- 1 - خطوات رجل طويل القامة الى حد ما تقرع باب السكون في شارع طويل مظلم. الرجل يمسح بنظراته أطياف المباني المنتصبة على الجانبين. يتوقف بغتة امام مدخل بناء ذي طوابق عدة. يتلفّت يمنة ويسرة ليتأكد من خلو الشارع تماماً. ظلمة ما قبل الفجر تكاد تطمس المكان لولا بعض الانوار الملوّنة الخافتة المنبعثة من بعض النوافذ هنا وهناك. يُخرج الرجل من جيبه قدّاحة وعلى ضوء نارها يتفحّص قصاصة من الورق كانت في يده اليسرى: العنوان نفسه. يدلف الى البناء. يصعد الدرجات الى الطابق الثالث متخذاً من نار قدّاحته نوراً يستهدي به الى مواقع قدميه فالعتمة حالكة في الداخل. يتوقف امام باب احدى شقق الطابق. يُقرّب قدّاحته من اللوحة الصغيرة المُثبّتة على جرس الباب: الاسم نفسه، سميح البديني. يتحسّس جيبه الداخلي. يسحب مسدساً مزوّداً بكاتم صوت. يمدّ يده اليسرى ويقرع الجرس. للجرس في مثل هذا الوقت من الليل وقعٌ مشؤوم. يتناهى رنينه الى أذنيه وهو يشقّ السكون والعتمة. ولكن: لا نأمة ولا أثر لحركة داخل الشقة. يعيد الكرّة. بعد لحظات من التحفّز والقلق يسمع صوت اقدام داخل الشقة وهي تقترب من الباب. فجأة يعمّ النور المكان فقد أُضيء المصباح الكهربائي الذي يعلو الباب من الخارج. يحافظ على رباطة جأشه، ينفتح الباب ويُطلُّ عبره رجلٌ بوجهٍ تتقاسمه آثار النوم وملامح الاستغراب. الوجه نفسه. كما في الصورة التي رآها وحفرها في دماغه. ومع ذلك يسأله من باب التأكد: - السيد سميح البديني؟ - نعم! يرفع القادم مسدسه ويعاجل سميح البديني بثلاث طلقات... تخترق الرصاصة الاولى جهة الصدر اليسرى وتثقب الثانية العنق، وتفجّر الثالثة قسماً من الرأس. وبدلاً من ان يستدير ليلوذ بالفرار يسقط القاتل نفسه مضرجاً بدمائه. - 2 - توجّّه مفوّض الشرطة والطبيب الشرعي يصحبهما عدد من افراد المفرزة الجنائية الى مكان الحادث بعد تلقي بلاغ عن وجود جثة تحمل مسدساً بكاتم صوت داخل مبنى في احد احياء المدينة. فحص الطبيب الشرعي الجثة. سببُ الوفاة واضح: ثلاث رصاصات مزقت احداها القلب وثقبت الثانية منتصف العنق وهشّمت الثالثة قسماً من الجمجمة جارفة معها شيئاً من الدماغ. الذهول يرمي مفوّض الشرطة في دواماته. كان في قرارة نفسه يعلم ان شخصاً سيُقتل في هذا المكان. الا ان ما أذهله الى هذا الحدّ هو ان الجثة كان من المفترض ان تكون جثة سميح البديني لا هذه الجثة. ارتدى قفازاً وسحب المسدس من يد القتيل ووضعه في كيس من النايلون. وفي يد القتيل اليسرى المضمومة عثر على قصاصة من الورق تحمل اسم سميح البديني وعنوان هذا المبنى بالذات. كان هو نفسه قد زوّد القتيل بهذه المعلومات. ومن باب التمويه تم التحقيق مع سكان المبنى ومع المقيمين في الجوار ولكن تبين ان لا وجود لشخص يدعى سميح البديني في المبنى، بل لا وجود له في الحيّ بأكمله. كما تبين ان سكان المنطقة كلها لم يسمعوا باسم سميح البديني من قبل. - 3 - عاد مفوض الشرطة الى منزله والذهول ينهش دماغه. دخل غرفة نومه بخطى زائغة متثاقلة واغلق الباب على نفسه. تقدّم صوب المرآة الكبيرة المعلّقة على الجدار بشكل مائل. لطالما وقف امامها في السابق مزهواً بنفسه وانتصاراته. الا انه كان هذه المرّة في غاية الاحباط. كأن القدر يعانده ويقف لمخططاته بالمرصاد. بهدوء شديد سحب مسدسه. رفع رتاج الامان وصوّبه نحو المرآة قائلاً: - ايها الأحمق!!.. وأطلق على المرآة ثلاث رصاصات. بانغ. بانغ. بانغ. رصاصة نحو جهة الصدر اليسرى، واخرى نحو منتصف العنق، وثالثة نحو الرأس. ووسط جلبة لعلعة الرصاص وصوت تهشّم الزجاج المتكسّر سقط المفوض مضرجاً بدمائه. لكنّ المرآة بقيت سليمة تماماً. - 4 - فُتح باب المقبرة الحديدي الكبير ودلف منه شخص طويل القامة الى حد ما. كان يحمل ثلاثة اكاليل من الزهور اليانعة. بعد ان اجتاز عدداً لا بأس به من القبور توقف اخيراً امام ثلاثة قبور حديثة العهد: قبر سميح البديني، وقبر القاتل المأجور، وقبر مفوّض الشرطة.