"أومرلي" و"إيمرالي" لفظتان متشابهتان. لكنهما مختلفتان في المضامين. فأومرلي اسم قرية كردية صغيرة في الاطراف النائية من مدينة أورفة جنوب شرقي تركيا. وإميرالي اسم جزيرة صغيرة في بحر مرمرة تضم سجناً محصناً ومعسكرات خاصة وأبنية امنية وشواطئ ملطخة بالدم. الفرق الشاسع بين الاسمين على رغم تشابهما اللفظي. لكن ما اصبح يجمع بينهما في الفترة الاخيرة ان زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان الذي ولد وعاش بدايات حياته في أومرلي النائية قبل واحد وخمسين عاماً، انتهى الآن الى ايمرالي حيث الاعتقال العصيب والفظ واحتمالات الاعدام. إيمرالي السجن شهد قبل تسعة وثلاثين عاماً إعدام احد أهم نزلائه، رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس، الذي ازاحته واعتقلته قوات الجيش في انقلاب عسكري في 1960 بتهمة الاخلال بعلمانية الدولة التركية. فهل يمكن ان يشهد اعداماً ثانياً من خلال اوجلان الذي حمل يساريته في يد وقوميته في اليد الاخرى للاخلال بالدولة التي اراد مندريس الاخلال بها في بداية الستينات؟ بعيداً عن المصير المحتمل في إيمرالي، قد يفيد التوقف قليلاً عند نقطتين اساسيتين معلقتين باعتقال هذا الزعيم الكردي الذي تصفه انقرة بالارهابي بينما يعتقد آخرون بثوريته ونظافته ويقينه بأهمية التطهر الروحي والاحتجاج البنّاء عن طريق الانتحار بألسنة النار، كما نجد بعض مؤيديه يفعلون. في ما يجري عند الحديث عن الاطراف المسؤولة عن وقوع أوجلان في مصيدة أنقرة، وربما عن قصد، تغييب دور عاملين يتحملان مسؤولية وقوع زعيم حزب العمال الكردستاني في قبضة اعدائه. السذاجة الثورية لأوجلان نفسه الذي لم يتعظ من تجربة المرحوم الملا مصطفى البارزاني في شأن التحالف الآحادي الخاطئ مع دولة بعينها من دول الجوار الشرق الأوسطي. ومسؤولية الدولة التي تحالفت طوال عقدين من الزمن مع اوجلان واستفادت منه في صراعاتها مع تركيا. لكن حين تطلبت مصالحها التوافق مع أنقرة في اتفاقية أضنه الأمنية في 20 تشرين الأول اكتوبر 1998 تخلت عنه. ومن المفارقة ان الولاياتالمتحدة واسرائيل واليونان التي اتُهمت بتسليم أوجلان الى أنقرة، تطالب بمحاكمة عادلة ورحيمة وبعيدة عن حكم الاعدام. بينما لم تنبس الدولة الحليفة اياها بكلمة واحدة دفاعاً عن أوجلان. بل كل ما فعله اصدقاء سابقون له في المنطقة هو محاولة اقناع محازبي اوجلان ومسؤولي تنظيماته في أوروبا بتوجيه نصل اتهاماتهم ونشاطاتهم واحتجاجتهم، في أوروبا وخارجها، الى صدور دول معينة اسرائيل وأميركا بهدف تحويل الاكراد الى احتياطي جديد في الشرق الأوسط لمقارعة هذه الدول. قد يكون مبرراً السكوت عن وصول ابن أومرلي الى جزيرة إيمرالي لاعتبارات وحسابات سياسية عربية معقدة. لكن ما هو غير مبرر استخدام اعتقال اوجلان وعذاباته وإحباطاته وأسره الدراماتيكي، كما جرى استخدام التحالف معه حين كان حراً في حينها. ثم انه لا بد لتركيا ان تلتفت الى تجربة بغداد مع الأكراد. فهذه التجربة تضم فترة قد يفيد أنقرة الانتباه الى تفاصيلها. في آذار مارس 1975 شهدت الحركة الكردية العراقية انهياراً كبيراً نتيجة اتفاق ايران مع الحكومة العراقية على استبدال مناطق حدودية برية ومائية عراقية في شط العرب والمنطقة الحدودية الوسطى، بتخلي ايران عن حركة الزعيم الكردي المرحوم الملا مصطفى البارزاني. وبالفعل نفّذت الاتفاقية التي وقعت في الجزائر في 6 آذار 1975 في سرعة قياسية، شأنها في ذلك شأن الاتفاق بين تركيا وسورية في تشرين الأول اكتوبر الماضي، والذي تضمن وقف دمشق دعمها لحزب العمال الكردستاني. ولم يمض اسبوع واحد حتى ادارت ايران كلياً ظهرها لبارزاني لتدعه وحيداً في مواجهة الذئاب في ساحة مكشوفة. بعد انهيار الحركة الكردية بأيام قليلة اطلقت بغداد سياسة منهجية مدمرة لا للانتقام من مؤيدي بارزاني فحسب، بل للانتقام من كل الأكراد ووضع حد لأي امل في نهوضهم مجدداً للمطالبة بحقوقهم القومية والانسانية. وعلى رغم ان اكراداً كثيرين نصحوا بغداد في حينها بخطورة مثل هذه السياسة ونتائجها التي ستولّد حتماً حركة مسلحة جديدة، فإن بغداد تشبثت بقناعتها بأن الفرصة مواتية لاستئصال جذور الحركة الكردية في العراق نهائياً. واللافت انها قرنت هذه السياسة بإصدار عفو صوري أرادت ان تقول من خلاله ان بغداد ليست في وارد انتهاج سياسات البطش والتقتيل والانتقام. في خضم ما يجري على صعيد ملف اوجلان في تركيا، لا يشعر المرء بصعوبة بالغة في تلمس قناعة مشابهة لدى المسؤولين الأتراك. وآخر الامثلة على كل هذا تصريحات رئيس الوزراء التركي بولند أجاويد بأن أنقرة لا يمكن ان تمنح حكماً ذاتياً لأكراد تركيا. والواقع ان الفرصة كانت متاحة في شكل واسع امام العراقيين بعد 1975 لحل المشكلة الكردية سلمياً. فالحركة الكردية في تلك الفترة كانت تعيش ضعفاً شاملاً، بينما اليأس والاحباط والسوداوية تجاه دول اعتبرتها صديقة كانت تنهش الوضع النفسي والسياسي الكردي. لكن بغداد ضربت الفرصة عرض الحائط، مفضلة طريق الحلول القسرية والعسكرية وتعميق اليأس في نفوس الاكراد والتشفي باحباطاتهم. فكانت النتيجة الطبيعية اندلاع حركة مسلحة جديدة في جبال كردستان العراق بعد اقل من عامين، ما فتئت اتسعت الى تنظيم انتفاضة عارمة اخرجت المناطق الكردية من قبضة الدولة العراقية في 1991. هذا من دون نسيان حقيقة مفادها ان الحركة الكردية لا تعدم اسباب الاشتعال والاتساع في الشرق الأوسط اذا لم تحل في شكل شامل. فالخلافات بين دول المنطقة واستمرارها وتفاقمها، لسوء حظ الأكراد، تهيئ دائماً اسباب اشتعالات متجددة امام المشكلة الكردية في حال عدم الحل. في مقابل كل ذلك يصحّ التساؤل ما المطلوب من أنقرة كردياً؟ للاجابة عن هذا السؤال لا بد من التذكير ان هناك اختلافات عميقة بين الحالتين العراقية 1975 والتركية 1999. لكن مع ذلك تظل النتيجة في الحالين واحدة اذا اختارت انقرة طريق السياسة العراقية في 1975. اما في حال ابتعادها عن هذه السياسة وبحثها عن اخرى معتدلة وهادئة وذات نتائج طيبة، فإن ما يسهّل عليها الامر ان هناك شريحة كردية واسعة في تركيا مستعدة للاعتدال والسلام والحلول الديموقراطية الهادئة. والواقع ان بغداد افتقدت في حينها الى هذه الشريحة الكردية بعد الخروج المبكر للناشطين الاكراد الى الجبال. خلاصة القول، اياً تكن الاطراف المسؤولة عن تسليم اوجلان الى انقرة، وأياً تكن تفاصيل محاكمته واحتمالاتها، لا بد من التأكيد على ان انقرة وضعت نفسها بعد اعتقال أوجلان أمام امتحان استراتيجي خطير. وما يزيد من أهمية هذا الامتحان ان الحكومة التركية دأبت على تكرار قول مفاده ان العقبة الرئيسية امام توجهها لحل مشكلة الأكراد هي ارهاب حزب العمال وزعيمه اوجلان. فالآن أزيلت هذه العقبة ولم يبق امام انقرة سوى اختيار حلّين: اما التوجه بالفعل الى حل المشكلة الكردية عبر تشجيع الاكراد المعتدلين احترام رأيهم ومشاورتهم في معضلات الطريق، وإما اعادة الخطأ القاتل الذي ارتكبته بغداد عند تعاملها مع انهيار حركة بارزاني عام 1975؟