يحاول الفنان الشاب شارل خوري، أن يروي بالخط واللون حكايات بسيطة قريبة من عالم رسوم الأطفال، في انتاجه الأخير المؤلف من 56 لوحة مواد مختلفة على ورق وخشب عرضها في غاليري "الأيبروف دارتيست"، يستكمل فيها بنضوج أكبر بداياته التي عرفت انجذاباً خاصاً لأشكال الحشرات والحيوانات الأسطورية ذات المناخات الغرائبية والفانتازية. كمن يحاول أن يكشف أسراراً صغيرة لطبيعة المخلوقات المنتمية الى عالم خفي ومبهم، هكذا يسعى الرسام الى أيقاظ الخنافس والثعالب والقنافذ والحشرات والسرطانات من مخابئها السفلية، كي يجمعها ويوزعها في مشهد سينوغرافي داخل منظر طبيعي، يتحدب فيه خط الأفق ويتكور كظَهر حيوانٍ وحشي، فالطبيعة جرداء قاحلة كأنها من عصور بدائية وفيها يتحرك عالمٌ خيالي وسحري، يصح فيه الافتراض أو التضخيم الشكلاني للناصر. كالأشباح ذات العيون الحمر والظلال الإنسانية الممسوخة في محيط الكائنات البهيمية الجامدة نسبياً في ليلها الأعزل، وبين صخور كبيرة كأنها هابطة من سماء سوداء، أو منظر شجرة تعانق الريح، الحركة الوحيدة التي تكسر جمود الكتل هي حركة المسير أو الانقضاض أو التوثب. في الأعمال الكبيرة تظهر الأشكال مرقّطة جميلة معا يطل اللون الأسود ليغطي المساحة الخلفية، وأحياناً يحوط الكائنات ليزداد بروزها، فيغدو الأسود مناخاً يعكس كل العلاقات اللونية الأخرى خصوصاً الأحمر والأزرق والألوان الترابية الصفراء، كما يذكِّر الأسود الفحمي الكبير بلوح المدرسة، والخرطشات السريعة بألوان الطباشير... هنا الخيال والحرية مرادفان للبساطة والاختزال. في المواد المختلفة على الورق، تتراءى تجارب شارل خوري على المساحات الصغيرة، في سلسلة من التعبيرات الخطية واللونية أكثر دينامية في التلاعب بالأحجام والكتل. فهو يكرس آناً حضور الخط وآونةً ضربة اللون في تحقيق ألغاز الشكل عند قراءة تحولاته، إثر معالجات متعددة. فالخطوط المرتجفة تؤطر فراغاً أو تحصر موضوعاً، واللون في مكان آخر يملأ ويظلل، فيلفت رجل واقف بجسم مربع ورأس مدور ورجلين هما عبارة عن خطين ينتهيان بزهرتين، بالطريقة التي تدني هذا الرسم من كيفية تمثيل الطفل لمحيطه الخارجي بنوع من الاختزال والترميز اللذين يبتعدان عن التفصيل الإدراكي. وهي سمة من سمات رسوم الأطفال في مراحل مبكرة، وثمة سلوك آخر ينعكس في الحركة السريعة للخربشة عند املاء الفراغ الداخلي للموضوع... وفي رسوم شارل خوري أشكال ملتوية ومشعثة ومسحوقة مزخرفة ومخططة أو منقطة، مع كائنات من عالم الفضاء الذي يسحر مخيلة الأطفال. الأهم في هذا المسار هو استفادة الرسام من تلقائية الطفل في تعاطيه الحر مع المساحة، بعفوية مطلقة، تلك العفوية التي غيرت مسار الفن في القرن العشرين مع جماعة الكوبرا و"بول كلي" و"ميرو" وشاغال" و"جان دو بوفيه"... وغيرهم. على حدود الإعجاب والدهشة، شارل خوري الهادىء المتأمل، الذي يستوحي القدرة الإبداعية لدى الأطفال بحكم مهنته كمدرِّس لمادة الرسم، وهو يسعى لتوجيه المواهب الصغيرة قدر ما يستعير منها مفرداتها وخيالاتها، ضمن رؤية فانتازية - غرائبية سوداء، تعتمد على إيحاءات التقنية، لإيجاد ملمس الأرض كتكوين جيولوجي يحققه في المواد المختلفة على الخشب، حيث العلاقة بين المسطحات تعكس تناقض الألوان الليلية والأخرى الرملية، أي المصقول والنافر الخشن كولاج رمل مع غراء على بعدين بينهما أفق لهضاب ووهاد، زرقاء بنفسجية... وعلى الرمل آثار محفورة لأقدام حيوانات مرعبة في مناخات مثيرة للعين، وسرطانات بطيئة تحفر كثبان الرمال، مع ثعالب تقفز وأخرى تحلم بنجوم السماء بينما الطيور الكبيرة غير مبالية. فالفضاء مأهول بالسواد والكائنات لها ألوان الأرض. فالتقشف اللوني في لوحات شارل خوري ينسجم مع توازنات الألوان وتوزيعاتها المبسطة، ثم الحفر والقشط والخربشة داخل الكتلة الرملية كلها أفعال تضاعف الانطباع بأهمية وجود الكائنات التي لا نرى غرائزها أو علاقاتها التصادمية أو الهرمية أو التوافقية. فهي مجرد أشكال متعددة تتقاسم فضاء اللوحة، من غير روابط!! أحيانا تظهر مشدودة الى خيط إنساني ولكنها لم تدخل في حالات الصراعات الدرامية الموجودة أصلاً في الطبيعة، كما تخلو من الأسقاطات التعبيرية للغرائز فتظل مسالمة وحيادية. إلا أن شارل خوري أوجد لغة قابلة للتطور في مغامرته التشكيلية، بعناصرها وخيوطها المتشابكة. الى أبعد من اللعب والتسلية، لا سيما مع وجود كائن يسير في خط ينتهي بعقدة، وفي مكان آخر ثمة خيوط مكوكية تبدأ بسلّم ولا تنتهي إلا في شبكة فخاخ داخل كهوف سفلية حيث عالم صغير يثور ويتضخم في ليل الكائنات.