والمغرب، يطرح المعضلة على سوية اقليمية، مستخلصاً في مقدمة غولدبرغ ان الكثير من جذور العملية الاجتماعية الجارية في المنطقة لا يزال كامنا في الاقتصاد السياسي العثماني. ومما يستنتجه الكاتب انه بانتهاء دورة تاريخية مديدة، يواجهنا اليوم الصمود النسبي للمشروع الصغير وللدكان والحانوت، وكذلك استبعاد النساء من مشاريع الدولة الكبرى، الامر الذي حال طويلا دون نَسوَنة العمل. مع هذا فسياسات الخصخصة الاخيرة يمكن ربطها بهذه النسونة. في المقابل فالانقسامات التي تعرضت لها قوة العمل، الديني منها والمذهبي، الاثني والجهوي، جعلت ضغط السياسيين عليها اكبر واهم بكثير من ضغطها عليهم. كما انتهى، جزئيا على الاقل، ارتباط العمل باليسار تبعاً للقمع، ولكن ايضاً بسبب تعاظم الاستهلاكية، وفشل الرؤية الاشتراكية التي حملتها الاحزاب الشيوعية، ثم سقوط الاتحاد السوفياتي.
الا ان ما نراه بوضوح بالغ في تجارب ثلاث على الاقل تركيا، ايران، مصر، ان الحركة الاصولية وحركة الاستبداد العسكري "تحالفتا"، من موقع الصراع، على خنق التاريخ الاجتماعي هذا واحتمال تطوره المستقل.
ففي دراستهما تركيا الحديثة، يلاحظ غونسيلي برِك وشيهان بيلغينسوي انها انتقلت ما بين 1923 و1990 من اقتصاد زراعي كاسح الى احد اكثر الاقتصادات تصنيعاً في "العالم الثالث". غير ان الحركة العمالية التركية لم تلعب اي دور نشط في التحولات السياسية والاقتصادية للبلاد، فبقيت، في احسن حالاتها، دفاعية تحافظ على وجودها.
فالمرحلة التأسيسية للجمهورية 1923-1945، اتسمت بالتصنيع الذي فرضته الدولة مثلما فرضت الوحدة الوطنية نفسها. وفي الحدود هذه نراها استخدمت حوافز عدة من اجل خلق طبقة عاملة صناعية، فوفّرت لها الكثير من الدعم والخدمات نقلاً وسكنا وملبسا الخ. لكن العلاقة المتأرجحة ما لبثت ان انفجرت في الحقبة التالية، الممتدة من 1946 الى 1960. فقد حصل نمو اقتصادي ملحوظ سهّلته الديموقراطية التي اوجدها الغاء الحزب الواحد في 1946 وظهور احزاب معارضة عدة. لكن ما ان حاولت النقابات الاستفادة من هذه التحولات بتحويل حقوق العمل الى موضوع مركزي في الحياة العامة، حتى تشارك الحزبان الرئيسان يومذاك، الجمهوري والديموقراطي، في تطويقها بوصاية الدولة الأبوية. ولم تكن عملية التمديُن الكبرى التي شهدتها تركيا حينها، بحيث نما عدد عمال المدن بين 1950 و1960، من 374 الفا الى 825، الا ذريعة للمزيد من الضبط والرقابة الصارمين. فحين حصل انقلاب 1960 على الحزب الديموقراطي وزعيمه عدنان مندريس، احست الطبقة العاملة بانها غريبة عن الطرفين: الغالب والمغلوب.
في حقبة 1961 - 1980 طرأت مشكلات من نوع مختلف نسبيا. فقد تصلّب وجود الطبقة العاملة، الشيء الذي سهّله دستور 1961 باقراره شرعية تنظيماتها النقابية وحقوقها. وبينما كان التصنيع يقفز بخطى متسارعة، دفعت عمليات المدْيَنة وتعاظم الهجرة من الارياف نحو توسيع الطبقة العاملة المدينية وتكبير القطيعة التي غدت تفصلها عن مداخيلها المتضائلة المتأتية من الارض. فلم تطل اواخر السبعينات حتى صارت المداخيل، التي ليست اجورا، اتفه من ان تُذكر.
بيد ان السمات الاخرى التي اتسم بها العمل آنذاك، تجسدت في:
1- الهجرة الى اوروبا الغربية لتلبية الاحتياج الى اليد القليلة المهارة والزهيدة الاجر. 2- تراجع وتائر نمو فرص العمالة في المجال الصناعي والمعملي، مقابل ازدهار الفرص في قطاع الخدمات. 3- نشأة بنية مفادها ازدواج سوق العمل: من جهة قطاع صناعي حديث ناهض على الاستيراد، ينتشر فيه العمل النقابي وترتفع الاجور. ومن جهة اخرى قطاع متوسط الحجم يعمل على انتاج السلع والخدمات الوسيطة لانتاج القطاع الحديث. 4- وهو الاهم: صحيح ان التصنيع القائم على الملكية الخاصة شهد بعض النمو، الا ان الدولة بدورها وسّعت حضورها في التصنيع، لا سيما في انتاج السلع الوسيطة والرأسمالية، ما عنى ان حوالي نصف قوة العمل الصناعية بات موظفا في القطاع العام. وهذا الاخير بدا خاضعا للتدخلات السياسية، وغالبا ما استُخدم كمولّد للعمالة التي يجنيها محازبو هذا الحزب الحاكم او ذاك.
وفي اواسط السبعينات شرعت آثار هذه السياسة الشعبوية في الظهور، فراح التضخم يرتفع صاروخياً، والقيمة الشرائية للأجور تتدنى بالوتيرة نفسها. على أنه في المناخ الليبرالي للستينات نشأت تنظيمات نقابية، يسارية وراديكالية، وكان هذا جزءاً من الجو النضالي الذي شارك فيه الطلبة ممن بدأ بعضهم حملة حرب عصابات مدينية. ومرة اخرى جاء انقلاب آذار مارس 1971 يقطع طريق البرلمانية التركية، ويشير الى محدودية الرهان على الاستمرار والتراكم.
اما حقبة 1980-1990 فكانت عناوينها الثلاثة: التعديلات البنيوية والقمع واستجابة الطبقة العاملة. فالهيكلة التي سهر عليها الانقلاب العسكري لكنعان افرين في 1980، تجاوباً مع مطاليب صندوق النقد والبنك الدولي، حررت العمالة والاجور من كل قيد. الا أن استمرار التضخم على تصاعده جعل ذاك التحديث الاقتصادي يتحول كارثةً في ما خص القدرة الشرائية للأجور. ومع ان النقابات الرسمية ايّدت الانقلاب، عادت حركة الاضرابات تتعاظم مع 1987 فصاعداً في ظل تفتت عمالي عاجز عن التأثير. واهم مما عداه ان الحركة الاصولية بدت تحل، لغةً وموقعاً، في المكان الذي سبق ان احتله اليسار الشعبوي.
وقصارى القول ان الحركة العمالية لم تنجح في ان تترك تأثيرات تُذكر على الحياة الاجتماعية والسياسية لتركيا، الشيء الذي لا يختلف كثيراً عما نراه في ايران كما يدرس تجربتها فالنتاين مقدم.
فجذور الطبقة العاملة الايرانية تكمن في محاولات التحديث النسبي التي قام بها الحكام القاجاريون في القرن التاسع عشر. لكن مع ان توسع الطبقة العاملة الصناعية جرى في الثلاثينات، بقي العمال نسبة ضئيلة وسط شعب زراعي.
ولئن اثّرت ثورة اكتوبر الروسية في ايران، من خلال آلاف هاجروا للعمل في مصافي النفط بباكو، بقي الاساس في ما قام به رضا شاه: فقد اعتمد اصلاحات اثمرت اقامة جيش وبيروقراطية مركزيين وتنمية الصناعة الحديثة والاستثمار الكثيف في البنية التحتية وارساء مؤسسات تعليم علماني. وشملت مشاريعه اقامة خط حديد عابر لايران، وموانىء جديدة، وطرقات بطول 12 الف ميل، ومعامل عصرية.
واذا احتوت ايران في 1925 على 20 معملاً صناعياً حديثاً نسبيا، فان العدد ارتفع في 1941 الى 346، فيما ارتفع عدد عمال المصانع الكبرى من اقل من الف الى اكثر من خمسين الفا. وبفعل صناعتي النفط والنسيج، واندماج عدد من الحِرف الصغرى، باتت قوة العمل الصناعية مع بدايات الحرب الثانية تفوق ال170 الفا.
وفي مقابل الاضرابات شُهر القمع الشاهنشاهي وحده، والذي لم ينته الا باحتلال الحلفاء ايران رداً على تعاطف رضا مع المحور. هكذا ساد جو من الحرية النسبية لعب خلاله الحزب الشيوعي توده دوراً نقابياً لافتاً، بينما نمت الصناعة الايرانية لا سيما القطاع النفطي. وهكذا ما ان انتهت الحرب حتى تحول النفط موضوعا اولا للحركتين المندمجتين الوطنية والنقابية، خصوصا وان حق التنظيم العمالي كان قد اقرّه قانون صدر في 1946. بيد ان عوامل اربعة قضت بالاخفاق على الحركة التي بلغت ذروة مجدها في اضراب خوزستان ربيع السنة نفسها، وعُد اكبر اضراب في الشرق الاوسط.
1- الطبيعة المتخلفة للمجتمع والتي تجسدت في بقاء العمال مجرد جزيرة، ولو كبيرة، في محيط زراعي. 2- استعداد الحكومة المركزية لانزال الجيش. 3- عداء القبائل الكبرى، لا سيما القاجاريين، لحزب توده "الملحد". 4- عزلة الجماعة العربية، في مناطق الخليج والنفط الحدودية، عن التنظيمات النقابية والحزبية وارتباطها بزعاماتها العشائرية والتقليدية.
وفي الحالات كافة فرغم مركزية النفط في الاحداث التي بدأت بتأميم محمد مصدق له عام 1951، واختُتمت باطاحته على يد انقلاب زاهدي في 1953، لم تمتلك الطبقة العاملة حضوراً تتفوق به على حضور الطبقة الوسطى او رجال الدين والبازار. وبالفعل انزل الانقلاب ضربة قاصمة بالحركة العمالية، فلم يكتف باعدام ناشطين من توده، بل اخضع المعامل والمصانع لرقابة بوليسية انتهت بحل التنظيمات العمالية في 1957.
قبل اشهر فقط كان أُجري أول احصاء للسكان تبين بموجبه ان الايرانيين غدوا يعدّون قرابة 19 مليونا، 31 في المئة منهم مدينيون. ولئن عرفت البلاد يومذاك عشرة مدن يزيد سكان واحدتها عن 100 الف، فان المقيمين في طهران كانوا قد بلغوا مليونا ونصف المليون. وفي موازاة القمع والتمديُن هذين شهد الاقتصاد الايراني طفرة ملحوظة منذ اواسط الخمسينات. فالى السياسة الحكومية في حماية الصناعات المحلية تدفقت معونات اميركية سخية، واتسع الاستثمار كثيرا ما بين 1951 و1961 لا سيما في النسيج ومواد البناء وباقي السلع الاستهلاكية. وكان ل"الثورة البيضاء"، او الاصلاح الزراعي، ان حدّثت بنية الاقتصاد ووتائر تغيراته، فضلا عن مستويات معيشة الكثيرين من الذين كسبوا أرضاً. كذلك ادى التصنيع المتسارع الى خلق شريحة من العمال المهرة التي أُخضعت بدورها للضبط الصارم ولنقابات مزعومة وكثيرة كانت الدولة تقدم على تأسيسها. ولئن استُخدم نقابيون عديدون في السافاك، فالقاعدة التي عُمل بها هي انه كلما كبر المصنع زادت ادوات اخضاعه.
بيد ان خريطة الارقام التي اثمرتها الحقبة هذه كانت مدهشة حقاً. ففي 1976 كان خُمس اليد العاملة يعمل في الصناعة، وهو رقم اعلى من مثلائه في البلدان "النامية" كافة، فيما ارتفعت حصة النساء داخل قوة العمل الصناعية المأجورة الى 18 في المئة. على ان القطاع التقليدي والريفي بقي كبيرا في الحياكة وصناعة السجاد والتبغ وبعض المآكل، كما بقي الوعي الطبقي ضعيفا على العموم، فصمد التماهي السائد مع الولاءات والروابط التقليدية، فيما عملت حداثة الانتقال الى المدن على ابقاء التعريف الذاتي الجديد خجولاً. وكان طبيعياً في هذا المعنى، وبالعطف على القمع، ان تتراجع قدرة التأثير السياسي، وليس الاقتصادي، للطبقة العاملة. وفعلا ضجّت السبعينات بتحركات مطلبية، لا سيما وقد تصدّعت، في 1977، استراتيجية التنمية المؤسسة على ارتفاع اسعار النفط بعد 1973. الا ان هذه التحركات ما ان أُريد تسييسها حتى اصطدمت، فضلاً عن البوليس والسافاك كعدو في الحاضر، بعدو آخر للمستقبل: ذاك ان البازاريين الذين استهدفتهم حملة رسمية معادية للربح، ومتأثّرة بأجواء الأزمة الاقتصادية، بحثوا عن الدعم في بعث حلفهم التقليدي مع الملات. هكذا بدأ التحالف الشعبوي عمله الذي لن يتوقف الا بمصادرة السياسة كلياً.
لقد لعبت الطبقة العاملة، متأثرةً بالأزمة، دورها في اضعاف النظام من خلال اضراباتها وتظاهراتها، علما بان القطاع الاكثر تقدما في القوة العاملة، اي عمال الصناعات الحديثة في النفط والبتروكيماويات والكهرباء، كانوا الشريحة الاجتماعية الاخيرة التي تنضم الى الاضراب العام الذي امتد على امتداد 1978. وتشكلت "المجالس العمالية" التي وجدت من يشبّهها بالسوفياتات الروسية، فاعترفت السلطة الخمينية بها وقدمت لها بعض التنازلات. لكنها، في مناخ احتجاز رهائن السفارة الاميركية، اتجهت الى تحطيمها، حتى اذا اطيح ابو الحسن بني صدر بدأت الحرب المعلنة على اليسار وعلى المجالس.
وهنا تضافرت وجهتان لتكملا شطب الطبقة العاملة من المعادلة السياسية: الاولى شعبوية الثورة واستبداديتها والحرب بينها وبين العراق، والثانية التردي الكبير الذي أدى الى انقباض في حجم قوة العمل الصناعية وتوسع في مجالات الاستخدام الذاتي.
وانعكاس الدولة وسياستها على العمل له مثال حي آخر هو مصر التي يتناولها مُعدّ الكتاب اليس غولدبرغ، مستعيداً الاحتلال البريطاني في 1882، الذي احدث تغييرات هائلة في حياتها الاجتماعية والسياسية. لكن اذا كانت الحقبة البادئة بالاحتلال والمنتهية بالجلاء في 1954، هي حقبة اندماج مصر في انماط التبادل التجاري العالمي وسوقه الرأسمالية، ومن ثم ولادة الفئات الاجتماعية الجديدة، فان الحرب العالمية الثانية اكتسبت اهمية خاصة داخلها: فهي كانت حقبة من المكاسب للحركة العمالية، خصوصا مع اتيان البريطانيين بالوفد الى رئاسة الحكومة خوفاً من العواطف المؤيدة للنازيين في القصر الملكي نفسه. هكذا قام الوفد بتشريع الوجود النقابي، مضاعفاً قوته، الا انه فعل هذا مصحوبا بتسجيل النقابات في وزارة الشؤون الاجتماعية. وقد احتفظت الحكومة لنفسها بالحق في الغاء التسجيل وشطبه، وحل النقابات من ثم. على انه في خلال عام ونصف العام نشأ أكثر من 300 نقابة ضمت 120 الف عضو. والى ذلك شهدت سنوات الحرب انتعاشا كبيرا في الطلب على النسيج واثاث البيوت. ولئن ترافق هذا مع التوسع النقابي ونشوء "أمكنة" متعاظمة للسكن العمالي، فان التشريعات التي حققها الوفد ما لبثت ان لحقت بالتطورات الجديدة. وتساوقت الوجهة هذه مع تحولات ليبرالية وعلمانية طالت المحاكم والقوانين، من دون ان تخف ظروف القسر والاعتباط التي ظل يتسم بها العمل في المصانع.
وفي موازاة ذلك شهدت الحركة الشيوعية، على تعدد تنظيماتها، قوةً طرحت على جدول الاعمال انشاء فيدرالية نقابية جديدة في اواخر 1951. الا ان حريق القاهرة ومن بعده انقلاب يوليو، قلبا الاتجاه رأسا على عقب. ولم يتأخر النظام العسكري في مباشرة هجومه فكانت مواجهة كفر الدوار. وبالتدريج اتضح الطابع الكوربورائي في امساك الحكم الجديد بالاقتصاد وادارته له، بما في ذلك تنظيم العمل النقابي وضبطه.
وفي مقابل التأميمات والمصادرات صودر المجتمع ايضاً. ولئن بلغ الرقم الاسمي لعدد المنتسبين الى النقابات في 1964 مليونا ومئة الف، الا ان فعاليتهم كانت صفرا. والراهن ان العمل احتل اكتسب دورا رمزيا مهما في شرعية الثورة. فقانونيا غدا من المطلوب ان يكون نصف اعضاء مجلس الامة البرلمان، افتراضا من العمال والفلاحين، وذلك حرصا على عدالية الديموقراطية كما قيل. الا ان من كان يختارهم الحكم العسكري كانوا من بيروقراطية العمل الملتحقة بالسلطة، ما جعل القرار هذا يقوّي الحكم المركزي، البالغ العداء للشيوعية حتى 1964 على الاقل، طاردا المهن الحرة من حلبة التمثيل السياسي الذي احتلته في العهد القديم. ومع انور السادات وسياسة الانفتاح، انفجرت التحركات المطلبية التي بلغت ذروتها اوائل 1977. لكن الهجرة الى الخليج ومقتل السادات مصحوبا بالصعود الاصولي، ضيّق كثيراً قناة الصلة بين العمل والتأثير السياسي. والحق ان التوترات الاجتماعية المتعاظمة لم تُترجم دعماً للنقابات ولا لقوى اليسار. ففي انتخابات 1986، مثلا، نال "حزب التجمع" اقل من 2 في المئة من الاصوات. واذا نال "حزب العمل" 16 في المئة، فهذا ما لم يكن ليحصل لولا تحالفه مع الاخوان. اما "اشتراكية" العمل فكثيراً ما تراجعت لمصلحة قوميته واسلاميته. كذلك انعكس الصعود الاسلامي على مناطق السكن العمالي التي تعرضت لتحولات بارزة منذ 1952. ففي امبابة وشبرا، كما في الاحياء الشعبية من الاسكندرية وجد الانتقال الى الاسلام السياسي ما يعززه في انخفاض سعر النفط وتوقف الطلب على العمالة المصرية في بلدان الخليج.
× كاتب ومعلّق لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.