عندما أعلن عبدالله أوجلان تأسيس حزب العمال الكردستاني عام 1978، كان الملا مصطفى بارزاني - رمز نضال الأكراد على امتداد نصف قرن - قد لجأ الى الولاياتالمتحدة بعدما تخلى عنه شاه ايران وانقض عليه صدام حسين وخاصمته موسكو. عقب انقضاء عقدين على اطلاق حرب العصابات من اجل تحقيق دولة كردستان المستقلة، وجد عبدالله أوجلان نفسه ضحية المصيدة الدولية التي أعدت لسلفه الملا مصطفى، خصوصاً بعدما رفضت كل الدول استقباله إثر حصار اوروبي ومطاردة تركية - اسرائيلية - اميركية. ومع انه انتقد في مجلة "الوسط" 25/1/1999 الانهيار السريع الذي واجهته ثورة بارزاني عام 1975 وحركة جلال طالباني في أربيل 1996، الا انه يتوقع الا تنطفئ الشعلة التي أوقدها عام 1978 ونجحت في استقطاب آلاف المقاتلين والمؤيدين في الداخل والخارج. ولقد اعترف في آخر حديث له مع مراسل "الوسط" بأن الشعب الكردي وحده يقرر ما اذا كانت حركتنا ستستمر ام لا... لا فرق أكنت أنا في القبر ام ان قائداً آخر سيتولى تطوير حزب العمال الكردستاني. يعترف أنصار عبدالله أوجلان بأنه كان يأخذ على مصطفى بارزاني ربط حركته بالدول الخارجية مثل ايران والاتحاد السوفياتي، الأمر الذي عجل في انهيارها إثر توقف الدعم الخارجي. لهذا حرص على ايجاد تنظيم شبه مستقل يمده بهامش وسيع من حرية التحرك، علماً ان عقيدته الماركسية كانت تشده دائماً الى موسكو والى الدول المتعاطفة معها مثل سورية. ومن المؤكد ان منطقة البقاع خلال مرحلة الفلتان الأمني في لبنان - اي من عام 1975 حتى 1990 - وفّرت لجماعته الموقع المثالي للتدريب مع أفراد المنظمات الفلسطينية ومختلف العناصر الاخرى مثل اعضاء الجيش الأحمر الياباني ومنظمة بايدر ماينهوف الألمانية. ولقد اعترف اوجلان بأن تأثير الفكر الاسلامي الذي نشره إمام قريته "أومرلي" دفعه طوال المرحلة الأولى من شبابه للانخراط في صفوف حركات كانت تعتبر النظام الجمهوري العلماني الذي أسسه كمال أتاتورك مناهضاً لحركات المعارضة الكردية التي بنت انتفاضتها على المفاهيم القومية والدينية. من هنا كانت دعوات ثوار الأكراد في المرحلة الأولى من الانتفاضات المتواصلة تركز على عامل الدين بهدف استمالة الأتراك من معارضي دعوة اتاتورك. وأكبر مثل على ذلك ان مناهضي الكمالية نادوا بسليم افندي، نجل السلطان العثماني المخلوع عبدالحميد، ملكاً على وطن كردستان المستقبل. وكان سليم افندي في ذلك الحين يعيش في بيروت كلاجئ. والطريف ان "حزب الحرية والائتلاف" التركي عقد اتفاقاً مع "جمعية انبعاث كردستان" حول منح الحكم الذاتي لكردستان، وانما في اطار الامبراطورية العثمانية. أواخر الستينات تخلى أوجلان عن هذه النظرية السياسية واعتنق الاشتراكية الماركسية لايمانه بأن حركات التحرر من الاستعمار نجحت في تحقيق الاستقلال بمساندة دول عدم الانحياز والاتحاد السوفياتي. لذلك استبدل دعوة انشاء وطن مستقل للأكراد بدعوة اكثر استقطاباً لكونها تركز على تحرير كردستان من الاستعمار التركي. وفي رأيه ان الدول الكبرى معنية بمراجعة القضية الكردية على اعتبار ان كمال أتاتورك نجح عبر معاهدة لوزان 1923 في الغاء الحقوق القومية الكردية، واعتبارها المرجع البديل لپ"معاهدة سيفر"، اي المعاهدة التي عقدت صيف 1920 بواسطة ممثلين عن دول الحلفاء اعترفوا بضرورة منح كردستان حكماً ذاتياً عن طريق انشاء دولة كردستان يجري اعلانها خلال سنة واحدة. وشددت المادة 62 من المعاهدة على اهمية اقامة مشروع الحكم الذاتي المحلي ضمن المناطق التي تقطنها اكثرية كردية واقعة بين شرق نهر الفرات وجنوب الحدود الجنوبية لأرمينيا. وفي حال الاختلاف يحال الامر الى تحكيم لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء يمثلون بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وجاء في المادة 63 من "معاهدة سيفر" ان الحكومة التركية توافق على قبول تنفيذ مقررات اللجنة. ومع وصول كمال أتاتورك تغيرت لهجة الحكومة التركية التي تراجعت عن وعودها وأعلنت ان ولاية ارضروم وسيواس وديار بكر غير قابلة للانفصال عن الامبراطورية العثمانية. ولقد اعانته الصفقات التي عقدها مع الحلفاء على الغاء التزامات بلاده نحو "معاهدة سيفر". وكان من نتيجة ذلك ان هدد زعماء الأكراد بالثورة المسلحة، الامر الذي استقبله اتاتورك بطلب الحوار والمصارحة. ولما وصل زعماء الأكراد الى انقرة أمر اتاتورك باعتقالهم واجبارهم على اصدار بيان يطالب بعقد صلح معه وانهاء المظاهر المسلحة. ومنذ 1923 استؤنفت عمليات نضال الأكراد بواسطة احزاب قومية كانت تطالب بضرورة تطبيق "معاهدة سيفر" دون ان تلقى الصدى الدولي المطلوب. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اسس الاتحاد السوفياتي جمهورية كردية داخل حدود ايران لم تعش اكثر من سنتين من 1945 الى 1947 دخلها الملا مصطفى بارزاني مع ستة آلاف مقاتل. ولما انسحب السوفيات انسحب بارزاني معهم الى موسكو، ثم عاد الى العراق مع انقلاب عبدالكريم قاسم سنة 1958. وبعد فترة قصيرة اختلف مع قاسم، وأسس فرقة قتال اطلق عليها اسماً بالكردية معناه "الى الأمام حتى الموت". وساندته ايران بدعم المال والسلاح، كما وجد كل مؤازرة من اسرائيل التي ارسلت اليه افضل ضباطها لتدريب هذه الفرقة، والعمل في الأندية السياسية على تسويق مطالبه. ويبدو ان اهتمام اسرائيل في تلك المرحلة كان منصباً على خلق دويلات عرقية وطائفية في المنطقة بحيث لا تظهر وحيدة ومعزولة في بحر القومية العربية. ولكن احلام الملا مصطفى تبخرت بعد اتفاق الجزائر 1975 الذي عقد بين شاه ايران وصدام حسين. وكما سقط اوجلان هذا الاسبوع في هوة المتغيرات الاقليمية والدولية... هكذا سقط رهان بارزاني على ايران الشاه، فاضطر للجوء الى اميركا حيث توفي عام 1979. مطلع تشرين الثاني نوفمبر من العام المنصرم، أدرك اوجلان انه سيتعرض للحصار والتدجين، اذا لم يترك النضال المسلح وينضم الى رعاية اولبرايت كما فعل جلال طالباني، امين عام الاتحاد الوطني الكردستاني ومسعود بارزاني رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني. ففي الاعلان الذي سمي "اعلان اتفاقية واشنطن" وافق الزعيمان الكرديان على وقف الكفاح المسلح، والقبول بالمحافظات الشمالية الثلاث دهوك وأربيل والسليمانية كجزء من دولة العراق. وأقرا في بيان مشترك انهما "يتطلعان الى اعادة بناء العراق على أساس فيدرالي يحفظ وحدة الشعب ووحدة الأراضي العراقية". وأشادا بدور الولاياتالمتحدةوبريطانيا وتركيا بسبب انجاح المباحثات وحل الخلافات السياسية. وكان من الطبيعي ان تقابل هذه الاتفاقية برفض قوي خصوصاً من قبل المتحمسين والمناضلين من اجل انشاء دولة مستقلة لا يخضع نظامها للحكومات المركزية في انقرة او بغداد أو طهران. ولاحظ اوجلان ان زخماً شعبياً جديداً قد انضم الى حركته، وان عدد الداعمين مادياً وعسكرياً قد تضاعف. ولكن هذه المؤشرات لم تطمئنه كثيراً، خصوصاً بعد ازدياد الحشود التركية على الحدود السورية، واظهاره بمظهر المهدد الرئيسي للأمن التركي. ويبدو انه لمس مدى الاحراج الذي يسببه وجوده في دمشق، لذلك اعلن انه سيغادر سورية بمحض ارادته، خشية ان يؤدي بقاؤه في العاصمة السورية الى اشعال حرب اقليمية قررت تركيا خوضها بأي ثمن. ولكن رحلة التيه لم تبدأ من فراغ. ذلك ان جلال طالباني عرض وساطته على اوزال وديميريل بهدف التوصل الى اعلان وقف القتال، شرط التعهد بإيجاد حل سياسي للقضية الكردية. ولما عرض الموضوع على اوجلان في دمشق فاجأته موافقته الفورية والاعلان امام الصحافيين عن هدنة تستمر 22 يوماً. ويعترف طالباني بأن واشنطن ولندن رحبتا بالتسوية السياسية، بينما طالب ديميريل بتمديد فترة الهدنة لكي يستطيع اقناع القيادة العسكرية الرافضة كل أساليب الحوار مع الارهابي اوجلان. وبعد وفاة الرئيس التركي أوزال وقع حادث مفاجئ عرقل الوساطة وألغى حال الهدنة، اذ قام مساعد اوجلان شمدين صاقيق باعتقال 33 جندياً تركياً واعدامهم بدون معرفة رئيسه. ومع ان أوجلان رفض ادانة هذا العمل، كما اقترح عليه طالباني لكي يخفف من وقع الحادث، الا انه اكتشف لاحقاً ان شمدين كان عميلاً للجيش التركي، وان القيادة الرافضة لأي حوار، هي التي وفرت له ظروف قتل الجنود العائدين من اجازاتهم، لكي تحرج المسؤولين السياسيين. ويعترف اوجلان ان اجهزة المخابرات الفرنسية ابلغته ان كمية كبيرة من المال كانت تنتقل الى اسم شمدين منذ عام 1993، وانه رفض تصديق الوشاية. وفجأة، اي بعد حادث اغتيال 33 جندياً تركياً، سلم شمدين نفسه للقوات التركية بعملية مموهة اخذت شكل الاعتقال. ويبدو انه كشف عن بعض الاسرار المهمة التي استخدمتها المخابرات التركية والاسرائيلية اثناء مطاردة أوجلان طوال شهرين تقريباً. خلال هذا الوقت ارسل اوجلان اشارات ايجابية الى واشنطن يطالب فيها بضرورة تطبيق اتفاق الدولة الفيدرالية في كردستان العراق على دولة فيدرالية في كردستان تركيا. وكانت هذه الاشارات بمثابة التغيير المبدئي في طروحات دولة كردستان المستقلة. ومع الانتقال من فكرة المقاومة المسلحة الى الحلول السلمية، حاول اوجلان اقناع زعماء اوروبا بمسؤوليتهم التاريخية تجاه إحياء "معاهدة سيفر" ومراجعة نصوص معاهدة لوزان التي ألغت أربعة شعوب: اليونانيين والأرمن والآشوريين والأكراد. ويستدل من المعاملة السلبية التي عاملته بها ارمينيا واليونان، عندما رفضتا طلبه للجوء السياسي، ان الدولتين لا تريدان افتعال عداوة مع تركيا او مع الولاياتالمتحدة، خصوصاً ان اوجلان كان يطمح الى عرض قضيته على محكمة العدل الدولية في لاهاي. وهذا ما يفسر اصراره على الانتقال الى هولندا، كما يفسر استدراج رجال الموساد له بحجة نقله الى لاهاي من نيروبي. والواضح ان عملية المطاردة استهدفت نيروبي كمحطة اخيرة بسبب وجود المكتب المركزي للمخابرات الاسرائيلية الذي يغطي كل القارة السوداء من كينيا. ولقد ضاعفت اسرائيل نشاطها في نيروبي إثر التسهيلات التي قدمت لفرقة الانقاذ الاسرائيلية التي انطلقت من كينيا لانقاذ رهائن عملية مطار عنتيبي حيث قتل شقيق نتانياهو. الزعماء الأوروبيون يضغطون بوسائلهم السياسية والاقتصادية لكي يعامل اوجلان كقائد معارض مثلما عومل نيلسون مانديلا والمطران مكاريوس. اي انه يستحق السجن المؤبد او النفي بدليل ان روما رفضت تسليمه لأن تركيا لم تتعهد بعدم اعدامه. ويستدل من لهجة الصحف التركية الناطقة باسم الجيش ان العسكريين هم الذين سيتولون محاكمته كمجرم حرب أودت حركته بقتل ثلاثين ألف جندي ومدني خلال أربع عشرة سنة. ولكن نهايته التي تشبه نهاية الملا مصطفى بارزاني باعتبار ان الكل تخلى عنه... هذه النهاية تترك العديد من الاسئلة الغامضة المتعلقة بالاعتبارات الاقليمية والدولية التي دفعته للوصول مقيداً الى تركيا. اول سؤال يتعلق بمدى وثوق الارتباط الاستخباراتي التركي - الاسرائيلي الذي عبر عن العلاقة العضوية العسكرية بين الدولتين بحشود قوات تركية على الحدود السورية لكي تسهل فتح عملية السلام المجمدة... بينما ردّ "الموساد" بخطف أوجلان واعتباره خطراً على الأمن المشترك مثله مثل زعماء حزب الله وحماس والجهاد الاسلامي. ويتردد في اسرائيل ان الفرقة التي خطفت الشيخ عبدالكريم عبيد من قريته "جبشيت" في الجنوب ومصطفى الديراني في البقاع، هي التي تولت عملية خطف زعيم حزب العمال الكردستاني. وقد تكون المرة الأولى التي توجه اسرائيل الاذى المباشر الى زعيم كردي - على الرغم من اعتراض موردخاي - الأمر الذي يعني انها تخلت عن فكرة تشجيع الدويلات العرقية والطائفية بعدما عقدت سلامها مع مصر والأردن والفلسطينيين، اي بعدما قررت ان تكون جزءاً من النسيج الاقتصادي في الشرق الأوسط. السؤال الثاني يتعلق بدور المؤسسة العسكرية التركية بعد تدمير الترسانة العراقية، والنظر اليها بمنظار القوة القادرة، على حماية السياسة الاميركية في المنطقة. ولكي تضمن واشنطن حماية النظام الاقليمي الجديد الذي ارست دعائمه بعد اخراج العراق من الكويت، فهي تسكت عن غزو تركيا لشمال العراق، وتتعاون مع "الموساد" لانهاء آخر خصم يمثل التهديد المتواصل لأمن تركيا. ومن المؤكد ان رئيس الوزراء بولند اجاويد الذي يستعد حزبه لخوض الانتخابات في 18 نيسان ابريل المقبل ضد الاسلاميين والأكراد سيحقق فوزاً باهراً، خصوصاً اذا استطاع ان ينهي قضية تقسيم قبرص. وفي رأي واشنطن انه المسؤول الوحيد المؤهل للقيام بهذا الدور، على اعتبار انه هو الذي أمر الجيش التركي بغزو الجزيرة. وفي هذه النقطة بالذات يمكن تفسير خيانة اليونان لأوجلان الذي راهن على العداء التاريخي بين اثينا وأنقرة، دون ان يأخذ في الاعتبار ظروف المتغيرات والمستجدات. والمؤسف ان الرهانات الجامدة في عالم متغير كثيراً ما يدفع ثمنها المتشددون من أمثال عبدالله أوجلان! * كاتب وصحافي لبناني.