لا يعرف أحد كم عدد الغجر في العالم، وليست هناك دراسات مؤكدة حول أصولهم التاريخية ولا حول أسباب رحيلهم المستمر. وكل ما يوجد من دراسات لا يستطيع الإجابة بصورة قاطعة عن هذه الموضوعات. ونتائج تلك الدراسات مختلفة باختلاف كتّابها. حتى القبائل الغجرية نفسها التي تحاول تفسير الرحيل الدائم والمستمر وتبرير عذابها فيه تتناقض، بل تتناقض التفسيرات في كثير من الأحيان في القبيلة الواحدة. كل ما هو معروف او منتشر بين تلك القبائل التي لوّحتها الشمس، انها تنتمي الى منطقة تقع شمال الهند، او جنوب الباكستان الحالية، لكن تلك القبائل لسبب أو آخر تفرّقت وانتشرت في العالم كله. جزء منها بدأ الرحيل الطويل شمالاً بداية من دول الإتحاد السوفياتي السابق الى دول أوروبا الشرقية والغربية، والجزء الثاني اتبع الرحيل الدافئ عبر منطقة الشرق الأوسط، من إيران إلى العراق والشام، ثم عبروا إلى مصر وشمال أفريقيا التي ألقت بهم إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. لكن الأغلبية منهم تقطن حالياً في إسبانيا ورومانيا والمجر، ووصل بعضهم الى أستراليا ونيوزيلانده وبعض دول أميركا اللاتينية. كان الغجر أيضاً من أبرز ضحايا الحرب العالمية الثانية، قتل منهم هتلر اكثر من نصف مليون خلال الحرب العالمية الثانية، بل أن بعض المؤرّخين يؤكد ان ما تعرّضوا له من عذاب على يد النازية يفوق كثيراً ما تدّعيه الصهيونية عن ضحايا اليهود في ما يسمى بالمحرقة، وما يؤكد هذا السرية التامة التي تم الإعتراف بها من جانب ألمانيا بالمأساة التي تعرّض لها الغجر خلال الحكم النازي، وأيضاً المساعدة القانونية الكبيرة التي قدّمتها المنظمات الصهيونية في هذا الشأن حتى يتم الأمر بلا دعاية تكشف ان فئات اخرى غير اليهود تعرّضت لأبشع عمليات التطهير العرقي، وأن اليهود ليسوا وحدهم الذين عانوا خلال الحكم النازي. الغجر شعب مكتوب على قبائله الرحيل والحزن، مكتوب على قبائله ايضاً ان تعيش طريدة بلا وطن واحد تنتمي اليه او تأوي. من لا مهنة له من بين الغجر يمتهن أي شيء من العمل، البيع تجوالاً، او جمع الأشياء القديمة، او رعي الماعز، الى قراءة الطالع وادعاء معرفة ما تخبئه الأيام. ويقومون بهذه المهنة لا عن خبرة ومعرفة حقيقية، ولكن اعتماداً على الشهرة التي اكتسبوها في هذا المجال. ولأن حياتهم عذاب دائم، اخترع الغجر أشكالاً من الحياة يرفهون بها عن أنفسهم بكل الطرق. وإذا كان نهارهم العمل ما بين نوبات من الغناء، فإن ليلهم رقص وموسيقى . ما بين هذا وذاك يستمتعون أحياناً، لكن المؤكد انهم يمتعون اكثر الشعوب التي نبذتهم وتمارس ضدهم ألواناً من التمييز العنصري لم يتعرض لها مثلهم غير زنوج الولاياتالمتحدة الذين جلبهم البيض عبيداً للعمل في مزارع القطن والقصب، ثم تحوّلوا مع مرور الوقت الى ما يشبه الغجر في أوروبا. كانت حياة الغجر الغربيين مثيرة للعديد من دارسي الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، ومثيرة أيضاً للباحثين عن مادة دسمة تلفها الأساطير. لذلك كانت حياتهم محوراً للعديد من الكتب رغم قلّتها نظراً الى دسامة المادة التي تحاول فك "الطلاسم" التي تحيط بحياتهم في محاولة لفهمها، أو على الأقل للتعامل معها بشكل يمكن أن يؤدي إلى فهم تلك الحياة. لكن الغجر أنفسهم يؤكدون ان كل الكتب التي اتخذت من حياتهم مادة لم تستطع ان تقدّم تفسيراً حقيقياً لما عاشوه ويعيشونه. أشهر الغجر يعيشون في إسبانيا، وإقامتهم فيها كانت دائماً محل نزاع مع السلطات التي استقبلتهم قرب نهايات العهد العربي في الأندلس. وكان الغجر الفئة العرقية الأكثر تعرضاً لعذاب محاكم التفتيش بعد الموريسكيين، ورغم كل ما تعرضوا له من اضطهاد وعذاب أنزلته بهم محاكم التفتيش، فهم ظلوا يمتعون الشعب الإسباني برقصهم وغنائهم. ورغم قرارات الطرد التي لاحقتهم في العديد من العهود، إلا أنهم أصبحوا إحدى العلامات المميزة للشعب الإسباني. وشكل الفلامنكو كرقص وغناء ومصارعة الثيران العلامة المسجلة لكل ما هو إسباني، بل تركّز عليه الدعايات السياحية وكأن الغجر هم أصحاب البلاد، لكن الحقيقة المرّة أنهم ضحايا كل العصور في تلك البلاد التي تحاول ان تقدمهم كعلامة مسجلة لمنتجاتها الوطنية. وقد نشطت أخيراً جمعيات ومؤسسات تحاول ان تضع الغجر على خارطة الشعب الإسباني، لا كمجموعة عرقية، بل كجزء من نسيج المجتمع حتى لا يظلوا عرضة للتمييز العنصري. ولتلك الجمعيات والمؤسسات مراكز دراسات وبحوث واستشارات قانونية تحاول ان تقدم المعونة لمن يريد من الغجر الإنضمام الى قافلة المجتمع عبر التعليم الجامعي الذي تذهب اليه قلّة منهم، نظراً لتعصّب الأغلبية لأعمالهم التي ورثوها عن أجدادهم. أنشط تلك الجمعيات تطلق على نفسها اسم "الإتحاد الروماني" وقامت بدراسة الأخبار التي تضمنتها 124 صحيفة ومجلة خلال عامي 1995 و1996، وتتناول احداثاً تتعلق بالغجر. وعلى اثر هذه الدراسة اصدرت دليلاً لغوياً يحاول تبيان جوانب خفية من حياة الغجر، وشرح معاني بعض الكلمات التي يستخدمونها في ما بينهم، ويتضمن ايضاً إرشادات للعاملين في الحقل الإعلامي. هذه الإرشادات تبدو كنوع من "دليل أسلوب الكتابة الصحافية" وتعدّها بعض وسائل الإعلام ساعية من خلالها الى تتميز في اسلوب الكتابة وكي تتجنّب من ناحية اخرى تتجنب الوقوع في الاخطاء الشائعة. تطالب تلك الإرشادات وسائل الإعلام بعدم الإشارة الى الاشخاص الذين ينتمون الى تلك الجماعات بصفتهم ينتمون الى "العرق الغجري" وخصوصاً عند التعامل مع خبر في الحوادث كالقتل او السرقة. الإشارة هذه تخلق موقفاً عاماً معادياً ضد الغجر في الوقت الذي يناضلون هم من اجل الذوبان في نسيج المجتمع الإسباني بدلاً من البقاء على هامشه. تقول كتب الإرشادات الغجرية أيضاً، ان المجتمع الغجري لا يعتمد تسلسلاً أبوياً كون السلطة هي لشخص محدد يفرض كلمته على الجميع، ولكنهم يحترمون الشخص الكبير السن ويجلّونه بما له من خبرة في الحياة. قائمة الإرشادات طويلة ومطالب الغجر فيها الكثير من الصحة، ووسائل الإعلام تميل الى التعميم في تعاملها مع الأخطاء التي يرتكبها البعض، مع ان الجرائم التي يرتكبها بعضهم تشبه الجرائم التي يرتكبها افراد فئات المجتمع الأخرى. لكن الصحيح ايضاً انه على رغم تلك الجهود التي تحاول دمج الغجر في المجتمع الإسباني، فإن الغالبية العظمى من الغجر يرفضون عمليات الدمج التي تعرّضوا لها طوال حياتهم وفي كل المجتمعات التي عاشوا فيها، بل ان الغجر يبدون احياناً اكثر عنصرية تجاه الآخرين من عنصرية الآخرين تجاهه.