تستقيم قراءة كتاب حازم صاغية، "وداع العروبة" دار الساقي من مدخلين، من الفصول الأخيرة، أي من ولوج "عصر معولم ما بعد قومي". فيسري الكلام عندها طيِّعاً في الآثار البينة للعولمة على المجتمعات كافة، وعلى القوميات عموماً. ويغدو حديث النهايات وترانيم الوداع عادياً منذ ان افتتح فوكوياما هذا النقاش بنهاية التاريخ، وتابعه أقران له بنهاية: الجغرافيا، والديموقراطية، والسيادة، والدولة، والإيديولوجيا، ونهاية القومية. والحال كذلك، فلماذا يُشكل "القوم - الشعب": العرب بتعبير وضاح شرارة على غير ترتيب، ورابطهم "العروبة"، تاريخاً ولساناً استثناء في هذا المجال؟ ويمكن مباشرة الفصول الأولى على خشية، فالعنوان بعيد عن اثارة الهوى، إن لم نقل الحنين. فللوداع شجون وللعروبة كما داعبت مخيلتنا واحلامنا شؤون. لا يفعل الكاتب سوى ان يروي "قصة موت مُعلن"، وشاءت المصادفة ان بطل ماركيز، في العنوان المُستعار، شخصية عربية هو "سانتياغو نصار"، وبطل صاغية هو "الوحدة العربية"، كما صاغها أهلها على مثال القوميات الاوروبية، مأخوذين "بفلسفة القوة والضخامة". ويسند الكاتب اشهاد نعي "موت الدعوة الوحدوية" الى حدثين جليلين: زيارة السادات الموصوفة الى اسرائيل، التي لم تنبت كالفطر في الغابة، وغزو العراق دولة الكويت. ويتبين ان استخدام الكاتب لتعبير "الميت" لا يقع موقع الصدفة المحضة. اذ ان التعبير ضارب في تربتين: تربة دينية وهو من كان خمينياً باعترافه فالله "يخرج الحيَّ من الميت"، وتربة ماركسية ترى كيف ان الماضي يمسك بالحاضر كما يمسك الميت بالحي. وقصارى القول ان في الحالين توقاً الى التحرر، وانتظار ولادة جديدة. ويشدد المؤلف، بعد القيام بواجب وداع الميت وإهالة التراب عليه، على الدولة، "السمة الكونية" الجديدة، بوصفها القياس الجديد للعلاقات السياسية، تعينه على ذلك تجارب الأمم الحديثة. وهو يأخذ على فكر الوحدة صدوره عن المشرق، وعلى منظّريه سوريتهم الحصري، عفلق، البيطار، زريق، الأرسوزي، ونأي هذا الفكر عن الواقع الجغرافي - السياسي، أو مجافاته له. وهذا الزعم لا يقدح في فكرة الوحدة، كما لا يقدح في الفكرة السورية القومية الاجتماعية صدورها عن اللبناني، انطون سعادة، ولا يقدح في الوحدة الأوروبية صدورها عن الفرنسيين - بحسب ما هو شائع. والعروبة التي لم تتحقق وحدتها يمكن مقاربتها على انها يوتوبيا، أو ايديولوجيا، تتغذى من نقيض الواقع، لا من الواقع نفسه، وترى ان اللون الزهري حيث ينتشر الأسود. فأمام واقع التجزئة تتفكر الوحدة، وأمام هول التخلف تداعب مخيلتها ثمرات التقدم. ويضع صاغية يده على جوهر المشكلة، وهي نظرة العروبة الى الدولة على انها وليدة التجزئة الاستعمارية. والطبيعي لا يقوم الا على نفي الاصطناعي. فقد سادت نظرية القضاء على الدولة و"تسخيف دورها وأهميتها"، وتلك هي المسألة. فالعروبة، بحسب فهم الكاتب لها ولإواليات اشتغالها وكما فعلت في "حزب الكتائب"، فانها قوضت الدول - النوى، وصورتها شراً محضاً "لمصلحة وهم إيديولوجي منفوخ لا يتورع عن الاستبداد" على حساب الدستور والحركة السياسية، ولا يبقي من وظائف الدولة سوى السلطة. فأوديب ملكاً أو رئيساً، لا يتورع عن قتل الاب ليحظى بالأم والسلطة. وباسم القومية العربية قُتلت الدولة، على ما يرى الكاتب، ثلاث مراث: بنفيها الايديولوجي، وبالغاء وظائفها المدنية لمصلحة السلطة، وباشاعة هذا الرأي. فالدولة القطرية انشأت لنفسها نصاباً قوامه: الشخص واستبداد السلطة القوة، وتطابق بين السياسة والاقتصاد يُنتج زبونية فاقعة، وتماهٍ بين السلطة والمجتمع، وتغذية الحس العصبي والأهلي. وهذا الأمر جعل التغيير مسألة مستعصية، تعادل "التفجير الاهلي" للكيانات العربية. ولا يقنط المؤلف رغم سوداوية المشهد. فهو يدعو الى العمل السياسي بوجه السلطة الفائضة، والى التعامل مع الدول العربية بوصفها تعبيراً عن العصبيات الوطنية، وارساء غلبة الحاضر الدولتي على الماضي. ويُعارض صاغية فكرة القومية العربية، كما صاغها منشؤوها نقلاً عن التصور الالماني، بفكرة القومية الدستورية التي تعلي من شأن القانون والمواطنية على حساب اللغة والمشتركات الاخرى. فثمة رصد ينجزه الكاتب يحول برأيه دون لعب اللغة العربية دوراً قومياً، فما بالك عالمياً، منه: ارتفاع نسبة الأمية، وتنامي اللهجات المحلية، والفارق بين المحكي والمكتوب. وهو يستوحي لوكاتش ليقول ان الوحدة تنتسب الى الزمن الملحمي، ولكنها تنهار في زمن الرواية والفرد. وبدورنا نلجأ الى جاك دريدا الذي يرى انه لا حرج من الاعتراف بالدور الوجودي للغة القومية شريطة النظر من خلالها الى عوالم اخرى وممكنات مغايرة، وهو التحدي الراهن للغة العربية. واذا كانت لغة الضاد فخر العرب في هذه الحال، فهل تبدو الثقافة عند الكاتب أفضل حالاً؟ فهو اذ يرى الى إنشطارها، وغلبة التمثيل القطري في الأدب، لا يُمعن النظر في ما أحدثته السلطة الفائضة بالقهر من توحيد في المعاناة والهم عند المواطن العربي عبرت الثقافة، بادوات مختلفة، عن قسم منه. فاهتمام الوطنيات العربية بالتأريخ لكياناتها وجماعاتها وكتّابها ومؤرخيها، يتغذى احياناً من تيارات العلوم الانسانية المستجدة، وبالتأكيد "على حساب الوعي القومي" كما يدرك المؤلف ذلك. وهو يُقر بان الامر لا ينحصر في النزاع بين عربي ووطني، اذ يتدخل البُعد العالمي ليعيد تشكيل الحاجات والأذواق. وهناك ايضاً، كما يقول "العناصر الاساسية الباقية من التراث المشترك والتي تقبل التحول، ولا تقبل الشطب والالغاء، وفي طليعتها الاسلام بثقافته وتراثه". ويشدد صاغية على العلة الاساسية: اعتصار الدولة على يد السلطة. وللوطنية إوالية اشتغال يعيّنها صاغية حتى في ما يسميه "النفسية"، بعد ان ينفي وجود نفسية واحدة عربية مشتركة. ومن أبرز تعبيراتها الموسيقى والاغنية. واستناداً الى دراسة للاسرائيلي عمانوئيل سيفان ينتهي الى ان كل دولة عربية حاولت انشاء "أساطير محلية" ترفد التأسيس الوطني، وتستكمل عدته ببعض الرموز المشتركة، تعبيراً عن "لحظة التوازن بين رغبة الدولة أو سلطتها وبين نفسية سكان ذلك البلد" على مثال الاعياد والمناسبات، ويلحظ فيها غلبة آلية الشطب والالغاء. ولا جدال في ان التاريخ السياسي الحديث لا يشهد بوقائعه لمصلحة الوحدة كما عاين ذلك الكاتب، وقد ذهب مذهبه باحثون كثر انتهوا الى انتصار "الدولة القطرية" وأولوية الجغرافيا السياسية، والإفتقاد الى القطر الجاذب أو الاقليم القاعدة. وما مآل القضية الفلسطينية واتفاقيات السلام، وما انتهت اليه مصر وانتهى العراق الا امارات دالة على الاذعان الى "النازع الوطني" الدولتي على حساب "النازع القومي" الوحدوي. وتراجع الوحدات، أو انهيارها، يقرأه المؤلف قانوناً يحكم العالم المعاصر مع استثناءاته طبعاً. فالتحول الحادث في العالم يجعل الوحدة الدمجية مسألة معقدة بما لا يقاس. وفي ظل مناخ كهذا يغدو الحديث عن الوحدة الاقتصادية نافلاً. وفي المثال العربي يلحظ الكاتب إهمال هذا الشق من جانب النظرية القومية، وسيادة الخطاب السياسي "الإيديولوجي" بديلاً عن المصلحة والحاجات الفعلية. وبما ان سمة نهاية الألفية الثانية هي انفتاح العالم بعضه على بعض، فان العلاقات البينية عموماً، والعربية تحديداً، تغدو عند صاغية صعبة، لأنها تُعاند الحرية الاقتصادية والطبائع الاستهلاكية للبشر معاً، فضلا عن الأعطاب البنيوية الخاصة بالاقتصادات العربية. وبوجود الكون المعولم، وغياب الرهان على العلاقات البينية العربية، يغدو طبيعياً تداخل العوالم - فينجذب الخليج الى آسيا، وينفتح المغرب على اوروبا، وتلعب اتفاقية "الغات" دوراً توحيدياً غير منتظر فيسعى الاقتصادي للثأر من السياسي تاركاً خلف ظهره الإيديولوجيا. ويشدد الكاتب على مفاعيل العولمة وصياغتها للهموم الانسانية المشتركة على حساب الأطر الوطنية الضيقة، وصولاً الى تجاوزها. فيغدو نافلاً الكلام على الوطن أو الهوية، أو انه يقع في دائرة الحنين، مع تنامي حركة الهجرة الواسعة. فعلى أنقاض التركيب الطبقي القديم ينهض العالم على مشهد ثقافي متقارب عماده "الطبقة الوسطى العالمية العابرة للقوميات". ولا يثمر وصف المشهد الكوني الجديد عند المؤلف يأساً، وهو "إحدى الراحتين" كما قال الداعية القومي الدكتور قسطنطين زريق، بل يثمر دعوة الى الإنخراط في "سبيل المشاركة في عصر معولم ما بعد قومي". وفي وجه اشتداد العولمة يرى صاغية الى دور الدولة السلطة الفائضة عندنا في اقامة شبكة الأمان والحماية، ويتساءل: هل ننجح، كعرب، في تشييد ما غدا تجاوزه ضرورياً باسم العولمة؟. السؤال مطروح. * كاتب وجامعي لبنان