في أعقاب انتهاء الحرب الباردة مباشرة، واختفاء الاتحاد السوفياتي كقوة أعظم من المسرح الدولي، تركزت الأنظار على الولاياتالمتحدة باعتبارها القوة التي خرجت "منتصرة" من هذه الحرب، وأصبحت تملك هذا "التجمع الفريد" من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والديبلوماسية التي لا تتحقق مجتمعة لأي قوة دولية قائمة. ودفع هذا الوضع بعدد من المؤرخين والاستراتيجيين الأميركيين الى التنبؤ بأنه "إذا كان القرن العشرون كان قرناً أميركياً، فإن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً أميركيا كذلك". وبدت ما أصبح يُعرف بمدرسة الاضمحلال التي قادها المؤرخ الأميركي بول كيندي، وتنبأت في نهاية الثمانينات باضمحلال القوة الاميركية مثلما حدث لقوى وامبراطوريات سابقة، بدت هذه المدرسة في موقف ضعيف. واستخدم المبشرون بالقرن الاميركي المتجدد وضع أميركا الجديد لكي يؤكدوا، ليس فقط حق الولاياتالمتحدة وقدرتها على القيادة العالمية، بل أيضاً على مسؤولياتها عن سلام العالم واستقراره. وإن مثل هذا السلام يحتاج دائماً الى قوة قادرة على فرض قواعد السلام وعلى التدخل بالقوة إذا اقتضت الضرورة للمحافظة على استقرار النظام الدولي، واستعانوا في هذا على ما قاله مورغناتو من أن "أمة ما يجب أن تمسك بالميزان وأن تكون محكماً في النظام الدولي وتضفي ضبط النفس والسلم عليه". وكتب صمويل هانتغنتون في هذا الوقت "إن عالماً من دون الزعامة الاميركية سيكون عالماً يتسم بالعنف وعدم النظام بشكل أكثر، وأقل ديموقراطية ونمواً اقتصادياً من عالم يكون فيه للولايات المتحدة نفوذ أكبر من أي بلد آخر في تشكيل الشؤون الدولية". وذهب بريجنسكي الى النظر الى أصدقاء اميركا وحلفائها كتوابع وروافد. وتوقف دعاة الهيمنة والزعامة الاميركية أخيراً عندما اعتبروه المفارقة التي صاحبت فضيحة مونيكا لوينسكي، والمخاوف التي صدرت عن عواصم عالمية، كانت في وقت قريب تهاجم وتحذر من الهيمنة الاميركية، المخاوف مما تعرضت له الرئاسة الاميركية من ضعف. إذ كتب أحد المثقفين الفرنسيين البارزين "أن هؤلاء الذين يتهمون الولاياتالمتحدة بأنها شديدة الوطأة يُصلّون من أجل نهاية سريعة لهذه العاصفة"، وكتبت جريدة ألمانية ليبرالية، كانت منذ شهور تتهم الولاياتالمتحدة بپ"الاستعمار المقنع الجديد"، تعبر عن قلقها من "ترك مشاكل الشرق الأوسط والبلقان وآسيا تُحل من دون مساعدة الولاياتالمتحدة ورئيس اميركي يحظى بالاحترام". غير أنه بعد أن انحسرت هذه العاصفة، وبدأ الرئيس الاميركي يستعيد توازنه ويؤكد الدور الاميركي في عدد من الأزمات الدولية، عادت تردد الاتهامات القديمة حول الهيمنة الاميركية ودورها الذي تريد أن تفرضه على النظام الدولي. هذه المفارقة هي التي أمسك بها أنصار الهيمنة الاميركية للتدليل على دعواهم عن الدور الاميركي الجوهري في المحافظة على النظام الدولي. ويشددون هجومهم على من يدعون الى عالم متعدد الاقطاب، خصوصاً الأوروبيين منهم الذين يدعون الى مثل هذا العالم من دون أن يدفعوا ثمنه ومتطلباته ويطالبونهم، بأن يزيدوا موازناتهم الدفاعية بدلاً من انقاصها، وأن يأخذوا القيادة في أزمات مثل البلقان بدلاً من الانتظار حتى تتحرك أميركا، ويصفون ما تنادي به فرنسا وروسيا وغيرهما من عالم متعدد الأقطاب بالتعدد الزائف، فهم يريدون رأياً متساوياً في أزمات مثل العراق وكوسوفا من دون أن يمتلكوا قوة مساوية، وما يريدونه حقاً هو زيادة مكانتهم على حساب القوة الاميركية، ومن دون أن يكونوا مستعدين لملء الفجوة التي ستترتب على تهميش الدور الاميركي، وفي الوقت نفسه يريدون تحقيق مكاسب قصيرة الأجل ومالية في الغالب. ويبدو أن هذا التيار الفكري لم يكن بلا أصداء في البيانات والفكر الرسمي الاميركي، إذ ترددت في تصريحات وزيرة الخارجية الاميركية وغيرها من المسؤولين الاميركيين عبارات مثل: "الأمة التي لا غنى عنها"، و"الدولة ذات المسؤولية الفريدة"، و"الضمير الوحيد للعالم". غير أن هذا التيار وتصاعده في الدعوة والدفاع عن دور أميركي مهيمن في الشؤون الدولية لم يمر من دون نقد وتفنيد من مؤرخين واستراتيجيين أميركيين هم في الواقع جزء من التيار الذي أثار، ومنذ بداية نهاية الحرب الباردة، تحفظات على ما يرد على القوة الأميركية من قيود داخلية وخارجية تحد من قدرتها على رسم استراتيجيات عالمية وتنفيذها في الوقت نفسه. وعلى رغم أن نقاد الهيمنة الاميركية يبدأون بالاعتراف "بوضع اميركا الاستثنائي دولياً"، بعد الحرب البادرة وأنه ربما منذ روما القديمة لم تتفوق قوة على منافسيها مثلما تفوقت أميركا بعد الحرب الباردة عسكرياً، حيث تحتفظ بالقدرة على الوصول إلى أي منطقة في العالم خلال ساعات، كما أصبح الاقتصاد الاميركي موضع حسد العالم، إلا أنهم في تحليلهم لهذا الوضع الاستثنائي يركزون على عدد من الاعتبارات التي لا يناقشها دعاة الهيمنة الاميركية والتي تتعلق بما تحدثه تلك الهيمنة على: النمو الداخلي الاميركي وإمكاناته، الشخصية الاميركية، ما تثيره من ردود فعل عكسية دولياً، وعلى ما قد تفقده أميركا من فرص عالمية. ففي ما يتعلق بالاعتبار الأول، يرى نقاد الهيمنة الأميركية أنه اذا كان دعاة الهيمنة يعتبرون أن الثمن الذي يمكن ان تدفعه اميركا يمكن احتماله، إلا أنه من الصعب عليهم أن يبرهنوا بأن الولاياتالمتحدة سوف تستمر في تحمل هذا العبء أو زيادته، ويستخدمون الالتزام الاميركي في البوسنة باعتباره يقدم نظرة الى المستقبل. فقد قُدر للالتزام الاميركي في البوسنة في البداية 5،1 بليون دولار، إلا أنه تعدى ذلك الى 7 بلايين في نيسان ابريل عام 1998، ويستمر في التزايد لسنوات مقبلة. وعن قضية مثل توسيع حلف الاطلسي، فإن أكثر التقديرات تحفظاً يوحي بأن دافعي الضرائب الاميركيين سوف يجبرون على المساهمة ب 25 - 30 بليون دولار سنوياً على مدى السنوات العشر المقبلة لتوسيع الحلف، وربما سيكون المبلغ أكثر، أخذاً في الاعتبار أن توسيع الناتو هو فقط إحدى الركائز المطلوبة والمكلفة لبناء الهيمنة الاميركية، كما أنه ليس هناك حدود جغرافية واضحة للالتزامات التي سيفرضها السعي من أجل الهيمنة الأميركية. اما الاعتبار المتصل بتأثير سياسة الهيمنة على الشخصية الأميركية فإن نقاد هذه السياسة يرون لها آثاراً تآكلية على علاقات البلد الداخلية، فبفعل هذه السياسة، فإن اميركا يمكن ان تتطور الى مجتمعين، ليس فقط السود في مواجهة البيض، وإنما بين الذين لديهم اتجاهات عالمية، مقابل من لديهم اتجاهات قومية، او بين هؤلاء الذين حققوا بشكل مباشر في السنوات الاخيرة مكاسب من عولمة الاقتصاد، وهؤلاء الذين دفعوا الثمن في صورة خدمة عسكرية، وفقدان الوظيفة، والأجور المنخفضة. ويبدو التعاون بين هذين المجتمعين في ان المجتمع الاول يمثل 10- 25 في المئة من الشعب الاميركي، وافراده وممثلوه يسافرون بشكل واسع ويتحدثون لغات اجنبية، ويشعرون بالراحة في طوكيووروما مثلما يشعرون في نيويورك، وفي مواجهة هؤلاء تقف الاغلبية الواسعة من الاميركيين الذين سيطلب منهم، من غير شك، دفع ثمن سياسة بلدهم في الهيمنة. ويفترض نقاد الهيمنة الاميركية انه رغم كل هذه العقبات، فإن السعي الى الهيمنة العالمية لا يمكن ان ينجح، ورغم هذا يرون ان الولاياتالمتحدة يجب ألا تسعى او تمارس هذه السياسة، مثلما حذر هنري آدم، فإن تأثير القوة هو "تضخم الذات وهو نوع من الورم الخبيث الذي ينتهي بقتل المشاركة الوجدانية والتعاطف لدى ضحاياه". وفعلا فإن فائض القوة الذي تتمتع به اميركا اليوم بدأ ينمو الى غطرسة نحو الآخرين. وهي غطرسة ستكون لها حتما آثار عكسية على علاقات اميركا الدولية. فمنذ عام 1993 فرضت الولاياتالمتحدة عقوبات اقتصادية جديدة من جانب واحد او تشريعات تهدد بذلك 60 مرة على دولة تمثل 40 في المئة من سكان العالم. وبشكل متزايد، وفي علاقاتها حتى مع اصدقائها، بدأت الولاياتالمتحدة تأمر وتقود بأكثر مما تستمع، وهي تفرض بشكل متعجرف عقوبات اقتصادية، منتهكة بذلك تفاهمات دولية، وتطالب بحماية قانونية لمواطنيها ودبلوماسيها وجنودها الذين يتعرضون لاتهامات جنائية، في الوقت الذي تصر على تناسي هذا الحق بالنسبة الى الآخرين، وتملي بشكل منفرد وجهات نظرها على اصلاحات الاممالمتحدة واختيار سكرتيرها العام. ويناقش اخيرا نقاد الهيمنة الاميركية ما يمكن ان تؤدي اليه هذه السياسة من فقدان الولاياتالمتحدة لفرصة صوغ علاقات جديدة بين القوى العظمى، ويستشهدون في ذلك بدعاة الهيمنة انفسهم وإقرارهم بأن هذه السياسة لا يمكن ان تنجح على المدى الطويل، وأن الولاياتالمتحدة لا تستطيع ان تتجاهل "الحقيقة البديهية بأن القوة العظمى يجب يوما ما ان تسقط"، وبعبارات اخرى فإن دولة ما او مجموعة من الدول، ستنجح يوماً ما في تحدي السيطرة الاميركية. ومن هنا يتصور نقاد الهيمنة الاميركية ان الولاياتالمتحدة امامها بديل لذلك فهي تستطيع ان تستخدم هذه اللحظة الفريدة التي تعيشها منذ نهاية الحرب الباردة لكي تصوغ علاقة جديدة بين القوى العظمى. ورغم هذا البديل القائم، الا انهم يلاحظون ان اكثر القضايا التي لم تفحص بعناية كافية في السياسة الاميركية هي بالتحديد ما اذا كانت الحرب الباردة تقدم اولا تقدم لها فرصة لتغيير قواعد اللعبة الدولية. وعندهم انه من المؤكد انه ليس هناك من امل في تغيير قواعد هذه اللعبة اذا ما اتبعت الولاياتالمتحدة نفسها سياسة السيطرة العالمية، فمثل هذه السياسة لابد ستدفع الآخرين لأن يقاوموا السيطرة الاميركية، ربما بغير نجاح في البداية، ولكن بشكل مؤثر في نهاية الأمر. وبعبارة اخرى فإن سياسة الهيمنة الاميركية ستؤدي الى انه في وقت ما سيكون هناك من يتفوق على اميركا عدداً وقوة. * باحث وسفير مصري سابق.