بينما كان البروفسور أندريه فورسانس يشرح لابنته، كلير، فوائد النظام الرأسمالي كان المتمول جورج سوروس يراكم ثروات ويحاضر في عيوب النظام نفسه. وضع الأول كتاباً عنوانه "الاقتصاد مشروحاً لابنتي". ووضع الثاني كتاباً عنوانه "أزمة الرأسمالية العالمية". لم يلق الأول رواج الثاني طبعاً ولا استأثر باهتمام الصحف ورجال الاعمال والقادة السياسيين. وهو لم يكن يقصد ذلك أصلاً. فالكاتب يريد ان يخاطب، عبر ابنته، جيلاً من الشباب من أجل كسر القاعدة القائلة بأن هذا العمر يغري اصحابه بالمواقف الانسانية وربما ذهب بهم نحو ميول يسارية. لذا فإن فورسانس يتوجه الى كلير معتبراً أنه يسلحها بعدد من المبادئ التي تسمح لها بالخوض في بحار الرأسمالية، الوطنية والعالمية، والخروج بمكاسب كثيرة. يطالبها بأن تضع عواطفها جانباً، وان تتقبل أفكاراً من نوع ان وجود ملايين العاطلين عن العمل أمر طبيعي جداً، وان قوة النقابات شر يجب الخلاص منه، وان ثبات العامل في عمله أو على راتبه عائق يحول دون التقدم... ويتعمد فورسانس التبسيط قدر الإمكان من أجل ايصال أفكاره وكأنه يخشى ان تصدم آراؤه الفتاة اليافعة، أو من هم في عمرها، فإنه يكرر باستمرار عبارات من نوع "لا داعي للقلق"، "لا مبرر للخوف"، الخ... غير ان الواضح من الكتاب ان كلير تملك أباً لا يحسدها أحد عليه. فهو اذ يدعي تلقينها التفكير بحرية في القضايا الاقتصادية الصعبة والمعقدة يمارس حيالها "أبوية" مفرطة اذ انه يسقط كل من يخالفه الرأي. واذا كان من الطبيعي، والحال هذه، ان يهزأ من الاقتصاديين الاشتراكيين فإن الملاحظ هو انه يجد لذة خاصة في تبخيس كينز حقه وفي المفاخرة بالطريقة التي أقدم بها ملتون فريدمان على تعرية الاقتصادي البريطاني الذي سادت أفكاره الى حين اشتداد الهجمة النيوليبرالية التي ينتمي اليها فورسانس. "أزمة جورج الرأسمالية سوروس العالمية". الجملة غير مفهومة ويمكن ان تقرأ بشكل مختلف: "أزمة الرأسمالية العالمية" بقلم جورج سوروس. فلقد تعمد الرجل وضع اسميه بأحرف من ذهب بين كلمات العنوان من اجل الايحاء، على الأرجح، بدرجة التداخل بينه وبين الموضوع الذي يتحدث عنه. وبالفعل فإن اسم سوروس هو الاسم الأكثر وروداً الى الأذهان عند التطرق إلى العمولة، والأسواق، واسعار العملات، والسندات، والاسهم، وتحرك الرساميل، والبورصة، والمضاربة، الخ... وبما ان هذه المصطلحات هي التي تكاد تختصر الاقتصادي العالمي وذلك على حساب الاقتصاد الفعلي فإن سوروس موجود في مكان مميز للكلام عنها. الكتاب، عملياً، من شقين. يشرح الكاتب في الأول منهما التطويرات التي أدخلها على نظريات استاذه الفيلسوف كارل بوبر عن "المجتمع المفتوح" اي الناقص والقابل، بالتالي، لكثير من الاحتمالات والانجازات. اما في القسم الثاني فإنه يقدم شهادة عن معايشته للرأسمالية العالمية في طورها الجديد المتميز بغلبة الرأسمال المالي على ما عداه. ويتعمد سوروس ان تكون هذه الشهادة مطالعة اتهامية ضد الدعوات النيو- ليبرالية التي شرحها البروفسور فورسانس لابنته. فهو نقدي حيال فريدمان كما حيال الذين وضعوا أفكاره قيد التطبيق وأبرزهم مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان. وهو نقدي حيال كل استسلام لأواليات السوق تحت حجة انها تقود الى توازن. وهو رافض للمقولة الزاعمة بأن الديموقراطية والسوق توأمان. وهو وصل إلى استنتاج خطير مؤداه "ان قوى السوق، اذا تركت وحدها، تدمر النظام الرأسمالي" وان لا بديل، والحال هذه "من عودة السياسة، كخيار جماعي، للتحكم بالخيار الفردي الاقتصادي". يدافع سوروس عن رأسمالية هي غير الظافرة في هذه الايام، وذلك برغم تعرضها لاختناقات قاسية على امتداد السنة والنصف الماضية وهو، اذ يفعل ذلك، يدرك ان حجته الأقوى هي سمعته كخبير في الاسواق، وكمسؤول عن شركة توظف البلايين في المضاربات وتؤكد، باستمرار، انها تعرف كيف تستبق التوقعات وتحقق الارباح الطائلة. غير ان الحجة الثانية لدى سوروس، والتي تبقى ضمنية بعض الشيء، هي انه ينفق الكثير من أمواله على العمل الاهلي وعلى توفير المناعة للمجتمعات ضد شطط الرأسمالية التي سمحت له بجني ثرواته. ويتوقع سوروس "تحلل النظام الرأسمالي العالمي" ما لم يتم اللجوء الى تدابير رقابة وضبط. لا يصل في هذه المطالبة الى حد تهديد أسس الليبرالية، ولكنه، بالتأكيد، يعارض بشدة المنحى السائد هذه الأيام بضغط انكلو - ساكسوني. يمكن كلير، ابنة فورسانس ان تحتار. فوالدها، الاستاذ، يشجعها على سلوك طريق يشكل سوروس واحدة من علاماته الفارقة، ولكن هذه "العلامة الفارقة" تريد لنفسها ان تكون ضوءاً احمر يحذر من مخاطر هذا التوجه.