شهد الاقتصاد اللبناني منذ الاستقلال وحتى اوائل الثمانينات ازدهاراً شابته بعض الانتكاسات، وغذى هذا الازدهار، مع انشغال اللبنانيين بالصراعات السياسية المتولدة من تركيبة مذهبية طوائفية متفاعلة تاريخياً مع المحيط والخارج، لا عقلانية اقتصادية وسياسية. هذه اللاعقلانية تحصنت دائماً وراء اقانيم وطروحات غير قابلة للنقاش، يمارس البعض من خلالها ارهاباً فكرياً لمنع المحاسبة والمساءلة. ان البحث الاقتصادي الجدي لا يستطيع الخضوع الى هذه اللاعقلانية، بل يضع الأمور والمشاكل على بساط البحث والنقاش، بغية الوصول الى حلول عقلانية، ثم ان البحث في الشأن الاقتصادي اللبناني كان وما يزال يعاني من نقص مزمن ومقصود بالاحصاءات والأرقام، فعدد السكان والناتج المحلي والدخل الوطني والعمالة اللبنانية والوافدة، وانتاج القطاعات وأرقام الموازنة ومعدلات الادخار ومعدلات النمو، كل هذه وغيرها مجرد تقديرات، يستدل عليها بتقديرات مما يفقد البحث الاقتصادي كثيرا من دقته ويحول الأرقام الى وجهات نظر، ويمنع من بناء نماذج اقتصادية يمكن عبرها استشراف التطورات وتقييم العديد من السياسات. وبالرغم من هذه التحفظات لا بد من اعتماد الأرقام المتوفرة والبناء عليها للوصول الى تقييم وترشيد السياسات الاقتصادية عامة، والمالية بشكل خاص، ولا بد من القاء نظرة عامة على الوضع المالي وتطوره ولو بشكل مختصر، قبل البحث بتقييم السياسة المالية. بين 1993 وحتى نهاية سنة 1998 نما الناتج المحلي القائم الإجمالي بالسعر الجاري لليرة اللبنانية من 11823 بليون ليرة الى 21196 بليون ليرة وبنسبة 79 في المئة. اما واردات الخزينة فنمت بمعدل 180 في المئة اي 2.3 اضعاف نمكو الناتج المحلي، ونمت نفقات الخزينة بمعدل 240 في المئة اي اكثر من ثلاثة اضعاف ن.م.ق. ونما العجز في الخزينة 320 في المئة اي أربعة اضعاف نمو ن.م.ق وكذلك نمت خدمة الدين بأربعة اضعاف نمو ن.م.ق. اما الدين العام فحقق نمواً قيمته حوالي 338 في المئة أي بحوالي 4.3 اضعاف نمو ن.م.ق. اما الدين الخارجي فقد حقق نمواً قدره 1028 في المئة اي 13 ضعف نمو ن.م.ق. وبلغ الدين العام الصافي المعلن اكثر من 130 في المئة من ن.م.ق. في نهاية سنة 1998. نقول بالدين المعلن لأن هناك حوالي 1500 بليون ليرة صرفت ولم تنفق، وسترفع الدين العام بالتالي الى حوالي 29.340 بليون ليرة لبنانية، في نهاية سنة 1998 . تبدو الصورة جد قاتمة، وهي كذلك، حتى لو زينا الأرقام والنسب الوارد ذكرها اعلاه. فكيف وصل الوضع المالي الى ما هو عليه؟ السياسة الضرائبية استطاعت السياسة الضريبية اللبنانية من سنة 1993 وحتى سنة 1998 من زيادة الواردات الضريبية من 11.8 في المئة من ن.م.ق. الى حوالي 18.4 في المئة من هذا الناتج، اي بزيادة 6.6 في المئة من الناتج خلال خمس سنوات. دون تغيير كبير في توزيع هذه الواردات اذ بقيت الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة لها تشكل حوالي 34 في المئة من واردات الخزينة، وارتفعت واردات الجمارك من 47.5 في المئة الى 51.6 في المئة من مجمل الواردات. وكانت الرسوم الجمركية رفعت بمعدل 4 في المئة على جميع السلع المستوردة خلال سنة 1998 من دون تمييز. وشهدت السنوات الخمس زيادات مطردة في الرسوم والضرائب، وكذلك تحسناً في الجبايات، وجباية بعض المتأخرات من الضرائب والرسوم وتسويات مخالفات البناء، مما يجعل قياس تأثير المتغيرات الضريبية على الواردات أمراً في غاية الصعوبة. ولكن يمكننا القول ان زيادات كبيرة في الرسوم مثل رسوم السير قد رفعت نسبة المتهربين من الدفع، وان رفع بعض الرسوم والضرائب دفع البعض الى الخروج على القوانين والأنظمة. إعادة توزيع الموارد: ان إقتطاع حوالي 18.4 من الناتج المحلي القائم يعني أخذ هذه الموارد من القطاع الخاص لاعادة توزيعها عبر القطاع العام. فهل يستطيع القطاع العام استعمال هذه الموارد بكفاءة تفوق استخدام القطاع الخاص لها؟. ان العبء الضريبي اللبناني يقع على الطبقات الشعبية والمتوسطة، عبر الضرائب غير المباشرة، فان الموارد التي تقتطع من استهلاك الطبقات الشعبية تدفع باعداد كبيرة من اللبنانيين الى ما دون خط الفقر، وتحرم هذه الطبقات من الاستهلاك الضروري لتطوير قدراتها الانتاجية على المستويين الصحي والتعليمي، فأعداد متزايدة من الاطفال لا تستطيع الالتحاق في المدارس الرسمية، وعائلات كثيرة لا تستطيع تأمين السكن الصحي والغذاء المتوازن لأبنائها، ناهيك عن الخدمات الصحية الضرورية، وذلك في غياب شبكة الضمان الاجتماعي القادرة على حماية الطبقات الشعبية من العوز الشديد. كما ان فرض الضرائب الجمركية المرتفعة على جميع مدخلات الانتاج الزراعي والصناعي، وفرض رسوم مرتفعة على بعض هذه المدخلات المحلية، مثل الطاقة ساهم في تخفيض القدرة التنافسية للانتاج اللبناني في السوق المحلية، وكذلك في اسواق الصادرات، مما ألحق اضراراً بالغة بقطاعات الانتاج هذه. اما تأثير النظام الضريبي على اعادة توزيع الناتج المحلي فتكاد لا تذكر حسب بعض الدراسات، فالنظام الضرائبي أعفى معظم المداخيل الريعية من الضرائب، مثل الفوائد على الودائع والفوائد على سندات الخزينة اللبنانية، والتي يملك اكثر من 90 في المئة منها البنوك واصحاب المداخيل المرتفعة من لبنانيين وغير مقيمين، كما ان الارباح الاجمالية على الأسهم معفية من الضرائب، وأعفت القوانين الحديثة من ضريبة الإرث انتقال اسهم الشركات العقارية، وشكلت مخرجاً للتهرب من ضريبة الإرث لكبار الملاكين العقاريين الذين يحولون ممتلكاتهم الى شركات عقارية. منذ سنة 1992 تم تخفيض عدد الشرائح لضريبة دخل الأفراد من 13 الى 5 شرائح، ونسبة الضريبة على الشريحة العليا من 32 في المئة الى 10 في المئة وخفضت الضريبة على الشريحة العليا من ارباح الشركات من 50 في المئة الى 10 في المئة وأضيفت ضريبة 5 في المئة على توزيع الأرباح. ان السياسة الضريبية هذه أبقت التفاوت في المداخيل بين الشريحة العليا في المجتمع 20 في المئة من الأفراد والشريحة الدنيا 20 في المئة ايضا اكثر من 25 ضعفاً حسب بعض التقديرات مقارنة مع 5.5 اضعاف في المانيا، وأربع اضعاف في اليابان. نفقات الخزينة: ارتفعت نفقات الخزينة المعلنة من 20.65 في المئة من ن.م.ق في سنة 1993 الى 46 في المئة لسنة 1996 ثم انخفضت، نتيجة "سياسات التقشف" الى 39.16 لسنة 1998. واذا كانت موارد الخزينة بلغت 3900 بليون ليرة لسنة 1998 فان العجز قد بلغ حوالي 4400 بليون ليرة، تم تمويل 60 في المئة منها بقروض خارجية وباكتتابات بسندات الخزينة لغير المقيمين. فالتمويل الداخلي بين واردات وقروض داخلية بلغ 26.7 من ن.م.ق. اما خدمة الدين البالغة 3314 بليون ليرة فمثلت حوالي 15.6 في المئة من ن.م.ق. واذا ما استثنينا خدمة الدين، يكون الانفاق الحكومي الفعلي على اجهزة السلطة وتوظيفاتها قد بلغ 23.5 في المئة من ن.م.ق. وذلك عبر الخزينة فقط. اما قروض مجلس الانماء والإعمار وقروض شركة كهرباء لبنان على سبيل المثال لا الحصر فلا تدخل ضمن هذه المبالغ الواردة اعلاه. ومن الصعب جداً حصر مجمل انفاق القطاع العام خارج الموازنة. ويمكن تقسيم انفاق الخزينة الى انفاق منتج وانفاق غير منتج، بدل التقسيم التقليدي الى انفاق جار وانفاق توظيفي، اذ ان التقسيم الاخير مضلل الى حد بعيد، فجزء من الانفاق التوظيفي مثل الانفاق على المشروع الاخضر، وعلى الجامعة اللبنانية يذهب الى الرواتب والأجور والتي هي انفاق جار وليس انفاقاً توظيفياً. ليس كل انفاق توظيفي حسب هذا التمييز هو انفاق منتج. بينما يشكل بعض الانفاق الجاري المؤثر في تطور القوى البشرية وانتاجيتها، وعلى المدخرات الخاصة والتوظيف، وبالتالي على التراكم الرأسمالي توظيفاً منتجاً. ويمكننا القول ان التوظيف عامة في البنية التحتية الضرورية، وفي التعليم بكل مراحله وفي التدريب المهني واعادة تأهيل القوى العاملة هو توظيف منتج، ومن الصعب دراسة الانفاق من الخزينة حسب هذا التقسيم ولكن يمكننا اخذ بعض المؤشرات على الانفاق عبر الخزينة، مقارنين الانفاق على التعليم اي الانفاق المنتج، مع الانفاق على القوى العسكرية اي المثال الذي يؤخذ على الانفاق غير المنتج، وكذلك مقارنة انفاق بعض الوزارات التي يفترض ان تمثل قطاعات انتاج محددة مثل وزارة الزراعة ووزارة الصناعة والنفط. وخلال السنوات موضع الدراسة انخفض الانفاق على كل من وزارة الثقافة والتعليم والتعليم المهني من 3.44 في المئة من ن.م.ق. الى 3.23 في المئة من هذا الناتج وبنقص قدره 6.1 في المئة، اما الانفاق على وزارة الدفاع الوطني ارتفع من 3.37 في المئة من ن.م.ق. الى 3.54 في المئة من هذا الناتج وبمعدل 5.04 في المئة وهي زيادة متواضعة امام زيادة الانفاق على وزارة الداخلية حيث ارتفع نصيبها من الانفاق من 1.12 في المئة الى 1.6 في المئة وبمعدل حوالي 43 في المئة. اما الانفاق على وزارة الزراعة فانخفض من 0.49 في المئة الى 0.17 في المئة وبمعدل 65.31 في المئة وكذلك الانفاق المنتج الى الانفاق غير المنتج. وحرمان القطاع الخاص من موارد هو بأمسّ الحاجة اليها ويمكن انفاقها على زيادة الا ستهلاك الضروري المنتج وعلى التوظيفات المنتجة، الى انفاق غير منتج. اما الانفاق على الرواتب والأجور فقد ارتفع من 6.26 في المئة من ن.م.ق. الى 7.78 في المئة وبمعدل زيادة قدرها 24.28 في المئة. ان ارتفاع نصيب الرواتب والأجور من الانفاق العام لم يكن نتيجة رفع كفاءة القطاع العام. فهذه النفقات تذهب لتمويل جيوش من الموظفين قليلي الكفاءة بشكل عام وذوي رواتب جد متواضعة، وقد زاد عدد موظفي القطاع العام بعد الحرب الأهلية، نتيجة تفشي البطالة من ناحية، ونتيجة تدخل الزعامات السياسية في الادارة لادخال العديد من عديمي الكفاءة والعاطلين عن العمل لجميع الاجهزة الرسمية والمؤسسات والمرافق التابعة للقطاع العام. والهدر في هذا القبيل هو مزدوج، اذ ان الموازنة ترهق في تمويل عدد كبير من القوى غير المنتجة، وبالتالي تهدر قسماً كبيراً من واردات الخزينة المنتزعة من القطاع الخاص القادر على استعمالها بشكل منتج، ومن ناحية ثانية فانها تخرج قسماً كبيراً من القوى العاملة من اطار العمل المنتج الى نطاق البطالة الخفية الدائمة، وبالتالي تحرم القطاع الخاص من طاقات يمكن ان تكون منتجة. ويمكن للانفاق العام ان يلعب دوراً كبيراً في اعادة توزيع الناتج المحلي عبر الانفاق. فالانفاق على التعليم الرسمي العام وعلى التعليم المهني الرسمي، وعلى الجامعة اللبنانية يشكل اعادة لتوزيع بعض الثروة لمصلحة الطبقات المتوسطة والفقيرة، رغم عدم كفاءة هذه المؤسسات الرسمية. فكلفة هذه الخدمات مرتفعة جداً، اذا ما قيست الكفاءة بعدد الأساتذة لعدد الطلبة، وبمستوى هذه الخدمات التعليمية والتربوية بشكل عام، وبملائمة هذا التأهيل او التوظيف في العامل البشري لمتطلبات قطاعات الانتاج. وكذلك الانفاق عبر وزارة الصحة وعبر تعاونية موظفي الدولة على الخدمات الصحية والاستشفائية، اذ ان هذا الانفاق يعد اعادة لتوزيع الثروة الوطنية لمصلحة الطبقات المتوسطة والفقيرة، رغم الهدر المرتفع في هذه القطاعات على صعيدي ثمن الأدوية والخدمات الطبية والاستشفاء في المستشفيات الخاصة. ولكن هناك العديد من ابواب الانفاق الحكومي تعمل لاعادة توزيع الثروة او المداخيل الفعلية لمصلحة الطبقات الاكثر ثراء، مثل سياسات دعم الاندماج المصرفي، ودعم فوائد بعض القروض، والاعفاء من الرسوم والضرائب، دفع فوائد سندات الدين العام، الذي يذهب اكثر من 90 في المئة منها للطبقات الغنية او الموسرة وللمؤسسات المالية والمصرفية، ولمتعهدي تنفيذ مشاريع وبرامج شتى بالتراضي وخارج اطار المناقصات العلنية والشفافة. ويعتمد تأثير هذا الانفاق في النمو على نسبة الكفاءة في استعمال الموارد المقتطعة من القطاع الخاص اي نسبة الهدر في انفاقها. وعلى طبيعة الانفاق بين انفاق منتج وانفاق غير منتج، وعلى طبيعة المشاريع التي تمولها الخزينة على صعيد البنية التحتية اي الجدوى الاقتصادية لهذه المشاريع اذ ليس كل توظيف في البنية التحتية هو توظيف منتج. فحسب هذه المقاييس ودون الدخول في التفاصيل يتضح ان الانفاق الحكومي المتزايد على جهاز يتضخم دون زيادة في الكفاءة، وعلى بطالة خفية متزايدة في القطاع العام، وعلى هدر في الموارد وعلى مشاريع في البنية التحتية غير متكاملة، وتفيض عن حاجات الاقتصاد، او على مشاريع وهمية، او مشاريع حقيقية ومنتجة ولكن بكلفة غير عادلة، كل ذلك يجعل نمو الانفاق الحكومي كابحاً للنمو الاقتصادي ومعطلاً للموارد المادية والبشرية المتاحة. * اقتصادي لبناني.