تحتل قضية التضحية في الأديان التوحيدية أهمية ملحوظة ترافق أهمية قضية الخلاص، تلك القضية التي اكتسبت أهميتها مع بروز عقيدة البعث والخلود، ومن ثم الثواب والعقاب في عالم الغيب. ففي اليهودية، أولى شرائع التوحيد، كان تجذر حس (الخطيئة) (الأصلية) التي ارتكبها آدم وبسببها، خرج من الجنة. لقد غضب الله لأن الإنسان أكل من الشجرة التي نُهي عنها، وهي شجرة معرفة الخير والشر أو شجرة المعرفة الإلهية، فقال الرب الإله: «هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد...» (تك، 3: 22). ومن هنا حاقت اللعنة بالإنسان لأنه أكل من الشجرة، وبالمرأة لأنها استمعت إلى غواية الحية، وبالحية لأنها سولت لهما هذا العصيان. وكان قضاء مبرماً على نوع الإنسان كله بعد آدم. ولكن كان ممكناً اتقاء الخطيئة ونتائجها بالصلاة والتضحية، عبر تقديم الذبائح وإيقاد المحروقات التي كانت تقدم تكفيراً عن شرور الإنسان وآثامه، سواء من قبل آدم وحواء أم قايين (قابيل في القرآن الكريم) وهابيل أو إبراهيم وإسحق ويعقوب أو أيام موسى، إلى أن نصل إلى خروف «الفصح» اليهودي، أو أضحية العبور إلى الحرية، التي قدمها شعب إسرائيل الخارج من أرض مصر، عبر سيناء، إلى أرض كنعان «الميعاد»، والذي كانوا يحتفلون به مرة واحدة في كل سنة عبرية. وكان الاعتقاد السائد في أول الأمر ألا يؤكل لحم حيوان إلا إذا ذبحه كاهن وباركه، وعرضه على الإله. كما كانت عملية الختان نفسها من أعمال التضحية، وربما كانت فدية لتضحية أخرى أشد منها قسوة يكتفي فيها الإله بأخذ جزء من كل، وكان الحيض والولادة، كالخطيئة، يدنسان المرأة ويتطلبان تطهيراً ذا مراسم وتقاليد، وتضحية وصلاة، على يد الكهنة. واستمر ذلك الإدراك إلى أن جاءت الأسفار المتأخرة، خصوصاً إشعياء الثانى، وحزقيال، فأعلنت بصراحة وبوضوح: أن الله عادل، وعدله مطلق، وهو يقضي بأن يعاقب المخطئين. وأن الله قدوس، منزه عن الخطيئة. وهو منزه أيضاً عن مصالحة الخطأة من بني البشر من دون فعل تكفير أو ثمن كفارة معادل للخطايا البشرية. وفي المسيحية نجد ديانة يقوم كيانها كله على مفهوم التضحية وفكرة الفداء، فهي ليست ديانة تحتوي على فكرة للخلاص، بل هي بالأساس فكرة خلاصية ارتسم حولها معمار الديانة كله. والخلاص هنا لا يمكن فهمه إلا من إثم الخطيئة الأولى/ الأزلية. وهنا يقرر بولس في رسالته إلى أهل روما أن الأكل من الشجرة هو أصل الشر في العالم الإنساني وكفارته الموت الذي يصيب الجسد ولا تكون كفارة الروح إلا بفداء السيد المسيح (بولس، رو، 5: 14 17). ولأن الخطيئة «أصلية» يبدو المسيحي التقليدي طبعاً عاجزاً عن تحقيق الخلاص الذاتي، محتاجاً دوماً إلى وسيط خارجي، فكان المسيح هو المخلص، ثم كانت الكنيسة بالوكالة عنه، وباعتبارها امتداداً لجسده ومحلاً لروحه في الأرض، راعية الإيمان والرقيب عليه، فلا إيمان من دون رعايتها ورقابتها ووساطتها. واستمر ذلك الفهم حتى هبت رياح النزعة الإنسانية أو (ثورة الفردانية) على العقل الغربي الحديث، ثم فلسفة التنوير التي أحلَّت عقيدة التقدم، كمخلص جديد/ حديث/ دنيوي، بديلاً من ركام معقد من الفكر المسيحي التاريخي المتمحور حول الخطيئة والخلاص. وأما في الإسلام، كشريعة خاتمة، فنجد فكرة التضحية تتنازل عن مركزيتها وتعود إلى حجمها الطبيعي، مجرد فكرة طقسية تشهد تقدمة حيوانية (خروف غالباً) كاستعادة رمزية لحدود الواقعة الخاصة بالفداء الإلهي لإسماعيل عليه السلام عندما قرر أبوه ونبي الله إبراهيم أن يذبحه طاعة لأمر الله، وليست لها، من ثم، دلالة الخلاص من خطيئة «أصلية» غير قائمة أصلاً في الإسلام. نعم، يحكي القرآن عن خطيئة آدم وحواء والأكل من الشجرة، بيد أنه لا يعتبرها خطيئة أصلية تتابع النوع البشري الذي بات، جراءها، ذا طبيعة فاسدة مدنسة محكوم عليها بالدونية، بل إن آدم نفسه الذي ارتكب الزلة الشيطانية، أصبح أول الأنبياء. أما خروجه من الجنة فلم يكن سقوطاً بمعنى الكلمة بل ذريعة لخلق أفق الإنسان الواسع، وتبريراً لقصة الخلق. وهنا لا بد من التساؤل حول معنى الخطيئة في الإسلام؟ إنها كل فعل سيء أو شرير يقوم به الإنسان، يخالف فيه تعاليم الله وغاياته في الوجود. إنها بالقطع ليست أزلية ولا موروثة من آدم، إذ لا يتصور الإسلام أن يُحاسب إنسان على جريرة آخر، فالمسؤولية فيه فردية: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، لأنها قرينة حرية الإرادة، وفضيلة الاختيار. كما أنها ليست حتمية بأي معنى، إذ تواجهنا المصاعب والاختبارات كل يوم وربما كل ساعة، ننتصر عليها فنستطيع تجاوزها أحياناً، ونقع في شراكها نتيجة لضعف إرادتنا أو قوة شهوتنا في أحيان أخرى. ولكن وقوعنا في الخطيئة لا يعني هلاكنا الأبدي وإنما فقط حاجتنا للتوبة إلى الله. على هذا النحو يكون الخلاص في الإسلام بالإيمان والأعمال معاً، وليس فقط بالأعمال، كما قالت مسيحية العصور الوسطى الكاثوليكية، أو بالإيمان فقط، كما ادعت المسيحية البروتستانتية السابقة على التنوير. يستطيع المسلم تحقيق خلاصه الذاتي، عبر طرق شتى تأتي على رأسها العبادات خصوصاً الصلاة التي تمحو السيئات بل تنهى عنها كنوع من الوقاية يسبق العلاج حيث يقول القرآن الكريم: «وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين» (سورة هود: 114)، ثم الصدقات أو الكفارات: «إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير» (سورة البقرة: 271). وعلى رغم أن القرآن يروى قصة الفداء باعتبارها حدثاً تاريخياً، يفرض على الحاج أن يعيد تمثلها بتقديم أضحية، يفترض أن يقدم مثلها كل مسلم قادر، فإن مقصود التضحية هنا لا ينصرف إلى تحقيق الخلاص من خطيئة أصلية أو لعنة أبدية، بل إلى تكريس وعي المسلم بتاريخ ومسار نبوات الدين التوحيدي، وشرائعه السابقة. * كاتب مصري