إن الملك حسين غفر الله له سيبقى مالئ الدنيا وشاغل الناس، بحكم مكانته ودوره ومواقفه في فترة حكم قاربت نصف قرن حافل بأحداث جسام أردنياً وعربياً واقليمياً ودولياً. إن الظروف الصحية القاسية التي سبقت انتقاله إلى جوار ربه خلقت جواً نفسياً مفعماً بالعاطفة، وربما يحتاج الأمر بعض الوقت، حتى يعطى هذا القائد حقه من التقييم والإنصاف. ولكم رغم ذلك، فإن مساهمات الملك حسين ودوره ومواقفه، في بلد في منتهى الأهمية بحكم وضعه الجيوبولتيكي، وارتباط أمنه واستقراره بأمن الأمة ككل، يتطلب منا أن نعطي هذا الحدث التاريخي ما يستحقه من اهتمام. إن عناوين أحداث النصف قرن التي خلت والتي ما زلنا نعيش بعضها، وتداعيات البعض الآخر، هي عناوين في غاية الإثارة والأهمية، ولا يمكن التوقف عند عنوان من هذا العناوين من دون أن يكون للملك نصيب، ولا يمكن لمقالة صحافية مهما طالت ان تعطي الموضوع حقه. وربما من المناسب تسليط الأضواء على الأحداث التي شهدها نصف القرن الذي عاشه الملك حتى نتمكن وبصورة موجزة من تكوين صورة عن الأحداث الجسام التي عايشها وكان له فيها صولات وجولات. فهو تسلم الحكم وهو شاب يافع لم يتسلح بعد بالخبرة المطلوبة وأمامه مسؤولية بناء بلده الحديث في إقليم حافل بعواصف من كل اتجاه، وتداعيات حرب العام 1948 واستيلاء الصهاينة على فلسطين كانت في أوجها، كما شهدت الساحة العربية ثورة العام 1952 في مصر، مع بروز جمال عبدالناصر كقائد عربي تمتع بتجاوب الشارع معه ومع طروحاته، مع خطاب سياسي لم يكن معهوداً سلب الجماهير العربية لبها. وتلى ذلك اختفاء عرش هاشمي في بغداد كان يشكل الدعم والسند للملك عام 1958 مع ما يعنيه العراق للأردن من أهمية سياسية واقتصادية وأمنية، وطروحات ثورية لها تداعياتها وانعكاساتها على الأردن وعلى العرب جميعاً، ثم قيام الوحدة بين مصر وسورية، بما عناه من انتشار المد الناصري. وتلى ذلك أيضاً نهاية الوحدة وحرب اليمن، وحرب العام 1967 التي كان الأردن طرفاً فيها، وترتبت عليها خسارة جزء أساسي من المملكة الأردنية الهاشمية واحتلال القدس الشريف، وتلى ذلك وجود مكثف للفدائيين وكافة الفصائل الفلسطينية الثورية على أرض الأردن مما أدى إلى دخول الأردن في معركة سافرة اصطلح على تسميتها ب "أيلول الأسود" عام 1970، انتهت بخروج القيادات الفلسطينية. ثم كانت الحرب الإيرانية - العراقية التي ساند فيها الأردنالعراق مساندة تامة. ثم تلى ذلك اجتياح قوات النظام العراقي للكويت وما تلاها من تبعات كان للملك حسين موقفه الخاص الذي سيبقى مثار جدل، وترتب على ذلك توتر علاقات الملك مع دول الخليج العربية. ونحمد الله أنه وقبل أن ينتقل الملك إلى رحمة الله، كادت الأمور أو أوشكت أن تعود إلى طبيعتها. في كل هذه الأحداث كان الملك موجوداً، وموجوداً بقوة، وكان موقف الحسين له تأثيره، وأياً كان موقفه فإنه كان يخرج من العاصفة لينتقل إلى عاصفة أخرى. ويعترف الجميع بقدرته الفائقة على تغيير مواقفه حسب ما تقتضي التوازنات في حينه. ويسجل للملك حسين بناؤه للمؤسسات الدستورية والتزامه بالنهج الديموقراطي وفق اسلوبه وطريقته مما ساهم في استقرار الأردن وقدرته على مواجهة المخاطر، وساهم في انتقال السلطة بصورة دستورية. وحتى مناوراته الداخلية كانت من خلال التعامل مع الدستور ونصوصه، ومن خلال قواعد اللعبة الديموقراطية التي رسمها الدستور. ونحث القيادة الجديدة في الأردن الشقيق على تعزيز المسار الديموقراطي، فهو السبيل للتلاحم بين القيادة والشعب، وهو الحامي بعد الله من ويلات الدهر. ولقد أعلن الملك الجديد عبدالله بن الحسين أنه سيسير على خطى والده ولا نشك في صدقه في ذلك، إلا أنه في مثل هذه الحالة فإن التاريخ لا يعيد نفسه، بل أن هناك عوامل موضوعية وشخصية وعامة تفرضها طبيعة كل شخص وكل مرحلة، هي التي تحدد اسلوب العمل لكل قائد، وتلعب دوراً أساسياً في رسم سياساته الداخلية والخارجية. إن الأردن بلد عربي شقيق، وبحكم وضعه الجغرافي، وامكاناته الاقتصادية المتواضعة، والتحديات التي يواجهها، يتطلب من أشقائه العرب أن يكونوا إلى جانبه، خصوصاً إذا ما وضعنا في عين الاعتبار أن عدو العرب الأول إسرائيل لها مخططاتها وأهدافها العدوانية التي لا تخفيها تجاه هذا البلد. واتوقع أن تسعى بكل وسيلة إلى زعزعة أمنه واستقراره. وأرى أن التلاحم بين القيادة الأردنية وشعبها من خلال الالتزام بالنهج الديموقراطي واحترام تطلعات الإنسان الأردني، وتقوية العلاقات مع أشقائه العرب، واحتضان الاشقاء العرب لاخوانهم في الأردن، ما سيحبط مخططات العدو. وإن المشاركة العربية الكبيرة من جانب الدول العربية ككل، ودول الخليج على وجه الخصوص، ما يعطي مؤشراً لإدراك ذلك. ونذكر بالكثير من الاعجاب الحنكة السياسية للرئيس حافظ الأسد الذي أجل الانتخابات، وشارك في الجنازة، وحرص على رغم ضيق الموقف على اجراء محادثات مع الملك الجديد. ونحن في الخليج العربي أكثر الدول ارتباطاً بالأردن أمناً واستقراراً وازدهاراً، ويجب ان نذكر بالكثير من العرفان في هذه المناسبة دور الجالية الأردنية في مسيرة التنمية في دول الخليج في كل المجالات، شأنها شأن الجاليات العربية الأخرى. كما أن البنية الاجتماعية والثقافية في الأردن متشابهة إلى حد كبير مع الخليج، وله حدود مع المملكة العربية السعودية الدولة الرئيسة في مجلس التعاون. ولذلك فإنني اطالب قياداتنا في الخليج العربي أن تقف إلى جانب الأردن، وأن توفر له الدعم المعنوي والمادي الذي يمكنه من مواجهة التحديات الجسام التي تواجهه. وأشير بالكثير من الانزعاج إلى أمرين مصدرهما واشنطن. الأول يتعلق بتصريح بأن الرئيس كلينتون ووفده الكبير سيغادران واشنطن يوم الأحد. وهذا قبل أن ينتقل الملك إلى رحمة الله تعالى بعدة أيام، مما يترك ظلالاً ليست مرغوبة. الأمر الآخر، يتعلق بتصريح من الولاياتالمتحدة الأميركية يقول إن الولاياتالمتحدة ستدعم الأردن مادياً، وأنها طلبت من دول الخليج كذلك. وكأن دول الخليج في إنتظار ذلك الطلب من واشنطن، وكأن واشنطن تريد أن تجير ما سيقدم من مساعدات من دول شقيقة للأردن لصالحها. وفي تقديري أن دول الخليج ستقدم الدعم الذي تستطيعه للأردن من منطلق الحرص على استقراره وازدهاره، ومن منطلق الترابط العضوي بين الأردن والخليج. وأجزم - على سبيل المثال - ان مصدر قرار الشيخ زايد بن سلطان رئيس الإمارات العربية المتحدة بدعم الأردن بوديعة كبيرة اريحية عربية ورغبة صادقة في مساندة الأردن والوقوف إلى جانبه، وليس نتيجة لحث من هذا الطرف أو ذاك. حقق الله للأردن الشقيق دوام الأمن والاستقرار والازدهار وحماه من كل مكروه. * كاتب سياسي قطري.