توفي الأمير محمد سنة 273 هجرية وتولى ابنه المنذر الإمارة. إلا أنه لم يكن على سيرة والده فأقدم على قتل وزير أبيه هشام بن عبدالعزيز خشية منه، فاضطربت ولايته وواجه المتاعب طوال عهده الذي دام قرابة السنتين توفي في 275 هجرية وتولى شقيقه عبدالله بن محمد الإمارة مكانه. أورث الأمير المنذر متاعبه لشقيقه الأمير عبدالله فانكفأ الأخير الى عاصمة الدولة قرطبة بعد اضطراب نواحي الاندلس. وعطلت الانتفاضات ادارة الامارة فعجزت أجهزتها عن جمع الخراج ما اضطر الأمير الى الانفاق من احتياط الخزينة. وعلى رغم جهوده لضبط الأوضاع عجز عن إعادة الحياة العامة الى مجراها الطبيعي نظراً لتقارب الانتفاضات زمنياً فحصلت ثورة ابن مروان في بطليوس واشبونة، وثورة ابن تاكيت في ماردة، وثورة لب بن محمد في سرقسطه وتطيلة، وثورة مطرف بن ذي النون الهواري في شنة برية، وثورة ابن حفصون في يشتر ومالقة ورندة واليس. وحصلت في اشبيلية المدينة الثانية بعد قرطبة سلسلة انقسامات منذ نهاية القرن الثالث للهجرة. شجعت هذه الأجواء الأفكار الصوفية على الازدهار فقاد تيارها ابن مسرة توفي 319 هجرية/ 931م مستفيداً من احباط الناس وانسداد الآفاق السياسية. بدأ ابن مسرة حركته في قرطبة فاجتمع حوله بعض الأصدقاء وشكل منهم أول مجموعة انتقلت معه الى النواحي المحيطة بالعاصمة وانقطع معها عن الناس مكرساً حياته للتوبة والصلاة والتعبد والابتعاد عن مشاكل الإمارة. وسرعان ما انتشرت حركته وامتدت من قرطبة الى المرية وبدأت تمارس تأثيرها الفكري واسلوبها التنظيمي على العديد من الفقهاء. إلا أن حركة ابن مسرة تراجعت مع استقرار الدولة وأخذت في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري تتكيف مع بيئة الاندلس قبل ان تعود لتنتج اشكالها الخاصة التي تطورت لاحقاً في منظومات فلسفية صوفية مستقلة. استمرت الاضطرابات طوال فترة الأمير عبدالله بن محمد ولم تستقر بعد وفاته فامتدت باشكال مختلفة الى ولاية حفيده عبدالرحمن الناصر بن محمد. وحينها هدأت العاصفة وتراجعت عناصر الحروب الأهلية فاسحة المجال لعودة الدولة الى مكانها في قيادة الامارة من جديد في مطلع القرن الهجري الرابع. حصلت في عهد الناصر اضطرابات كثيرة نجح في احتوائها مضيفاً اليها أكثر من هزيمة ضد الفرنجة فعزز هيبة الدولة ونفوذها. يعتبر الناصر المؤسس الثاني لدولة عبدالرحمن الداخل الأموية، فاهتم بتشييد المباني والقصور والجسور واستدعى المهندسين من كل الأقطار فوفدوا الى الإمارة من بغداد والقسطنطينية فبنى المنتزهات والبساتين والمساجد والمكاتب واختط مدينة الزهراء نقل اليها مراكز الدولة واداراتها واتخذ منها داراً للصناعة العسكرية آلات الحرب والسلاح وغيرها من المهن، كما قام بتحديث صحن جامع قرطبة لوقاية الناس "من حر الشمس" كما يذكر ابن خلدون في تاريخه. وفي ظل انتصارات الناصر انتعش المذهب الشافعي وبدأ نفوذه يمتد الى أعلى مراكز الدولة فمال الأمير عبدالله وهو، أحد ابناء الناصر الى الشافعية، فخاف اتباع المالكية من تغيير المذهب الرسمي للدولة فاتهم بالتآمر على أبيه وأخيه وأعدم في العام 338 هجرية، وعلى رغم هذه الضربة لانصار الشافعية مارس المذهب تأثيره على علماء المالكية فظهرت لاحقاً كتابات كلامية تجمع بين الحديث والرأي قام بها الفقيه أبو الوليد الباجي توفي 474 هجرية. توفي الناصر في سنة 350 هجرية وولي ابنه الحكم الامارة وتلقب بالمستنصر بالله فاظهر مقدرة على ادارة الدولة وقيادة اجهزتها منذ بداية عهده، ونجح في تثبيت مواقعه على جبهتين: العسكرية ضد الفرنجة والعمرانية في استكمال ما بدأه والده الناصر. من الناحية العسكرية رد الحكم هجمات الفرنجة على الثغور حين حاولوا استغلال فرصة فترة انتقال ولاية الامارة من والده اليه اعقبتها سلسلة معارك معاكسة سجل فيها العديد من الفتوحات والكثير من الغنائم من أموال وسلاح ومعدات وأراض زراعية خصبة فاضطر ملك برشلونة تجديد الصلح معه فوافق شرط أن يهدم الحصون المجاورة للثغور الاسلامية. ومن الناحية العمرانية اهتم الحكم بالعلوم والصناعة والترجمة وتجميع الكتب فاجتمعت عنده "خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده" كما يقول ابن خلدون في تاريخه. بعد نجاح الحكم في تثبيت دعائم الدولة بكسر شوكة الفرنجة ومتابعته مشروع والده العمراني تطلع الى خارج الاندلس واتجه نحو تدعيم قواته بعناصر مغربية فأرسل جيشه الى المغرب الأوسط والأقصى فانضم اليه امراء زناته من مغراوة ومكناسة اضافة الى امراء آل خزر وبني ابي العافية. استهدفت خطوة الحكم في استقدام قبائل مغربية تعويض النقص في التوازن السكاني، وتعزيز الثغور الاسلامية وتدعيم الجبهات العسكرية ضد الفرنجة، وتخفيف الاعتماد على القبائل العربية التي نزحت مع الفتوحات أو بعد انهيار الدولة الأموية في بلاد الشام. كانت الخطوة مهمة على مستوى تحصين المواقع العسكرية وتعويض النقص السكاني للحد من نمو نفوذ المولدين ووقف الاستعانة بالمماليك الصقالبة. إلا أنها ساهمت لاحقاً في تأسيس بؤر توتر عصبية بين عناصر الدولة وجماعاتها الأهلية من عرب وبربر. توفي الحكم سنة 366 هجرية بعد 16 سنة من امارته، وولي بعده ابنه هشام ولقب بالمؤيد وكان صغير السن فتحكم بالامارة الوزير القوي محمد بن أبي عامر المنصور، وبذلك بدأت العصبية الأموية تنحدر مفسحة المجال لتحالفات قبيلة جديدة كان القصد منها تجديد عصبية الدولة وتوسيعها. إلا أن نتائجها السياسية لم تكن متطابقة مع مقدماتها العصبية. فامتداد العصبية الأموية نحو عصبيات أخرى واعتمادها عليها ادارياً وعسكرياً أضعف وحدة الشوكة وادخل المنافسات القبلية الى مراكز الدولة العليا. فالمنصور من كبار رجال قبيلة المغافر اليمنية وجاء جده عبدالملك الى الاندلس مع جيش الفاتح طارق بن زياد. ولعبت أسرته بني عامر دوراً مهماً في تثبيت دعائم الدولة الأموية خصوصاً في مرحلتي الناصر والحكم وباتت القوة الرديفة الأولى في الأجهزة والادارات. لم يكن هناك بين الحاجب المنصور والأمير الصغير مشكلة. فالأزمة تركزت بين الوزير القوي والعصبية المروانية الأموية التي رأت في طموحات الحاجب اضعافاً لشوكتها ومحاولة للانتقال من دور الشريك الى الوكيل الوحيد. منع المنصور من خلال تحكمه بأجهزة السلطة الوزراء من الوصول للأمير الصغير ونجح في تنظيم جيش تابع لقيادته حين أقدم على تدشين سياسة اصلاحية منفتحة تمثلت في رفع عطاءات اجور الجند وتعزيز مراتب العلماء والفقهاء وقمع أهل البدع والأهواء فكسب بذلك رضى فئات واسعة من الناس فأيدت خطواته وارتاحت لتصرفاته. فالمنصور، كما يقول ابن خلدون في تاريخه، كان "ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين". لجأ المنصور الى اساليب متعارضة لتقوية حكمه فأقدم أولاً على اخراج الصقالبة وغيرهم من خصيان وخدم وحاشية من القصر حوالى 800 نفر لمنع الخصوم من الاستفادة من وجودهم في القصر. واتجه ثانياً نحو التحالف مع البربر فتقرب من قبائلهم ورفع من شأن رجال زناته وصنهاجه ومغراوة واسقط رجال القبائل العربية عن مراتبهم. وابتنى ثالثاً موقعاً في مدينة الزاهرة ونقل اليها خزائن الأموال والأسلحة حتى لا تصل اليها المعارضة. وجند رابعاً البربر واستكثر من المماليك والعلوج الفلاحين مستخدماً اياهم كقوات حرس لحماية ملكه. باتباع تلك الخطوات استقر الوضع الداخلي وبات المنصور في موقع قوي سمح لجيشه بالتوجه الى الجبهات. فغزا اكثر من 52 غزوة ربحها كلها فزادت الانتصارات من هيبته السياسية واستغلها لتثبيت ملكه وتوسيعه من الاندلس الى المغرب معتمداً على امراء زناته ومغراوة فاس من آل خزر. دام حكم المنصور 27 سنة، استقرت خلاله الاندلس سياسياً فازدهرت الزراعة وتطورت الصناعة وتواصلت التجارة بين نواحيها. ولم يدم هناء الامارة بعد وفاته سنة 374 هجرية، فاخوه عبدالرحمن طمع بالمُلك بعد توليه منصب الحجابة وتلقبه بالناصر لدين الله، فطلب من الأمير هشام المؤيد ان يعطيه ولاية العهد فأجابه وكتب عهده في سنة 398 هجرية. وأدى الخلاف على ولاية العهد الى نقمة أهل الدولة خصوصاً أنصار الأموية فانقسم الولاء وتوزع بين المروانية القرشية والعامرية اليمنية فاندلعت الفتنة ولم تنته الا بنهاية دولة بني أمية في الاندلس. سنوات الاضمحلال حين اندلعت الفتنة الاندلسية كانت الامارة الأموية مقسمة ادارياً الى 33 ولاية كورة وكل ولاية لها عاصمتها ويتبعها عشرات القرى تصل أحياناً الى 773 قرية في الولاية. وبلغ مجموع سكان الامارة حوالى عشرة ملايين نسمة يتوزعون على 26 ألف قرية وسبع مدن عدا قرطبة. وقدر سكان طليطلة ب37 ألف نسمة، والمرية 27 ألفاً، وغرناطة 26 ألفاً، وسرقسطة 17 ألفاً، ومالقة 15 ألفاً، وبالنسية 16 ألفاً، واشبيلية ثاني مدينة بعد العاصمة 70 ألفاً. في هذا الجو المزدهر بدأت الفتنة، كما ذكرنا، بعد أن حصل عبدالرحمن المنصور الناصر على ولاية العهد. فنقم الأمويون القرشيون واتفقوا على تحويل الأمر من القبائل المضرية الى اليمنية واستغلوا مناسبة غياب الحاجب الناصر في غزوة في مناطق الفرنجة فانقلبوا على هشام المؤيد سنة 399 هجرية وبايعوا محمد بن هشام بن عبدالجبار ولقبوه بالمهدي. وحاول الحاجب الناصر استعادة موقعه فانفض عنه الجند وقتلوه وبايعوا المهدي، فذهبت بذهابه دولة العامريين في قرطبة. لعب انقلاب موقف قبائل البربر من زناته وصنهاجة دوراً مهماً في تغيير المعادلة السياسية التي انتهت بسقوط دولة العامريين الحاجب الناصر وتثبيت امارة المهدي. إلا أن الأمير الجديد عاملهم بأسلوب غير لائق فاتفقوا على بيعة هشام بن سليمان. إلا أن العامة ثارت ضدهم وقبضت على هشام فأمر المهدي بقطع رأسه فخافت قبائل البربر وهرب جنود زناته من قرطبة وبايعوا سليمان بن الحكم ولقبوه بالمستعين. اتصل المستعين بالفرنجة وتحالف معهم واتفق مع قبائل البربر على شن هجوم مشترك على العاصمة، فاقتحمت قرطبة في نهاية 400 هجرية وتم نهبها وقتل 20 ألفاً من أهلها بينهم كبار القضاة والائمة والفقهاء ورجال الدولة. هرب المهدي الى طليطلة وتحالف بدوره مع الفرنجة واقتحم قرطبة وهزم المستعين واسترد العاصمة. فخرج المستعين منها ومعه قبائل البربر الى جوار قرطبة وأخذ بنهب القرى والمزارع وحصلت مواجهات متفرقة بين تحالف قوات المهدي مع الفرنجة وتحالف قوات المستعين مع البربر. وخاف أهل قرطبة من تجديد اقتحامها فأقدم الحاجب واضح العامري من موالي المنصور بن عامر على قتل المهدي محمد بن هشام وتجديد البيعة لهشام المؤيد في خطوة استهدفت تسوية الانقسامات وترضية قبائل البربر. لم ينجح الانقلاب الداخلي في تخفيف الاحتقان فاستمر المستعين بتأييد من البربر في حصار قرطبة فهلكت القرى وتعرضت ضواحي المدينة الى النهب والقتل. واستغل الفرنجة المناسبة وأخذوا باللعب على تناقضات الفريقين فاضطر هشام المؤيد الى التنازل عن قشتالة وثغورها مقابل وقوف المستعين على الحياد. ولم تنفع المساومة إذ اقتحم المستعين وقبائل البربر قرطبة في سنة 403 هجرية وقتلوا هشام المؤيد وفتكوا بأهل المدينة. استقر المستعين في حكمه وبدأ بتوزيع المناطق الاندلسية على رؤساء القبائل البريرية والعربية فتولى باديس بن حبوس غرناطة، ومحمد بن عبدالله البرزالي قرمونه، وأبو نور بن أبي شبل وسط الاندلس، وابن عباد اشبيلية، وابن الافطس بطليوس، وابن ذي النون طليطلة، وابن أبي عامر بلنسية ومرسية، وابن هود سرقسطة، ونال مجاهد العامري دانية والجزر تاريخ ابن خلدون، المجلد الرابع، صفحة 182. استقر الوضع السياسي بعد توزيع مقاطعات الاندلس على امراء البربر، حلفاء المستعين، وبعض امراء العرب الى حين قيام علي بن حمود واخوه قاسم، من عقب ادريس، بالدعوة لأنفسهم فانضم اليه البربر وقاموا بالاستيلاء مجدداً على قرطبة سنة 407 هجرية وقتلوا المستعين، واستمرت سيطرتهم سبع سنين. بعد هدوء نسبي انتفض أهل قرطبة على الحموديين وأعادوا الامارة الى بني أمية فاختاروا عبدالرحمن بن هشام بن عبدالجبار شقيق المهدي المقتول وبايعوه في 414 هجرية ولقبوه بالمستظهر. وبعد شهرين ثار ضده محمد بن عبدالرحمن بن عبيد الله بن الناصر وفتك به واستقل بأمر قرطبة وتلقب بالمستكفي. وبعد 16 شهراً من بيعته انقلب يحيى ابن علي بن حمود عليه ولقب نفسه بالمعتلي وفر المستكفي من قرطبة وتوفي في منفاه. وهكذا بعد دورات دموية متتالية خرج الأمر مجدداً من بني أمية وعاد الى الحموديين وافترقت الدولة على رؤساء من العرب والبربر والموالي وتم اقتسام امارة الاندلس الى ممالك. وسرعان ما ثار أهل قرطبة ضد المعتلي ابن حمود سنة 417 هجرية فأقدم الوزير القوي محمد بن جهور كبير العاصمة وعميد الجماعة على مبايعة هشام بن محمد شقيق المرتضى سنة 418 هجرية وتلقب بالمعتمد. واشتدت في عهده الفتن بين رؤساء الطوائف فاتفق أهل قرطبة على خلعه سنة 420 هجرية واختاروا الوزير ابن جهور والياً عليها. وحاول المعتمد استعادة زمام المبادرة فانقلب عليه الجند ففر الى لاردة بامرة ابن هود سنة 422 هجرية وبقي فيها الى وفاته سنة 428 هجرية. وبرحيله انقطعت دولة الأمويين في الاندلس، وأصبحت قرطبة ولاية مستقلة يرأس ادارتها الوزير ابن جهور. بينما تفككت الدولة المركزية الى كونفيديرالية طوائف جغرافية احتلت فيها القبائل الدور القيادي. * كاتب من أسرة "الحياة". مصادر المقال 1- فتوح البلدان، البلاذري احمد بن يحيى بن جابر بن داود توفي 279 هجرية 892م. 2- المسعودي، مروج الذهب، المجلد الرابع. 3- تاريخ ابن خلدون، دولة بني أمية في الاندلس، المجلد الرابع. 4- الحضارة العربية الاسلامية في الاندلس مجلدان، اصدار مركز دراسات الوحدة العربية، تحرير سلمى الخضرا الجيوسي. مقالات عبدالعزيز الدوري الأول، ص 22 و23، ودومينيك ايرفوا الثاني، ص 1179 - 1211، وماريا ايزابيل فييرو الثاني، ص 1241 - 1258، وبيار غيشار الثاني، ص 963 - 981. 5- احسان عباس، تاريخ الأدب الاندلسي عصر سيادة قرطبة.