في عام 1987 صدر للمؤرخ البريطاني المعروف بول كيندي كتاب أثار الجدل الشديد في دوائر واشنطن السياسية، عنوانه «صعود وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والصراع العسكري منذ عام 1500 حتى عام 2000». وحلل فيه سياسات القوى العظمى وقدراتها الاقتصادية في هذه الفترة التاريخية الممتدة، لكي يكشف عن أسباب انهيارها. ولم يقنع كيندي بدوره كمؤرخ، ولكنه أراد أيضاً أن يقوم بدور الباحث المستقبلي، وهكذا صاغ مجموعة تنبؤات حول أوضاع الصين واليابان والاتحاد الأوروبي والاتحاد السوفياتي (سابقاً) والولاياتالمتحدة الأميركية، وذلك في نهاية القرن العشرين. ويمكن القول إن الأطروحة الرئيسة لكيندي مبناها أن صعود القوى العظمى على المدى الطويل، أو في صراعات محددة، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمواردها المتاحة وبديمومتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية على أن تمد أجنحتها إلى مناطق بعيدة، في حين أن سقوطها النسبي يحدث حين تكون مطامحها وإدراكاتها أمنها القومي وقدراتها، أكبر من مواردها وقدراتها الاقتصادية. وفي ضوء هذا القانون العام لصعود وسقوط القوى العظمى تنبأ كيندي عام 1987 (تاريخ نشر كتابه) بأن الولاياتالمتحدة الأميركية ستسقط في نهاية القرن كقوة عظمى، لأنها نزعت إلى نشر قواتها العسكرية في عدة مناطق في العالم، بما يفوق مواردها وقدراتها الاقتصادية. وقد أدى هذا التنبؤ إلى سخط شديد أبدته الدوائر السياسية في واشنطن، والتي كانت تعيش في حمى صعود الولاياتالمتحدة الأميركية إلى ذروة القوة العالمية، والذي تأكد على وجه الخصوص عقب انهيار الاتحاد السوفياتي حوالى عام 1993 ونهاية الحرب الباردة، وزوال النظام الثنائي القطبية وبروز النظام الأحادي القطبية الذي تهيمن فيه الولاياتالمتحدة الأميركية على مقدرات العالم. غير أن الضربات الإرهابية التي وجهت لمراكز القوة الأميركية في 11/ 9/2001، أدت إلى اهتزاز أميركا في الصميم، والتي كانت تعد - من الناحية العسكرية – درعاً يستحيل اقتحامه بحكم ما تملكه من أسلحة عسكرية بالغة التطور، وتكنولوجيات فائقة، تجعل من مجرد الاقتراب من حدودها مخاطرة غير محمودة العواقب. وكنوع من رد الفعل العنيف وغير المتعقل، اندفع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في إعلان حربه ضد الإرهاب الذي لا يحده مكان ولا زمان، وافتتح هذه الحرب بالغزو العسكري لأفغانستان، بدعوى أن نظام «طالبان» قد آوى اسامة بن لادن. ويمكن القول على سبيل اليقين إن هذه الحرب التي شنها بوش على أفغانستان تمثل – من الناحية التاريخية البحتة – بداية انهيار الولاياتالمتحدة الأميركية باعتبارها قوة عظمى! وعلى رغم أن أميركا نجحت في إسقاط نظام «طالبان» بسهولة شديدة، بحكم التفاوت الضخم في ميزان القوى العسكري، إلا أن القادة الأميركيين لم يدركوا بالقدر الكافي أنهم وقعوا في المستنقع الأفغاني، وأنهم بعد سنوات ستطاردهم أشباح حرب فيتنام، وسيضطرون – عقب الفشل الذريع في السيطرة على أفغانستان بحكم اشتداد المقاومة الأفغانية وفساد الحكومة العميلة التي أقامتها الولاياتالمتحدة – إلى الانسحاب المهين. ومما لا شك فيه أن الغزو العسكري الأميركي للعراق بعد غزوها لأفغانستان، ونجاحها المبدئي في إسقاط النظام العراقي المتداعي، قد كشف من بعد عن ورطة كبرى لقواتها المسلحة، التي سقط الآلاف منها في معارك شرسة مع قوات المقاومة والجماعات الإرهابية. واضطرت الولاياتالمتحدة الأميركية أن إلى تنسحب من المدن، على أن تخرج نهائياً من العراق عام 2011، ما يشهد رسمياً على فشل ذريع لحملتها العسكرية على العراق. غير أن الجهد الأميركي تحول بالكامل إلى أفغانستان. وتبين أن القوات المسلحة الأميركية هي وقوات الحلفاء قد فشلت فشلاً ذريعاً في مواجهة قوات «طالبان»، التي عادت بقوة إلى المسرح من جديد، وسيطرت على كثير من مناطق أفغانستان. وأصبحت الحكومة الأفغانية شبه معتقلة في كابول، في الوقت الذي فشلت فيه القوات الأميركية في مواجهة المقاومة الأفغانية. وقد اضطرت واشنطن إلى عزل قائد القوات العسكرية الأميركية لفشله في إدارة الحرب، وعينت بدلاً منه الجنرال ستانلي ماكريستال، والذي طلب زيادة عدد القوات الأميركية إلى 80 ألف مقاتل! وهكذا وقع الرئيس أوباما في مأزق بالغ الحيرة، وذلك لأن تكاليف الحرب والتي تبلغ ستة ملايين دولار يومياً، بالإضافة إلى مقتل كثير من القوات الأميركية، قد دفعت بالرأي العام الأميركي إلى معارضة استمرار الحرب، والمطالبة بالانسحاب من أفغانستان. ظل أوباما متردداً في اتخاذ قراره إلى أن ألقى خطابه أخيراً بصدد الحرب في أفغانستان. وتقول «النيويورك تايمز» في افتتاحيتها في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 2009، أن الأميركيين لديهم الحق في أن يكونوا متشائمين أو حتى يائسين في ما يتعلق بالحرب في أفغانستان. فقد استمرت الحرب لمدة ثماني سنوات، وفقدت أميركا 800 جندي من مقاتليها وأنفقت أكثر من 200 بليون دولار من أموال دافعي الضرائب، في الوقت الذي لم تستطع فيه الحكومة الأفغانية أن تثبت شرعيتها، أو قدرتها على الوقوف ضد «طالبان». وقد أبدى أوباما في خطابه – كما تقول ال «نيويورك تايمز» – شجاعة سياسية فائقة حين اعترف بروح التشاؤم السائدة وباليأس من الموقف في أفغانستان. ولكنه قرر أن الولاياتالمتحدة الأميركية لا تستطيع أن تنسحب من أفغانستان في الوقت الراهن، لأن ذلك يمثل مخاطر استراتيجية عظمى، لاحتمال أن تسيطر «طالبان» على باكستان وهي دولة نووية، ما يشكل موقفاً بالغ الخطورة على الأمن القومي الأميركي. ولذلك قرر أوباما في خطابه الذي ألقاه في كلية «وست بوينت» العسكرية الشهيرة، إرسال 30 ألف مقاتل أميركي إضافي، أي إنه رفض إرسال 80 ألف مقاتل كما اقترح الجنرال ماكريستال، وذلك في محاولة لتثبيت الأوضاع في أفغانستان. غير أن قرار اوباما لم يحسم الجدل السياسي في الولاياتالمتحدة حول الحرب في أفغانستان. فالجمهوريون كانوا يرون ضرورة الاستجابة لطلب الجنرال ماكريستال، في حين أن الديموقراطيين بمن فيهم نائب الرئيس جو بايدن رفضوا هذا التصعيد. وقد قرر أوباما في خطابه أن القوات المسلحة الأميركية ستنسحب من أفغانستان في تموز (يوليو) 2011. وعلى عكس سياسة إخفاء المعلومات التي اتبعها جورج بوش في ما يتعلق بكلفة الحرب في أفغانستان، فإن أوباما قد صرح أنها ستكلف في العام المقبل ما لا يقل عن ثلاثين بليون دولار، ووعد بأن يجعل الكونغرس يوافق على هذا المبلغ. ويمكن القول إن الرئيس أوباما كان بالغ الصراحة حين قرر أن «أميركا تمر بمرحلة اختيار بالغة الصعوبة، غير أن الرسالة التي ترسلها وسط العواصف التي تمر بها واضحة، وهي أن ما ندافع عنه أمر عادل، وأن إرادتنا لن تضعف». لقد احتاج أوباما الى ثلاثة أشهر من المداولات السياسية المتصلة لكي يصل إلى قراره، ما يشي بأن هذا القرار كان من أصعب القرارات التي كان عليه أن يتخذها. فقد كان عليه أن يختار إما أن يخضع لابتزاز القادة العسكريين الذين تمرسوا بالمطالبة بزيادة عدد القوات المحاربة بأعداد هائلة لتغطية فشلهم العسكري وهزيمتهم الواقعية في الميدان، أو يثبت – كما هو الحال في أي نظام ديموقراطي حقيقي – أن القادة المدنيين المنتخبين لهم اليد العليا على القادة العسكريين. وأيا كان الأمر، يمكننا بكل يقين التنبؤ – استرشاداً بالقانون العام الذي صاغه بول كيندي – بأن الإمبراطورية الأميركية بدأت بالفعل مرحلة سقوطها بالمعنى التاريخي للكلمة، ونعني مرحلة اضمحلال قوتها العالمية المطلقة، وانفرادها بالقرار على المستوى العالمي. وذلك لأن الرئيس أوباما سيضطر في عام 2011، إلى سحب القوات الأميركية من أفغانستان بعدما سيتأكد بأن الولاياتالمتحدة الأميركية قد هُزمت عسكرياً هناك، والدليل هو عودة «طالبان» للسيطرة على غالبية الأراضي الأفغانية. لم يكن كيندي مبالغاً حين قرر أنه إذا زادت الالتزامات الاستراتيجية للقوة العظمى عن مواردها البشرية وقدراتها الاقتصادية، فإنها لا بد أن تسقط. وما سنشهده في السنوات القادمة هو غروب طويل للولايات المتحدة الأميركية، في سياق سيتحول فيه النظام الدولي الأحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب! * كاتب مصري