غوايات المعارض الفنية تختلف وتتباين. ولا يتردد الفنانون في لعب الغواية بما يؤتون من حذاقة ومن دهاء. وأصول اللعبة تشترط المواربة في كل ابعادها. فهي كلام من غير قول، بوح من غير افصاح، واشارة من غير عرض. أما اداة اللعب فحدودها البطاقة او الملصق المعلنان عن المعرض او الداعيان اليه. وقد بلغت لعبة الغواية ذروتها في الدعوة الى معرض اربع تجارب فنية الذي استضافه غاليري أتاسي في دمشق لمدة اسبوعين. فعنوان المعرض لا يؤول باكثر من معناه المباشر اربع تجارب واسماء اصحاب هذه التجارب تحتجب وراء ألقابها، اسماء عائلاتها فيومي، قدسي، مهايني، الأصيل وصور اللوحات المتجاورة لا تشي بما هو مختلف عن غيره من المعارض .. الى ان نقرأ على ظهر طرف البطاقة المثنية على شكل غلاف، اي في أقل الزوايا وضوحاً، اشارة الى ان المعرض مخصص لاربع من ... الفنانات السوريات. فيثار الفضول ويتأجج لاكتشاف ما نحن مدعوون لمشاهدته. لماذا اربع فنانات في معرض واحد؟ أهو بيان نسوي أو جندري تريد منه صاحباته اعادة الحياة الى نضال لم ينجح، هو الآخر، من حالة الاحباط والموت التي اصابت المجتمعات العربية فخمد وانطفأ أو انكفأ الى ما تحقق رسمياً، فانحبس في ملف المكتسبات والشعارات؟ أهو ملتقى لصداقة اجتماعية تمتد الى ما وراء الهواية والاحتراف وتسعى اليوم لتؤكد واقع الشللية الذي يجد اكثر من مراقب للحياة الثقافية في سورية معطيات وذرائع تبرهن على وجوده بل على هيمنته على هذه الحياة؟ أهو صدفة وفّرت صاحبة صالة العرض إمكانية تحققها لاسباب تدخل في حيّز استراتيجية السوق الفني من دون علاقة مباشرة مع موضوع المعرض؟ تساؤلات كثيرة تسقط لمجرد طرحها طالما انها تبقى في حدود الاحكام المسبقة ولا تصيب جوهر الموضوع الفن. ومن هنا ذروة الغواية لاكتشاف هذا المعرض ولاكتشاف المنطق الجامع لهذه التجارب الفنية الفريدة التي تتمايز بمواد اعمالها وبرؤاها للعالم. تعطي الزيارة الاولى للمعرض احساساً بالولوج في صندوق باندورا: عوالم تتعايش في الحيز نفسه ولا تتكامل. تبحث العين عن الخط الرابط او القاسم المشترك بين الخبرات الاربع فلا تنجح باستكشافه ولا يساعدها في بحثها بوح سيدات هذا الحيز اللواتي تنوس ردودهن على التساؤل بين حدي الصداقة القديمة الجامعة بينهن وبين الحساسية المشتركة في التعبير. لذلك نحاول التمعن اولا في كل تجربة على حدة، قبل البحث عما يجمع بينها. تنتسق الاعمال الخزفية التي شاركت فيها السيدة ضحى القدسي في المعرض في ثلاث مجموعات: جدارية كبيرة، طاولات منخفضة مربعة ومستديرة، لوحات جدارية صغيرة. لكن المجموعة الاولى هي، بلا منازع، اكثر المجموعات تميزاً وتفرداً. وهي جدارية كبيرة تتألف من اربعة مربعات متساوية المساحة ومتكاملة الموضوع. وهي تعالج موضوع موت وانبعاث القمر كما تصورته الاساطير الفينيقية واليونانية القديمة فتمثّل في كل مربع من المربعات المتكاملة حالة من حالات القمر. فهو ساطع في كبد السماء تلاعبه سعف النخيل ثم غارق في غياهب الارض تحت طبقات من الرماديات والترابيات، ثم متململ في حركة صعود وولادة وانبثاق، واخيراً مشرق في الأفق من خلف جبل. حركة دائرية تبعث الحياة في صلابة المادة ومساحات لونية تتواشج لتفضح تقاطيع جسد الكون. تبدو اعمال "القدسي" متفاعلة الى حد كبير مع خصوصيات فن الخزف، أداتها لتناول العالم تناولاً ابداعياً. ويكون هذا التفاعل ايجابياً وودياً في وجه من وجوهه لكنه يغدو صراعياً وندّياً في وجه آخر. يظهر الوجه الايجابي في العلاقة مع الالوان وذلك حين تختار ألواناً نارية، واضحة الشخصية، لا تزيدها عملية الشوي الا حدة وقوة في الحضور. كاللون الذي تختاره للقمر الاحمر أو لتنويعات الاصفر والبني والرمادي المختارة للارض. كل هذه الالوان تكتسب في عبورها للنار حياةً ولمعاناً ولكأن النار تطهرها من شوائبها ونجسها لتبرز ما هو جوهري فيها. اما الوجه التصارعي في التعامل مع المادة فيبدو في الخطوط. فللخطوط في الخزف حضورها الإلزامي وفعاليتها المبالغ فيها احياناً. فهي تنتج من تلاقي قطع الطين المشوية وترتسم فوق جسد العمل كآثار الجروح فوق الجلد. لكن الخزّافة لا تسمع لقطع الطين بأية حرية في تقرير حركية خطوطها فتطوّعها كما تريد للتطابق مع حدود عناصر لوحتها أو عملها. ولذلك تبدو الخطوط المحددة لهذه العناصر وكأنها تصارع وتقاوم بقية الخطوط التي تبدو حرة في لعبها فوق سطح العمل. وتلي لوحات السيدة لجينة الأصيل بتركيباتها اللونية البرتقالية والزرقاء وبعالمها اللطيف الذي يذكرنا بان صاحبتها قد قدمت أفضل نتاج فني مخصص للاطفال. تنهض لوحات الاصيل على عالم من البقع اللونية التي يخيّل للمرء انها قد وزّعت بمزاجية خاصة أو بحساسية بصرية فريدة لا تحددها غاية ولا ينظمها سياق عقلاني ملموس. هذا ما يجعلنا عاجزين عن تصور اللوحة في مرحلتها البقعية اي قبل تدخل الفنانة فوق السطح المبقع لتضع فوقه وبواسطة أداة تحديد ما قلم أو ريشة أو... خطوطاً واضحة الشخصية ترسم الاشجار واغصانها وتؤطر لمساحات لها شكل العصافير. تتعامل "الأصيل" في المرحلة الاولى من عملها بعفوية تقارب حدود الطفولة بل واللعب، ويخيل للمشاهد انها ترشق سطح اللوحة بالالوان وكأن نقل الوان العالم هو الهدف الاساسي وليس الرسم ثم، ما ان يزهو العالم بألوانه القزحية حتى تمارس سلطتها الابداعية فتمسك بالاسود لتقول لما تحبه من عناصر الكون: كوني! فتكون. اما أسمى فيومي فانها تقدم في لوحاتها الزيتية جواً مختلفاً عن بقية أجواء المعرض. فهي تحمل اعمالها موقفاً نقدياً. أي انها لا تكتفي برسم العالم وانما تقول كلمتها في هذا العالم. تختار "فيومي" الازرق كلون اساسي في اللوحة، فنجده في كل مسامها وكأنه صوت الجهير الباص في قداس شرقي. وتعلل الفنانة هذا الاختيار بما يمتلكه الازرق من مقدرة درامية استطاعت اكتشافها والسيطرة عليها من خلال خبرتها في مجال الديكور التلفزيوني والمسرحي. والواقع ان الازرق، وإن كان يحكم اللوحات، فانه أزرق مراوغ يعصى على التعيين. وهو يدخل في صياغة كل عناصر اللوحة وكأنه يوزع بتمايز توناته ودرجاته ادوار هذه العناصر. فالزرقة الكثيفة للسماء تتعارض مع الزرقة الباهتة لأوراق الصبّار الشائكة كما يتعارض الخير مع الشر أو كما تتعارض الحرية مع السجن. وتتميز أعمال "فيومي" بتوزيع عناصرها توزيعاً درامياً ايضاً. هناك علاقة واضحة ضمن كل عمل بين العناصر المكوّنة له. فنجد في احدى اللوحات مثلاً ورقتي صبار كبيرتين تسدّان المستوى الاول وتطغيان على الافق فلا يبقى منه سوى ثغرات ضيقة تبرز منها بقايا مدينة. ان اللون الازرق بتدرجاته والتركيب المدروس للكتل والرموز قادران بكل كفاية على تصوير العالم الذي تريده الفنانة بل وعلى تحميل هذا العالم لما تريده من مواقف. غير ان الفنانة لا تكتفي بهذا الحد من القدرة على التعبير بل تبالغ متوسلة لتلك المبالغة خطوطاً قاتمة وواضحة الفعالية، ليس في تحديد أطر العناصر فحسب بل وايضاً في وضع احداثيات ناظمة لعالم اللوحة كتلك الخطوط العمودية التي لا تدخل اللوحة لتضيف عنصر أعمدة الكهرباء والهاتف كقرينة من قرائن المدينة وإنما تستغل الفنانة هذه الحقيقة فتوظفها في رسم المحور القائم في احداثيات الكون. كأن الفنانة لا ترضى برؤية العالم يتشكل بألوانه ومساحاته فقط فتتدخل لترسم للاشياء حدودها ولتضع للعالم نواظمه. وننهي زيارة المعرض باعمال الفنانة هالة مهايني القادمة من تجرية طويلة في الرسم بالالوان المائية ولكنها تخرج في هذا المعرض عن تخصصها ذاك وتستخدم انواعا متعددة من الالوان: بلاستيك أكليريك، مائي... تتميز اعمال "المهايني" بمبالغتها اللونية. كل لوحة من لوحات المعرض ملحمة لونية بما في ذلك اللوحات ذات اللون الغالب الواحد. ونظن ان المغامرة اللونية تجري على اللوحة مباشرة وليس خارجها، اي على حامل الالوان. ان الفنانة تقوم، على ما يبدو، لخلط الالوان فوق القماش معطية للون حرية التعامل مع غيره. فهناك ألوان مركبة تشي بمركباتها المتعايشة معها في نفس الحيّز والمشاركة في نفس الوقت في تركيب الوان اخرى. وهناك الوان مركبة تتداخل بدورها، وبعد استراحتها على سطح اللوحة، مع الوان مركبة اخرى. وهكذا تتمازج الالوان ودرجاتها ومشتقاتها وتختلط حتى تكاد تخنق اللوحة بثرثرة لونية لولا ان الفنانة تتدخل بشكل واضح فتضع لهذا العالم الهائج نواظم تقطّعه وتنظّمه وتقنونه لتعيده الى مستوى دلالي. الفنانة تشكل عالمها الثري بطبقات متراكمة ومتفاعلة من الالوان ثم تمارس سلطانها على ما انتهت اليه فتحوله الى اطياف حاملة لدلالات مكانية كبيوت وابواب ونوافذ واشجار... لا تحمل اعمال "المهايني" اية اشارة بصرية واضحة الى تخطيط مسبق لموضوع اللوحة، وحتى لو كان لتخطيط من هذا النوع وجود فانه لا محالة غائب تحت طبقات من الأستار. والآن وبعد محاولة قراءة التجارب الاربع المؤلفة للمعرض نعيد التساؤل والبحث عن الجامع المنطقي والتشكيلي لها. لقد رأينا ان الاعمال المعروضة، وعلى الرغم من الاختلاف الظاهر بينها، تتماثل جميعها في المنهج الابداعي المعتمد: توفير مادة الخلق، الهيولي الاولى، اولا ثم التدخل فوق هذه الهيولى لتحويلها الى حياة. التجارب الاربع تقول فعل الخلق وتكشف عن شخصيات مبدعة تمارس سلطانها على عالم الالوان والخطوط. ان ما يجمع بين هذه التجارب هو تلك الارادة في اثبات المقدرة على المشاركة في صياغة العالم وذاك الابداع في التعبير عن هذه المقدرة فنياً. * ناقد من سورية.