انتج عدد من الباحثين وخبراء الاستراتيجيا اعمالاً تعطي استنتاجات مهمة عن الدور الجديد والعلاقة بين القوة والاخطار والهدف. وليس هناك ما هو جديد في محاولة تحديد "شيطان" أجنبي. في الخمسينات لعبت الشيوعية والاتحاد السوفياتي هذا الدور، وهو ما يلعبه الآن، بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار السوفيات، الاسلام والكونفوشيوسية، أي العالم العربي الاسلامي والصين. هذه، كما يعرف الكل، هي النتيجة التي خلص اليها الباحث صموئيل هنتغتون اثر محاولاته الأولية لتحديد العدو في المرحلة الراهنة. لكن هنتغتون اعاد النظر في اطروحته بعد ما يزيد قليلاً على اربع سنوات على طرحها، وهو يرى الآن ان "الأصولية الاسلامية ظاهرة اكثر تبعثراً وبعداً جغرافياً" من أن تشكل الخطر الرئيسي على الحضارة الغربية. ويدور الباحث بنظره الى الداخل ليكتشف ان "التعددية الثقافية" في الولاياتالمتحدة هي الخطر الجديد على المجتمع الأميركي. ولا غرابة في الاكتشاف بعدما توقعت دائرة الاحصاء التابعة لوزارة التجارة الأميركية ان السكان "البيض" سيتراجعون بحلول 2050 الى 53 في المئة من المجموع، من نسبتهم الحالية التي تبلغ 75 في المئة. وشكا هنتغتون، في مؤتمر رعاه معهد كارنيغي ومعهد السياسة العالمية في نيسان أبريل الماضي وحضره 25 من كبار الباحثين ومسؤولي الخارجية، من "اننا في وضع تبدو مشكلتنا الرئيسية فيه هي الحاجة الى تطوير هدف نستطيع على ضوئه توجيه ما لدينا من قوة، وذلك خلاف الحرب الباردة عندما كانت مشكلتنا الرئيسية تطوير قوتنا لكي نسند هدفنا في العالم". لكن هناك كتاباً آخرين لا يشعرون بالحيرة التي يعبر عنها هنتغتون ازاء ما على القوة الأميركية ان تعمله. منهم المعلقان المحافظان وليام كرستول وروبرت كاغان "فورين افيرز" عدد صيف 1997 اللذان يقولان بحاجة العالم، لسبب من الأسباب، الى "الهمينة العالمية الخيّرة" من جانب أميركا. كما ان النغمة المفضلة لدى عدد كبير من الكتاب والباحثين والمعلقين هي ادامة قوة أميركا العسكرية. ويقول هؤلاء ان هذه القوة حتى لو بقيت من دون استعمال فإن التهديد باستعمالها يكفي لإجبار الآخرين على التزام السلوك الصحيح. وذكر جاشوا مرتشافيتش في كتاب جديد ان لقوة وحزم أميركا ان يؤديا الى "سلوك اكثر اعتدالاً من الدول الاخرى التي تدرك ان ليس لديها ما تخشاه من دولة عادلة"، أي اميركا. كما قال الاستراتيجي الأميركي الاسرائيلي ادوارد لوتواك في مؤتمر كارنيغي المشار اليه ان "التحدي هو في جعل الآخرين يعتقدون ان الولاياتالمتحدة ستستخدم القوة بالفعل اذا كان الأمر يتعلق بمصالحها". وادعى ان "ادراك التفوق الأميركي يؤدي بالدول الاخرى الى وقف مراكمة السلاح وهو ما يؤدي بدوره الى دعم قضية الديموقراطية". المثير للاهتمام في الخطاب السياسي الحالي هو العلاقة الغريبة التي يقيمها بين الديموقراطية والسوق الحرة واستعمال القوة. ويكاد الموقف ان يشكل، ونحن في نهاية القرن العشرين، عودة الى منظور "المهمة الحضارية" على الدول المتقدمة، إذ يعتبر ان انفتاح الأسواق امام الاستثمارات الأميركية يمكّن الولاياتالمتحدة من القيام ب"مهمتها الحضارية"، خصوصاً أن الانفتاح يقود ايضا الى انتشار افكار الديموقراطية واحترام حقوق الانسان. ومثلما أدامت الدول الكولونيالية هذا المفهوم بقوة السلاح في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فإن القوة العسكرية الأميركية تقوم اليوم بدور حامي الرأسمال المتعولم، عن طريق تخويف كل من يتحداه ومعاقبة كل من يعارضه وضمان الأرباح المستحصلة من حرية التجارة. وكما نظّر محللو السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية استراتيجية احتواء المعسكر الشرقي على انها مهمة لم تخترها الولاياتالمتحدة لنفسها بل "القيت" على عاتقها يرى مثقفو اليوم ان مهمة الهيمنة تكليف وليس خياراً. ووجد بعض المحلليين تبريراتهم لادامة التفوق العسكري والهيمنة العالمية حتى في "الأوراق الفيديرالية"، أي مجموعة الوثائق التي شكلت أساس الدستور الاتحادي ضد المنادين بكونفدرالية أكثر مرونة. وقال البروفسور دانيال دودني من جامعة بنسلفانيا ان الأوراق العشر الأولى من "الاوراق الفيديرالية" تعطي "أساسا فكرياً واخلاقياً واضحاً لبذل اميركا مساعيها لادخال كل الديموقراطيات في اتحاد مع الولاياتالمتحدة". ولخص تشارلز وليام ماينز من معهد كارنيغي ما يبدو انه الرأي السائد بين دعاة "الهيمنة العالمية الخيّرة" عندما وجد ان هناك دافع اقتصادي وراء تلك الهيمنة، لانها تربط دوماً بين حرية السوق والدعوة الى الديموقراطية وحقوق الانسان. ونصح ماينز صانعي السياسية الأميركية ب "استعمال قوة اميركا الكبيرة في أشكال نافعة للمجتمع الدولي". ولا يبدو ان هؤلاء المنظرين والكتاب وغيرهم من قادة الرأي العام يدركون ان غالبية العالم تعتبر ان تلك "الهيمنة الخيرة" ما هي الاّ مظهر من مظاهر الاستكبار الأميركي على بقية العالم. من الداعين ايضاً الى هذا المنظور لقوة اميركا، الذي يمكن وصفه بأنه نوع من "عودة تأكيد الذات"، عدد من المستشرقين مثل برنارد لويس، وباحثون مؤيدون لاسرائيل مثل دانيال بايبس وفؤاد عجمي وكونور كروز اوبراين، وصحافيون ينتمون الى الجناح الصهيوني اليميني مثل وليام سافاير وجوديث ميلر من صحيفة "نيويورك تايمز" ومعلقون مثل تشارلز كراوتهامر الذي يكتب في مجلة "نيو ريبببلك" وغيرها. وقد لا يكون من قبيل الصدفة ان نسبة بالغة الارتفاع من الداعين الى هذا الموقف هم من الصهاينة والمطالبين بالاستعداد لاستعمال القوة الأميركية ضد أي نوع من المقاومة العربية للاستيطان الاسرائيلي والهيمنة الأميركية، أو ما يسمونه عادة "الأصولية" و"الارهاب". بالمقابل هناك مجموعة اخرى من الباحثين لا يبدو ان لها تأثيراً يذكر على السياسة الأميركية الحالية، من ضمنها المؤرخ بول كنيدي من جامعة ييل، الذي قارن مراراً بين أميركا في تسعينات هذا القرن واسبانيا في ثلاثينات واربعينات القرن السابع عشر، معتبرا انهما امبراطوريتان في مرحلة الأفول تبرران تدخلهما في شؤون الغير على اساس ما لهما من "هيبة". ويركز كنيدي على الجانب اللاعسكري، ليسجل قائمة من المشاكل التي تواجهها الامبراطورية الأميركية، مثل تضاؤل قدرة الصناعات على التنافس، وتمزق النسيج الاجتماعي، والنظام الضريبي الذي عفا عليه الزمن، وفقر الريف، وانخفاض الانتاجية... كما لاحظ ان تراجع القوة الأميركية يجد التعبير عنه في تلك التدخلات العسكرية التي كان هدفها الحقيقي استعادة ما فقدته أميركا من ثقة بالنفس. من بين القائلين الآخرين ب "أفول" أميركا الباحث كريستوفر لين من معهد كاتو، الذي رأى ان ابراز اميركا لقوتها خلال الحرب مع العراق في 1991 كان بمثابة ستار يخفي ضعفها الاقتصادي وترديها الاجتماعي. وكتب انه "كان لنهاية الحرب الباردة أن تكون حدثاً يغير النسق الفكري ويطلق مراجعة أساسية للسياسة الخارجية الأميركية، إلا ان اندلاع حرب الخليج اجهض النقاش حول السياسة الخارجية. والخطر الآن هو ان كلفة ونتائج قيام أميركا بدور شرطي العالم ستبقىان بمنأىً عن المراقبة". هكذا ففي الوقت الذي يدعو القائلون بأفول القوة الأميركية للعودة الى النقاش قبل فوات الأوان والى خفض الانفاق، ينادي المؤكدون الجدد على الدور الأميركي بتوسيع السيطرة على العالم، وليس من قبل ترتيبات متعددة الاطراف ومؤسسات دولية حقيقية، بل من خلال تدخل اميركي متعدد الجوانب ومؤسسات خاضعة للهيمنة الأميركية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي و"جي 7" والمنظمة العالمية للتجارة. لكن مع تراجع قدرة اميركا على ضمان غطاء متعدد الاطراف لتدخلاتها العسكرية، كما يبدو بوضوح الآن في ما يخص الأزمة مع العراق، فإن جناح "الصقور" من المثقفين والاستراتيجيين في ادارة كلينتون، يدفع في شكل متزايد الى تدخل أميركي من طرف واحد. وكان الرأي العام الأميركي أبدى ترحيبه بهذا التوجه، عندما بينت استطلاعات الرأي السنة الماضية أن 70 في المئة من المشاركين يؤيدون ضربة عسكرية اميركية الى العراق. ولم يعرف كتاب المقالات التحريرية والتعليقات حداً في الدعوة الى استعمال القوة العسكرية الأميركية. خلال ذلك يبدو ان النقاش يقتصر على المثقفين المهتمين بالشؤون الدولية وخبراء الاستراتيجيا والنخب الحكومية والاقتصادية، فيما يبقى الرأي العام خارج النقاش، في هذا المجتمع الذي يعتبر نفسه تعددياً وديموقراطياً، ويفاخر بما فيه من تقاليد حرية النقاش. من هنا فإن نقاشاً محصوراً كهذا يصب بطبيعته في مصلحة موقف العسكرة والغرور بالقوة. يقدم المسؤولون والمثقفون المهتمون بالشؤون الخارجية في واشنطن عدداً من التبريرات لاستخدام القوة العسكرية الأميركية في انحاء العالم، وهي تدور في معظمها على الانتهاكات التي ترتكبها هذه الدولة او ذلك النظام. لكنهم بالطبع لا يضعون هذه التبريرات في سياق الهيمنة بل تغلف عادة بغلاف "انساني"، مثل حقوق الانسان العراق 1991 والديموقراطية هايتي 1994 والمجاعة" الصومال 1992 - 93 والحرب على المخدرات بنما 1989. هذا التعدد في الذرائع المستعملة للتدخل يقود الى تصور غائم لمبررات التدخل ولمفهوم الأمن الوطني الذي حل محل معاداة الشيوعية. وقال الرئيس بيل كلينتون في بداية ادارته "اننا سنكون دوماً من المشاركين" في الشأن العالمي، و"سنوفر القيادة... نريد توسيع المجال للرفاه الاقتصادي". المشاركة والقيادة هما اذن الشرطان الضروريان للتقدم الاقتصادي، أو أن استعمال اميركا لقوتها وقيامها بدورها القيادي هما العنصران المؤديان الى توسيع المجال للرفاه الاقتصادي. من هنا فإن لأميركا مهمة على النطاق العالمي، مشابهة لما كان يسمى "عبء الرجل الأبيض". الظرفان الجديدان اللذان يدفعان الولاياتالمتحدة نحو هذه المهمة هما: 1 فشل البرجوازيات الوطنية ورأسمالية الدولة في الثمانينات، وما لازم ذلك من صعود الشرائح الطفيلية، وهو ما عزز التوجه الليبرالي ومهد الطريق امام العولمة. 2 انتعاش الصراعات الاثنية والقومية استخدم بنجاح لتأكيد ضرورة حماية حقوق الانسان. لذا يبرر التدخل العسكري بأنه حماية لتلك الحقوق ودعم الاستقرار والديموقراطية. وصف انطوني ليك، مستشار الأمن السابق للرئيس كلينتون، مهمة الولاياتالمتحدة في التسعينات بأنها تصدير "ديموقراطية السوق". واعتبر ذلك انتصاراً للنموذج التجاري الذي تتبعه أميركا في مجال السياسة الخارجية، الذي يتصور تماثل الليبرالية الاقتصادية مع الليبرالية السياسية، أو حرية النشاط الاقتصادي وحرية التعبير. صفة "السوق" التي يضيفها ليك وكذلك مادلين اولبرايت وكلينتون الى "الديموقراطية" التي ينادون بها، تعطي التبرير لاستعمال القوة المحتمل. ذلك ان الحقوق الانسانية لمسلمي البوسنة او شعب الكويت لم تشكل دافعاً كافياً لدى الرأي العام لتأييد التدخل العسكري. وكان الرئيس السابق جورج بوش ووزيره جيمس بيكر اضطرا للتحول عن تبرير العملية ضد العراق ب"حقوق الانسان" بالحديث عن "الخطر على الاشغال" و"مستوى المعيشة" والنفط. أما في البوسنة، حيث لم تلعب هذه الاعتبارات دوراً، فقد ابدى الرأي العام تحفظاً عميقاً تجاه التدخل. ديموقراطية السوق تعبير يعني في الحقيقة السيطرة على الاسواق وفتحها امام الاستغلال لمصلحة اقتصاد اميركا، من دون تدخل يذكر من الحكومات المحلية. أما "الانسان" الذي تنادي واشنطن بالدفاع عن حقوقه فهو في الواقع مدير هذه الشركة الكبرى او تلك، الموعودة بالحصول على اكبر قدر من المنافع من التشريعات التجارية والتركيز الجديد في السياسة الخارجية على السوق، اضافة الى شركائه الاغنياء عبر البحار الذين يقومون بمهمة تسويق بضائعه. مفهوم العولمة ونظام التجارة العالمي يشكلان بالنسبة الى كلينتون معياراً شاملاً لرسم الحد الفاصل بين شن الحرب او عدم شنها. "الحرب" هنا تأتي ضد "أنظمة حماية الاقتصاد" من المصالح الأميركية الزاحفة، وأيضاً الحرب على "الارهاب"، والرد على العدوان والدفاع عن الديموقراطية ومكافحة المجاعة وتجارة المخدرات و"الانتهاكات البشعة لحقوق الانسان". ولا يقتصر مفهوم العولمة في السياسة الخارجية الأميركية على الجانب الاقتصادي، بل انه مفهوم شمولي يرسم الحدود بين "التكامل" و"التفكك". وإذ تعتبر الولاياتالمتحدة ان مهماتها الدولية تلبية لحاجاتها الاقتصادية، فإن كسر الحواجز امام التجارة العالمية يشكل مهمة "تكاملية". وتنظر الى معارضي الهيمنة على انهم متخلفون عن ركب التاريخ، وتضعهم في صف قوى "التفكيك". وأصببح تناقض "التكامل - التفكيك" المقياس الذي يمكن من خلاله الفصل ما بين الخير والشر، في شكل مشابه للتفريق بين الشيوعية و"الديموقراطية" خلال الحرب الباردة. وهكذا اصبح المنادون بحماية الاقتصاد و"الارهابيون" و"الأصوليون" والاثنيون المتشددون وبعض الديكتاتوريين ومهربي المخدرات يشكلون القطاع "التفكيكي" الذي تجب مواجهته، احياناً باستعمال القوة العسكرية الأميركية. ومن هنا الربط بين التدخل العسكري والرخاء الاقتصادي لكل قوى "التكامل". والواقع ان العولمة وخطاب "النظام العالمي الجديد" يستعملان لاضفاء الشرعية على تدخل الولاياتالمتحدة في شؤون الدول المستقلة.