مثل كتابات على رمال الأزمنة، لوحات الفنانة التشكيلية الأسبانية "أسمبسيو ماتو" التي عرضت في بيروت ابتداء من 5 أيار مايو غاليري الأيبروف - دارتيست مجموعة من 27 لوحة مواد مختلفة على خشب وورق وقماش، يأحجام كبيرة و4 قطع ليتوغرافي ملون، هي بمثابة مناظر آثارية، مستوحاة من الطبيعة الجيولوجية لأمكنة موهومة من بلدان المتوسط حيث زرقة البحار وألوان الصحراء وعناصر من حضارات قديمة ورموز فينيقية وأخرى فرعونية، كأن المساحة فضاء معقد لأشياء كثيرة تبوح بها الفنانة على مراحل من العمل تندمج فيها الكتابات القديمة والحديثة كقصائد لونية منبثقة من تفسخات الأرض. هو الوقت الذي يمر من ضفةٍ الى ضفةٍ، من ذكرى الى موجات ظهورها موارِبةً. فالماضي المستعاد من ثقافات المتوسط وحضاراته لا يلبث ان يتراكم زيوحاً لأعمار خلتْ وزخارف ورموز وإشارات مبهمة وتصاوير ولُقى. كأنها تسبر أغوار الأرض، حين تؤلف "ماتو" لوحاتها على هيئة لوائح عمودية تموج في حقولها الأفقية طبقات من الألوان والعجائن والمواد بين لصق وقشط ورسم وتلوين ثم تمويه، واعادة تشكيل وخرمشة griffures وخدش وتحفير وتبصيم... حتى إذا خيم عليها الظلام بأزرقٍ ليلي، تعودُ اليها "ماتو" بما يشبه ضوء الشموع في أقبية سفلية، لتكتشف الأسرار المحفورة على جلد الأرض بعد أن غسلتها الأتربة، فتتراءى على سطوحها شموسٌ وعصافير وسنابل وأقمار وأشجار كما الباب والهيكل والثور والثعبان والمفتاح ومشط العروس وماء العين... رموز وإشارات وعلامات شاردة في ذاكرة الأرض تطفو على تربة رسوبية داكنة مضاءة بسحابة من اللمعانات الصفراء القوية التي لا تلبث أن تضيء معها كل الأمكنة المتوحشة الرمادية والترابية المحمرّة. فقماشة "ماتو" غزيرة التفاصيل، غنية الإيحاءات، ملغَّزة بكثافة، وقلقة بقوة مثل عاصفة هوجاء مرت بأرض فكشفت عنها غطاءها. هكذا يتم التقاط الذاكرة قبل هروبها أي دخولها في الزمن من جديد، كي تعاود الأرض سيرتها الأولى وحكاياتها وأساطيرها. ولطالما أغرت الفنون البدائية بجمالياتها وأسرارها لغة مرحلة الحداثة واستمرت في إغناء المرحلة التي أعقبتها برؤى تعتمد أكثر على الإيحاء البصري والتأثير الفاعل، من خلال المواد والأفكار والتقنيات. حيث كل ما هو دفين ومموَّه وغريب يقدم صدمة بصرية جديدة قابلة للتأويل. والفنانة "أسمبسيو ماتو" من مواليد كازا دو لاسيلفا - جيرونا الإسبانية العام 1952 إثر دخول اعمالها في مجموعات خاصة ومتاحف اسبانيا وسويسرا وفرنسا والمانيا وايطاليا والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية وكندا، قررت منذ العام 1989 الانصراف كلياً للفن فتركت التعليم في جامعة برشلونة، وبدأت أسفارها في كل من أميركا وأوروبا والهند وأفريقيا الشمالية وبلدان الحوض الشرقي للمتوسط. وقد ساعدها زواجها بوضاح فارس صاحب غاليري فارس في باريس حتى العام 1990 في التعرف على الجذور العربية للحضارة الإسبانية، فاستوحت الإيقاعات الحروفية في المخطوطات العربية وطرائق تدوين النصوص الحديثة في سطور مندمجة مع أشكال رمزية متفرقة، كأنها تُرجع اللغة لأصولها التصويرية القديمة. فكل حرف هو صوت ومجموع الرموز - الحروف ما هي الا أصوات تائهة في حقول آثارية شرقية، تلك الأصوات التي تجاري مرحلة - ما بعد الحداثة - في البحث عن دهشة اكتشاف لمكانٍ أو لأرض وربما لذاكرة تتجذّر فيها لغة التشكيل كفعل تصويري أو كتشييد بديل يقوم مقام الأدوات التقليدية. لذلك تلعب يد الفنانة دوراً أساسياً في المخاطبة الحواسية المباشرة للقماشة وما يتراكم عليها من أصباغ ورمل وعجائن خام، في حالة بناء تستعير أفعال البنائين لا سيما حين تؤسس "ماتو" بيدها طبقات لوحتها بما يشبه عملية توريق الجدار. وإذا كانت أعمال "أسمبسيو ماتو" خال العام 1973 - 1975 تذكِّر ب"مينشو" و"تابياس"، فإن المراحل التي قطعتها من التعبيرية - التجريدية الى اللاشكلانية، قد أوصلتها الى لغة متحررة ومنفتحة على العالم وعلى أفكار العصر التي تتعدى التشبيه والتجريد، الى لوحة "مواديه" من مواد مضيئة المظهر متفاوتة الملمس تتجاوز الهيئات الحزينة لجدران الزمن الراهن، نحو أعماق الأرض وجذورها وشعابها. وبعد تعرفها الى ثقافات المتوسط وعمائره وألوانه وطبيعته، ظهرت لديها عناصر في اللوحة بدأت تذوب متحولة الى ليالٍ مائية وأراضٍ نائية حيث أمواج الرمل تغرق في الأضواء الذائبة وتندفع نحو كتابات حديثة وقديمة لا يربط بعضها ببعض إلا ايقاعها الداخلي وحركتها في الزمن. فالفضاء الشاسع في الصحراء القاحلة، جعل التجريد الغنائي يقلِّد حركة الطبيعة نفسها. إذ بدأ الاقتراب من الطبيعة يظهر بإدخال بعض من موادها الى اللوحة رمل، بودرة رخام، خِضاب طبيعي Pigment إلخ ولم تغب عن هواجسها العناصر الأربعة للتكوين، الهواء والماء والتراب والنار، ومن أسبابها رسمت ماتو السواحل المنعزلة حيث موجة زرقاء وحيدة تعلو قبل انحسارها في غيبوبة رمادية. كأنها الموجة الأخيرة بل النظرة الى الأشياء الآفلة أو المودِّعة. لقد بقي التجريد في أعمالها، حتى أواخر الثمانينات، معتمداً على طريقتها اللونية المرتكزة على لمسات صغيرة تتعاقب وتتدرج من الفاتح الى الغامق من ايقاع هارموني مثل قماشة خلفيات اللوحات الأنطباعية أحياناً. لا يلبث أن يتفاوت هذا العمل للريشة واللون، مع محاولة إضافة الملمس الخشن على الملمس الناعم، ليحدث ذلك الأيحاء بحركة رملية على الشاطىء وأحياناً بطبيعة صخرية وعرة ومتعرجة. فاندماج "ماتو" بالطبيعة لا يهدف الى اكتشافها، بل التواطؤ مع غموضها وتحولاتها وحركتها الداخلية المتنوعة بلا حدود.