تتميز السياسة المالية بأهمية خاصة في الإدارة الاقتصادية بسبب تأثيرها المباشر والسريع في سلوك الأفراد كمستهلكين ومدخرين ومستثمرين ومنتجين وبالتالي في الأداء الاقتصادي ككل، بينما قد لا يكون للتغيير في أدوات سياسات أخرى تأثير مباشر في سلوك الأفراد عندما لا يستجيبون له بالطريقة التي يتوقعها صانعو القرار أو تتوقعها النظرية الاقتصادية لأسباب تتعلق بتوقعات الأفراد أنفسهم في شأن مستقبل الوضع الاقتصادي. لذلك يتأثر الأفراد والاقتصاد ككل في شكل مباشر بجانبي الموازنة السنوية للدولة، أي النفقات والإيرادات، خصوصاً التوزيع الاقتصادي للأولى بين مختلف أنواع النفقات والتوزيع الجغرافي بين مختلف المناطق، وطريقة تحصيل الإيرادات وأهمها أنواع الضرائب ومعدلاتها وأوعيتها. في لبنان أعلن وزير المال محمد الصفدي في 24 أيار (مايو) صيغة جديدة لمشروع الموازنة العامة لعام 2012 واعتبرها متميزة عن موازنة 2011 بالمزايا التالية: - نفقات إجمالية تبلغ 21355 بليون ليرة (الدولار يساوي نحو 1500 ليرة) وإيرادات تبلغ 15787 بليون ليرة أي بعجز مقداره 5568 بليون ليرة، - زيادة في الإنفاق الاستثماري بنسبة 65 في المئة، - خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 135.1 في المئة إلى 134.8 في المئة أي بمقدار 0.3 نقطة، - زيادة في معدلات الضريبة على القيمة المضافة من 10 إلى 12 في المئة وعلى فوائد الودائع المصرفية من خمسة إلى سبعة في المئة، - إدراج ضريبة بنسبة أربعة في المئة على إيرادات بيوع العقارات المملوكة قبل 1 كانون الثاني (يناير) 2009 وبنسبة 15 في المئة على أرباح بيوع العقارات المملوكة بعد هذا التاريخ، - إدراج زيادة في الضريبة على القطاع المصرفي. ويتوقع المعنيون ان تؤمّن هذه الإجراءات الضريبية الإيرادات الضرورية للموازنة من دون ان ترتب أعباء إضافية تثقل كاهل المواطنين، خصوصاً ذوي الدخل المحدود والمتوسط. وحددت الموازنة أهدافها بالآتي: - الحفاظ على الاستقرار المالي من خلال ضبط مستوى العجز، - الحفاظ على تعزيز الاستثمار في البنى التحتية، خصوصاً الطاقة والمياه والطرق والاتصالات، من أجل دعم الإنتاجية الاقتصادية والنمو الاقتصادي، - إعفاء أرباح الصادرات الصناعية من الضريبة عليها بنسبة 50 في المئة تشجيعاً للصناعة اللبنانية، - منح الفنادق والمشاريع السياحية خارج العاصمة إعفاءات ضريبية كاملة لخمس سنوات بهدف تنمية المناطق الريفية، - إخراج فواتير الكهرباء والماء والهاتف من نطاق الضريبة على القيمة المضافة في مقابل إعادة العمل بالرسوم البلدية على هذه الفواتير ما يعزز واردات الهيئات المحلية المنتخبة تماشياً مع مبدأ الإنماء المتوازن للمناطق. بعد هذا الاستعراض السريع لأهم مزايا الموازنة المقترحة وأهم أهدافها لا بد من إبداء بعض الملاحظات المهمة: - بلغت الزيادة في مجموع نفقات الموازنة في 2012 مقارنة ب 2011 ما مقداره 1582 بليون ليرة في مقابل زيادة مقدارها 235 بليون ليرة فقط بين 2010 و2011 أي بأكثر من ستة أضعاف، بينما ارتفعت الإيرادات ب 1426 بليون ليرة، وهي أقل من ارتفاعها بواقع 1481 بليون ليرة بين عامي 2010 و2011. لذلك قد يصعب على الحكومة الحفاظ على نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي أو خفضه قليلاً كما نصّت الصيغة المعلنة للموازنة، خصوصاً ان النفقات الاستثمارية المقررة ل 2012 لا يتوقَّع ان تعطي عائدات في السنة ذاتها. أما زيادة معدل الضريبة على القيمة المضافة من 10 إلى 12 في المئة، وهي ضريبة غير مباشرة يتساوى في دفعها الجميع، أي الأغنياء وذوي الدخل المحدود، فستؤثر حتماً في طريقة سلبية في الفئة الأخيرة إذ سترفع تكاليف معيشتها. وستؤدي هذه الزيادة بدورها إلى زيادة في أسعار السلع والخدمات التي تنتجها الفئات التي لديها الحرية في رفع أسعارها ما سيضع أعباءً إضافية على ذوي الدخل المحدود قد تؤدي إلى المطالبة مجدداً برفع الأجور والرواتب. واتخذت الموازنة خطوات جيدة لتحقيق الإنماء المتوازن تتعلق بإخراج فواتير الكهرباء والماء والهاتف من الضريبة على القيمة المضافة إلى رسوم بلدية تكون إيرادات مباشرة للبلديات المنتخبة تنفقها مباشرة على تحسين شؤون بلدياتها. ويصح الأمر ذاته في مجال منح الفنادق والمشاريع السياحية خارج العاصمة إعفاءات ضريبية كاملة لخمس سنوات بهدف تنمية المناطق الريفية. مع ذلك يبقى السؤال المهم وهو: كيف ستوزَّع الزيادة الكبيرة في النفقات الاستثمارية وفق المناطق؟ واضح ان خدمات المواصلات والاتصالات والماء والكهرباء تتركز في العاصمة بيروت، وكلما زاد البُعد الجغرافي عن بيروت قلّ نصيب المناطق البعيدة من هذه الخدمات. ومن دون توخي العدالة في توزيع الزيادة المقترحة في الإنفاق على البنية التحتية ليشمل المناطق البعيدة عن العاصمة لا يمكن تحقيق الإنماء المتوازن. وسيحد فقدان الإنماء المتوازن من منافع الإعفاءات الضريبية الممنوحة للفنادق والمشاريع السياحية خارج العاصمة بهدف تنمية المناطق الريفية، وكذلك من منافع إعفاء أرباح المشاريع الصناعية بنسبة 50 في المئة من مقدار الضريبة عليها بهدف تشجيع الصناعة اللبنانية. * كاتبة متخصصة في الشؤون الاقتصادية - بيروت