قبل الحديث عن الظروف التاريخية التي مرّ بها عبدالرحمن الداخل "صقر قريش" كما سماه الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، لا بد أن نتوقف على الأحداث التاريخية التي أحاطت بهذا الأمير الأموي قبل أن تستقر له الأمور ويؤسس مملكة أُعتبرت من أهم الدعائم التي أقامها الأمويون في بلاد الغرب الأوروبي بعد سقوط خلافتهم في بلاد الشام. فبعد أن تمكن هذا الأخير من النجاة من موت مؤكد على أيدي عمال العباسيين بطريقة ذكية، اعتمدت على الذكاء والدهاء وروح المغامرة أيضاً شطر وجهه الى مصر ومنها الى القيروان عاصمة الشمال الأفريقي. وبوصوله الى هذه المدينة وجد أنّ صاحبها عبدالرحمن بن حبيب الفهري قد تغير موقفه ممن عنده من الأمويين بعد أن تكاثروا في بلاده وحولهُ فبات يخشى منهم على نفوذِه وسُلطانه. ولما فشلت محاولاته اتجهت أنظاره نحو العدوة الأندلسية حيث كانت الأحوال فيها مضطربة بسبب الحروب الأهلية بين المضرية واليمنية. فرأى عبدالرحمن أن يستغل هذه المنازعات القبلية لصالحه واعتمد على موالي بني أمية الذين كان عددهم كبيراً بالأندلس في ذلك الوقت. وبدأ عبدالرحمن مغامرته بأن أرسل مولاه "بدراً" ليُمهدَّ له الطريق، فاتجه بدر أولاً الى أقوى الحزبين نفوذاً وهو الحزب المضري فعرض على زعيمه "الصميل بن حاتم" فكرة دخول عبدالرحمن الى الأندلس، وطلب منه تأييده ومساعدته بحكم كونه مصرياً مثلهم. غير أن الصحيل حشي على نفوذه وقال لبدر وأصحابه من موالي بني أمية "إنه من قوم لو بال أحدهم في الجزيرة لغرقنا في بحر بَوْلِهِ، وان أول سيف يسلّ عليه هو سيفي". ولما يئس بدر من مساعدة المضرية، اتجه الى القبائل اليمنية وعرض عليهم الأمر، فرحب هؤلاء بتأييد عبدالرحمن ومساعدته، لا لشيء إلا للانتقام من المضرية، والأخذ بثأر قتلاهم في وقعة "شقندة". فاليمنيون الذين كانوا قد فقدوا مواقعهم في السلطة بعد هزيمتهم الشنيعة في معركة "أقوة برطورة"، والكارهون لتسلط القيسية بزعامة "الصميل بن حاتم" على الحياة السياسية في الأندلس ما كانوا ليرفضوا هكذا فرصة يثأرون فيها لهزيمتهم ويعودون الى بعض ما فقدوه من مواقع سياسية ولو بصورة غير مباشرة وعبر طرف ثالث. وهكذا أمكن لعبدالرحمن أن يعتمد على تحالف ضم قوى سياسية مهمة عملت على رفع هيمنة يوسف الفهري والصميل بن حاتم عن الحياة السياسية في الأندلس وهذه القوى هي اليمنيون في الأندلس وموالي الأمويين والبربر الذين وجدوا في ذلك فرصة يحققون فيها بعض المكاسب ويثأرون ممن أذلوهم وشردوهم من الحكام الأندلسيين العرب. لم يلبث عبدالرحمن أن عبر مضيق جبل طارق ونزل عند مرفأ أندلسي صغير عند ثغر المنكب Almunecar، في ربيع الثاني سنة 138/755م ثم سار الى حصن طُرُش Torrox الذي كان مركزاً لموالي بني أمية، فاتخذه عبدالرحمن قاعدة عسكرية لتجمع أنصاره. ثم تقدم بعد ذلك نحو قرطبة بما تجمع لديه من جنود من اليمنية والبربر والموالي، أدرك يوسف الفهري خطورة الوضع بعدما بلغته أخبار إقبال جموع الناس وتحلُقِهم حول عبدالرحمن وانتشار دعوته بشكل واسع، فاتصل بصديقه الصميل بن حاتم للتشاور واتخاذ القرار بما يجب عمله، ورأى الصميل الذي كان أكثر إدراكاً لأوضاع الأندلس ضرورة التصدي المباشر للأمير الأموي ومقاتلته والقضاء عليه قبل أن تنتشر دعوته وتكتمل عدته ... وسار الجميع الى قرطبة للإعداد للمعركة المقبلة. ويحدثنا الدكتور عبدالمجيد النصفي في كتابه "تاريخ الدولة الأموية في الأندلس" أنه في الوقت الذي كان الفريقان يحشدان جموعهما ويستعدان للمعركة الفاصلة اقترح بعض المقربين من يوسف الفهري عليه أن يفاوض الأمير الأموي وأن يعرض عليه تزويجه ابنته وأن يمنحه المال والثروة وأيضاً الحماية والمكانة، وهكذا وجه الفهري رسالة له مع وفد من ثلاثة من معاونيه المقربين، جاء فيها "فإن كنت تريد المال وسعة الجناب فأنا أولى بك ممن لجأت اليهم، أكنفك وأصل رحمك وأنزلك معي إن أردت، أو بحيث تريد، ثم لك عهد الله وذمته بي ألا أغدرك، ولا أمكن منك ابن عمي صاحب "أفريقية" ولا غيره. وهكذا لم تنجح محاولة الفهري لإقناع الأمير الأموي الذي نصحه اليمنيون بالرفض والإصرار على طلب تنازل يوسف الفهري له عن حكم الأندلس أضف الى ذلك صعوبة الوثوق بوعود الفهري الذي كان واقعاً تحت تأثير زعيم القيسيين الصميل بن حاتم الذي ما عرف في يوم من الأيام بأنه كان شديد التمسك بعهد أخذه على نفسه أو وعد التزم به، وهكذا أصبحت المواجهة العسكرية بين الطرفين أمراً حتمياً، ففي شهر ذي الحجة سنة 138 أيار مايو من سنة 756م كانت القيسية قد جمعت حشودها وأتت بحماسة كبيرة لتأييد قضية الصميل وصديقه الفهري، وتقدمت جموعهما على محاذاة الضفة الغربية لنهر الوادي الكبير فوصلوا حتى "طشانة" ومن "طرش" انطلق عبدالرحمن الى "رية" التي بايعه عاملها وانضم اليه مع حشد يزيد عن ألف من فرسان اليمنية ومنها الى "شذونة" التي واجهه أهلها بالبشر والترحاب، ثم وصل الى منطقة "أشبيلة" التي انضم اليه من فرسانها عدد كبير من بينهم زعيم اليمنية فيها أبو الصباح اليحصبي. ولستة أيام خلون من شهر ذي الحجة سنة 138/756 تواجه الجمعان عند قرية تدعى "المصارة" في اقليم طشانة يفصل بينهما نهر الوادي الكبير، وقد واجهت جيش عبدالرحمن مصاعب عدة منها خوفه أن يطول ارتفاع منسوب مياه النهر فتدب المجاعة بين جنوده، ولذلك حاول خداع أخصامِهِ والتوجه بمجموعة في ظلام الليل الى العاصمة قرطبة لمفاجأة أهلها والاستيلاء عليها وللحصول على ما فيها من مؤن وأغذية، ولكن حين فشلت هذه المحاولة لم يبق أمام عبدالرحمن سوى استعجال اللقاء الحاسم تفادياً لأزمة غذائية تحل بجيشه. إلا أن هذه الحقيقة لم تمنع عبدالرحمن من اللجوء الى الحيلة والمناورة، فأظهر لأخصامِهِ رغبته في المصالحة وتفادي القتال مما لقي ترحيباً كبيراً من "الفهري" في الوقت الذي كان فيه على قناعة تامة أن الطريق الوحيد لحسم الخلاف مع الوالي وزعيم القيسية هو ساحة القتال، لذلك فاجأ أخصامَهُ بمباشرة القتال صبيحة أول أيام عيد الأضحى، وفعلاً في ذلك الصباح، كان قد صيَّر قيادة جيوشه لكبير موالي بني أمية "أبي عثمان بن عبدالله"، والتقت جيوش الفريقين في معركة دامية أعطت للأمير المغامر نصراً ساحقاً على أعدائه خصوصاً بعد مقتل كبير الفرسان القيسيين "عبيد بن علي". وقد شهدت "المصارة" القريبة من قرطبة انتصار الأمير الأموي الذي سجل على أعدائه نصراً مؤزراً في 10 ذي الحجة سنة 138/ 15 أيار 756م، وقد عرفت هذه الموقعة الحاسمة في المراجع العربية بإسم المصارة بالصاد أو السين كما عرفت كذلك في المراجع الإسبانية بإسم ألا ميدا Alameda، وتمتد مصارة قرطبة في جنوب غرب المدينة على الضفة اليمنى من نهر الوادي الكبير وكلمة المصارة لا نعرف معناها أو أصلها، وقد أطلقت على عدة أماكن في المغرب والاندلس ولا سيما على الفضاء الفسيح المجاور للمدن الكبرى مثل قرطبة وغرناطة وفاس. وهكذا فلقد فتح هذا النصر في المصارة لعبدالرحمن بن معاوية أبواب العاصمة الأندلسية فدخلها في أول أيام عيد الأضحى من تلك السنة وصلّى في جامعها ونودي به هناك أميراً على بلاد الأندلس. واستطاع هذا الأمير الشريد الطريد الذي لقب بالداخل أن يحيى من جديد دولة الأمويين التي سقطت في الشرق وأن يجعل من الأندلس دولة مستقلة عن المغرب والمشرق معاً. 1 المقري. نفح الطيب. 2 د. عبدالمجيد النصفي. كتاب "تاريخ الدولة الأموية في الأندلس" التاريخ السياسي. 3 د. أحمد مختار العبادي كتاب "في التاريخ العباسي والأندلسي"