بين كركرة الأرجيلة الأليفة وملاطفة الجمر المتدثر بالرماد تبدو أصداء اليمام والبلابل والببغاوات البرية في فضاء الشجر نداءات لذاكرة تترمد. ويتلون الشجن بألوان الشفق اذ نتحدث عن مواسم هجرات الطيور. تقفز في ذاكرتي مفردات الأمس وتتوغل في استثارتي. أعلم يا توأم النفس ان لغة الأمس غير لغة اليوم. تلك كانت وشوماً من لهب النار... وخلاصة عطر البراءة. كان لها نفح الطيب كلما احترقت. من يستطيع التعايش مع لغة لا نكهة لها؟ أنا أيضاً في سنين الصمت القاتل افتقدت النكهة. وما لا نطيق، أن ذاكرة نكهة الأمس تبقى تستثير وجداننا. ذاكرة الطيب في ثنايا ملابس أمي. ذاكرة الثوم وشواء السمك منبعثة من مطبخها مختلطة بالبرتقال الشتائي. ذاكرة الأرجيلة تؤكد حضور أبي في المنزل. كل ذلك كان يستبيح ركود السكون. أليس عشقاً ان ترى امتزاج الثوم والطيب والأرجيلة حدثاً مثيراً؟ نكهة الأمن التي تسمح للطفولة ان ترقص بطمأنينة فوق الأرصفة!
أثرتني بعتابك، حد البكاء. أمس كنت أحدث نفسي... واليوم أستمع اليها... وأحياناً أهرب منها... تماماً مثلما نهرب بنظراتنا من المرآة حين لا نرتاح الى ما نرى. حين يطل علينا بين التماعاتها وجه غير ذاك الوجه الطفولي الذي نتوقعه، الوجه الذي لا يتجمد رونقه في أعماقنا. هل الأمر حنين طفولي... تتعلم ان تخضعه وتشكمه وتخفيه عن أنظار الآخرين؟ هل نرى في ما نرى غير الذي نحلم ان يكون؟ ربما!
هل تحدث استباحات السكون لغير الاطفال؟ حين نكبر... نمنع أي مؤثر من استباحة سكون أجوائنا... نتعايش مع المعتاد... والمتكرر... والسائد... والطرق المعبدة التي يؤمها كل غيرنا من العابرين. نفقد الرغبة في البحث عن المتفرد... تسلق أشجار اللوز... ومحاورة أعشاش اليمام... والحلم بالأرانب البرية... ونداءات قوس قزح.. وتقافز الغزلان في براري السراب... واستباحات بلّور السكون. ننشغل بالتأكيد ان الساعة لن تتوقف... وأن خطانا لن تتباطأ... وأن الدرب واضح حتى النهاية... أو ممتد الى ما لا نهاية... دون منعطفات مفاجئة تهددنا بالمجهول.
ثم... نجد أنفسنا فجأة نسمع كركرة الأرجيلة وصفير البلابل منبعثاً من نوافذ غير تلك التي غيبتها الذاكرة... فتستفيق كل تشوقات طفولتنا المغيبة. وأنت يا سيدي أيقظت رغبة الرقص على أرصفة الفرح لأنك أشرعت - فجأة - تلك النوافذ الطفولية.