يزدحم المشهد الشعري السوري الراهن بفوضى التجريب، التي لا تدع حيزاً واسعاً لتأسيس ملامح، قدر ما تفتح الآفاق لاستحضار الغرابة، لا بوصفها احدى مفردات الشعر الجديد فحسب، ولكن باعتبارها ركيزة المرور العابر بهذا الفن والنكوص عنه بسرعة، مثلما فعل كثيرون ممن أصدروا مجموعات شعرية ثم ذهبوا بعد ذلك الى "نعمة" الكف عن الكتابة. لعل المثال الأبرز هنا ظاهرة طباعة المجموعات الشعرية على نفقة أصحابها، ودون المرور بمحطة النشر في الصحف والمجلات، أي دون الخضوع لأية مقاييس نقدية من أي نوع كان. وإذا كان جيل الستينات والسبعينات - وحتى الثمانينات - قد احتفظ بدائرة محدودة - الى حدٍ ما - للشعراء الذين يكتبون، فإن جيل التسعينات قد خلط حابل الشعر بنابل النثر، وأضاف لهذا وذاك ما شاء من "تجريبية" هي في الغالب الأعم وليدة قراءات هجينة للتجارب الشعرية والنقدية العربية والعالمية... قراءات تبدو تلك التجارب خلالها مشوشة في أذهان الشعراء وضعيفة الصلة بحقيقتها وجوهرها. ومع ذلك - وبالرغم منه - فإن ثمة تجارب شعرية هنا وهناك، امتلك أصحابها موهبة وثقافة وشجاعة الدخول في مغامرات لها صلات متينة بالحياة وما يمور فيها من تيارات فكرية وإنسانية قابلة لإقامة حوار مع الآخر. ومع أن عدداً من الأسماء الشعرية من أجيال الستينات والسبعينات لا يزال حاضراً، ويؤثر في صورة أو أخرى على نتاجات الجيل الجديد، إلا أن قصيدة هذا الجيل تنفلت - غالباً - من دوائر تأثير أولئك "الآباء" وتحفر لنفسها مجرى خاصاً، حيث تمكن الاشارة الى أسماء محمد علاء الدين عبد المولى، رياض خليل، عبدالنبي تلاوي، درغام سفان، محمد وحيد علي، كمال جمال بك، أحمد محمد سليمان، عصام خليل، أكرم قطريب، رولا حسن، هالا محمد، أنيسة عبود وغيرهم ممن صدرت لهم مجموعات شعرية خلال السنوات القليلة الماضية فأثبتوا حضوراً في ساحة تزدحم بالنتاج الشعري وتعج بتيارات تختلف وتتناقض لتعكس في اختلافها وتناقضها حرارة الابداع، لتضاف اليها حديثاً تجربة أكثر تمايزاً وفاعلية هي تجربة المجموعة الشعرية الأولى لعابد اسماعيل، العائد من دراسة النقد الأدبي الحديث في نيويورك، والذي استفاد الى حدٍ بعيد من آراء أساتذته الكبار وخصوصاً ادوارد سعيد، وهارولد بلوم الذي ترجم له عابد اسماعيل كتابه النقدي المهم والمثير "قلق التأثر". الشاعر الحمصي، محمد علاء الدين عبد المولى، أسس لنفسه مكانة مهمة بين أبناء جيله، وفي الشعر السوري عموماً من خلال اهتمامه اللامحدود بكتابة قصيدة مسكونة بهاجس التفاعل الخلاق بين الشكل والمضمون، بذلك المعنى الذي يتيح للقصيدة أن تكتب نفسها كما تشتهي، وبذلك لا نعجب أن نراه ينتقل من القصيدة البيتية العامودية الى قصيدة التفعيلة، وهو في هذه وتلك يحرص على أبرز ما يميزه، وهو الصورة الشعرية الواقعية، أو التي يمكن للقارىء استعادة خطوطها... تمثلها، ورسمها من جديد، في مجموعاته الشعرية كلها يمكن للقارىء أن يلمح بوضوح اعتناء عبد المولى برؤيته الحديثة التي ينطلق منها لاكتشاف علاقات شعرية جديدة للأشياء والوقائع القديمة، العادية والمألوفة: "ولما التقى الجمعان قلبي والمدى / تدلت خلال الموت من شرفة القلب / أمن لهب الأحزان أرسل نجمة / ترتل فصل الفجر في حضرة الحبُ" هذه البنائية الكلاسيكية إذ تتكىء على ايقاعية البحور الشعرية لا تغفل عن زجها في الفكرة والصورة على حدٍ سواء وهما عماد قصيدة الشاعر عموماً، حيث يمكن رؤية ذلك بالوضوح ذاته في قصائده الأخرى، التفعيلية: "لميلاد الرغائب يفتح الشعر النوافذ/ تكتب الأحجار سيرتها / ويسري في رئات الوقت فجر نباتْ / أدار القلب بوصلة القصيدة باتجاه الكائن / المنسيّ تحت سرادق المأساة / فاندلعت أغان زينت أجراس جمجمتي". هنا يرشح القص من حواف القصيدة، حيث عقد الشعر تنتظمه درامية تخلق للقصيدة مناخاً واحداً، فيه الحكاية، مثلما فيه من الصور الشعرية والوصف الواقعي حيناً، الفانتازي أحياناً، وذلك كله في سياق رؤية صدفية أو شبه صدفية ترتفع بالشعر من أجوائه العادية، المألوفة والطافحة بالمباشرة، الى آفاق فيها الكثير من الشفافية وبساطة اللغة التي لا تفتعل المفاجآت ولا تتصيدها عنوة: "اناث الأرض أهديهن قافية / وبيتاً في ضلوعي، / أو فضاء عاري النجماتْ / وينبوعاً أسابق فيه أعضائي فتسبقني / وتنزع عن جذوع الكائنات لحاءها الفاني / وتعلن خضرة الميقات". أما عبدالنبي تلاوي فقد قدم في مجموعته المهمة "الى آخر الليل تبكي القصيدة" والتي فازت بجائزة يوسف الخال الشعرية، مناخاً فيه الكثير من حميمية اللغة الجارحة، المشحونة بطاقة كبرى، تعيد تأسيس العلاقة مع قارىء يتوحد مع الأجواء الشعرية، فيعثر فيها على شيء من روحه الخاصة، من وجعه الذاتي. ومنذ تلك المجموعة يبني عبدالنبي تلاوي قصيدته من الوجع والثقافة على حدٍ سواء. وفي مشاهد ثلاثة للجسد، يقدم رياض خليل، حالات جسدية، هي في المآل الأخير حالات نفسية، تتدرج في لغة سهلة تبني حكاياتها، أكثر من انتباهها لحجارة تلك الحكايات: "جسدي يتملص مني / ويهرب نحو البراري كمهرٍ / فأجري وراءه / أتعقبه حاملاً في يدي / خلف ظهري لجاماً". ثم: "نعود معاً / نستقر الى ربعنا زمناً. / ثم في غفلة... / فجأة... / أتفقده... / ثم أدرك... / غافلني... / فرّ ثانية نحو تلك البراري". قصيدة رياض خليل تحاور القلق الفردي وغربة الروح من خلال استحضار فانتازي، يغامر بدخول دائرة شعرية صعبة، تقوم في درجة أساس على الاعتناء بالهاجس والمخاوف الشخصية، ونبذ الهتافات الخارجية الصاخبة، لمصلحة الهتاف الهامس الذي يعبّر عن لوعة وجودية، تنتخب قصيدتها من همّ إنساني وثقافة لا تنشغل بالخارجي. يمكن الإشارة الى شاعرين آخرين، ينشغلان بكتابة قصيدة تفعيلية ذات نكهة خاصة، ويخوضان معترك التجريب بوعي وانتباه كبيرين هما كمال جمال بك، ودرغام سفان. ففي مجموعته "فصول لأحلام الفرات"، يتوغل كمال جمال بك، في شقوق حياته، فيضيء عوالم العاطفة نحو المرأة، في لغة تجمع بين بساطة اللفظة والاهتمام بتصوير المحيط الذي يشكل وعاء التجربة أكثر من كونه مكاناً، وجمال بك في ذلك يقدم المكان من خلال صورته المتحركة، والتي تعكس في حركتها صورة الحياة في سيرورتها: "كانت هنا / منذ دقيقتين... / ارتجفت، ولم تكن ثمة ريح أو شتاء / كان دفئاً / عندما تداخلت أصابعي في شعرها / فارتجفت". جمالية قصيدة كمال جمال بك أنها تذهب الى العادي، فتقرأ صورته الأخرى، المتخيلة، المتحركة، وهي بكونها قصيدة مشغولة بوصف العالم المحيط، تنسحب بذكاء من لعبة الوصف التقليدية، الى مغامرة المزاوجة بين وصفية الأشياء وبين صورة تلك الأشياء مقروءة من حدقة الهمّ الإنساني. أما زميله درغام سفان فإنه يغوص في العذاب اليومي الذي يعيشه البسطاء، مستخرجاً من عتمة السواد وهج الشعر، وحرارة الكتابة. قصائد فيها الكثير من الالتصاق بمعاناة الآخرين، دون الوقوع في فخاخ الإيديولوجيا أو الشعارات: "أعرف الآن أكثر من أي وقت مضى / حينما كانت الشمس تنهض من خدرها / وشجيرات نخلٍ على البعد / ترخي جدائلها في حياءْ / ثمّ تسحب عنها الغطاءْ / وتغوص رويداً... رويداً بوهج الضياءْ / كان يمسح عن مقلتيه الهزيع الأخير من الليل... والحلمِ / رجلاه في القيدِ / والأرض فسحة زنزانة عارية / وثمة جمع كلاب مبقعة / من مخالبها تبصق الطلقات". وفي العموم يكتب درغام سفان قصيدة ذات شجن وحميمية، تعيد الشعر الى علاقته الصحيحة بالقلب. شاعر يخوض مغامرة التجريب متسلحاً بثقافة نقدية ورؤيا وحساسية. الشاعر محمد وحيد علي، واحد من الذين حفروا أسماءهم بقوة في أرض الشعر، خلال السنوات القليلة الماضية. شاعر يكتب قصيدة سهلة، سلسة، تصل الى القول الشعري دون ان تلتفت كثيراً هنا وهناك. انها قصيدة البوح العاطفي المنسوج من الحالات العاطفية المفعمة بالرغبة في الإنشاد، في تقريب القصيدة من روح وشكل الأغنية، مع اعتناء بالصورة التي تجمع بين شفافية المخيلة وبين الرغبة في قصٍ يتوجه الى آخر: "نجمة تطرق الباب / ترمي مناديلها / في الهواءْ / يصهل الضوء فيها / ويعذب ماء الشجر / نجمة أنجبت / قمراً / ضاحكاً / قبل أن ترتمي في الظلام / على غيمة / أو حجرْ". ومحمد وحيد علي في تواصله مع وضوح قصيدته يصعّد موهبة شعرية لا تزال تعد بالكثير، خصوصاً في نتاجاته الأخيرة. ثمة أصوات أخرى، تكتب قصيدة مغايرة، تبحث عن ملامحها في تعبيرية مختلفة، فتصل الى تلك التعبيرية من خلال الفانتازيا مرة، وما يشابه السوريالية مرة أخرى. من هذه الأصوات أكرم قطريب في مجموعتيه "آكان - أحرث صوتك بناي" و"أقليات الرغبة". تكثر في قصيدة أكرم قطريب في المجموعة الأولى حواراته مع مفردات اسطورية وشبه اسطورية. قصيدة تنطلق من ذاكرة قلقة، فتعثر على قلق التشكيل وارتباك البنية الشعرية أحياناً. أما في "أقليات الرغبة" فإن أكرم قطريب يذهب الى مخيلة مسكونة بشظايا المشاهد المضطربة، حيث يمكن للشعر وحده أن يجمع نثاراً متناقضاً، وأن يعيد لحمته وتركيبه، قصيدة أكرم قطريب في المجموعة الجديدة تختصر القول الشعري... تكثّفه، وان لم تتنازل عن رغبة شاعرها في التواصل مع لعبة الصور المتقابلة، المتكاملة مرة، والمتناقضة مرات، والباحثة دوماً عن مشهدية تفضح الوقائع وتكشف أسود الحقيقة: "الشرفة / لكي يتحول الجسد / الى رائحة بن / الجسد / لكي تتحول الشرفة / الى أثر جناح / الشرفة والجسد / لكي يصير الظلّ من لحم ودم". أم في "طواف الآفل"، مجموعة عابد إسماعيل الأولى، فإن القصيدة تدخل من باب الألق، حيث الصورة الشعرية الحادة، المشغولة بحدقة مثيرة الرهافة عالية الحساسية، يندر مثيلها في قصائد الجيل كله: "وهكذا أمضينا جل وقتنا ننادم المصادفات، مستخدمين مزجار الحلم للبرهنة أن للدائرة حولنا أسناناً تقرض الهامش، وللخط المستقيم حراساً يحرسون النهاية". أما قصائد المرأة السورية فإنها - بعيداً عن التقسيم التعسفي بين شعر للرجال وآخر للنساء - تملك مذاقاً آخر، يلفت الانتباه أن بعض تجاربه تتجاوز ما هو قائم وتحفر لنفسها مسارات خاصة، ولكن لذلك حديث آخر.