تتجه أنظار العالم إلى القمة الثانية لما بات يعرف باسم "مجموعة العشرين"، والتي من المتوقع أن تعقد في العاصمة البريطانية لندن في مطلع ابريل القادم، وهي القمة التي تضم أكبر الاقتصادات العالمية المؤثرة لعشرين دولة، وذلك بأمل أن تنجح هذه القمة العشرينية في رسم معالم خارطة طريق للاقتصاد العالمي للخروج من دوامة الأزمة المالية العالمية التي ضربت الاقتصاد العالمي بصورة واضحة في الربع الأخير من عام 2008، وخاصة بعد انفجار أزمة الرهون العقارية الأميركية والتي قادت إلى سلسلة من التداعيات والانهيارات أدت إلى افلاس كثير من المؤسسات المالية والمصرفية في أميركا وخارجها وأحدثت ما يشبه زلزالا ماليا واقتصاديا قاد إلى الازمة المالية والاقتصادية العالمية الراهنة التي فاقت في تداعياتها أزمة ما يطلق عليه "الكساد الاقتصادي العظيم" في ثلاثينيات القرن العشرين(1929 1933). وكانت القمة العشرينية الأولى قد عقدت في نوفمبر من عام 2008م، ولكنها قمة انعقدت على عجل في محاولة لوقف حالة "الدومينو" التي كانت قد بدأت تصيب المؤسسات المالية والمصرفية الأميركية والعالمية، وذلك بهدف بلورة "إطار تنسيق عالمي مشترك" لمواجهة الأزمة المالية الأخطر في تاريخ العالم، والتي بدأت تتكشف ملامح خطورتها في الآونة الأخيرة، حيث أكدت أحدث الدراسات أن خسائر الاقتصاد العالمي جراء هذه الأزمة قد تجاوزت ال 50 تريليون دولار، كما أنها باتت تلقي بآثار وعواقب وخيمة على آفاق النمو الاقتصادي العالمي، حيث توقع صندوق النقد الدولي أن يحقق الاقتصاد العالمي معدل خسارة يقود إلى نمو سلبي لأول مرة منذ عقود، بحيث يبلغ معدل النمو الاقتصادي العالمي ما دون الصفر خلال عام 2009، ونظرا للطبيعة الاستثنائية والعاجلة لقمة العشرين الأولى فقد تم الاتفاق على دراسة تدابير عالمية مشتركة لمواجهة الأزمة المالية العالمية من خلال مزيد من الدراسات والاقتراحات المدروسة جيدا لكي يمكن اعتمادها والتوافق عليها في قمة العشرين الثانية المقرر انعقادها في لندن في ابريل2009م. غير أن الأزمة المالية العالمية التي ما زالت تلقي بظلالها وتداعياتها على العالم المعاصر، أتاحت المجال لإعادة مناقشة الكثير من النظريات والمسلمات الاقتصادية وخاصة بشأن الفكر الرأسمالي، ومدى حاجته للتعديل والتطوير كي يصبح ممكنا تجنب أزمات كوارثية اقتصادية مماثلة في المستقبل، كما أعادت الأزمة المالية الجدل العالمي حول دور الدولة الاقتصادي ومدى الاستفادة من الأفكار الاشتراكية في مواجهة الأزمة المالية العالمية الراهنة. ولعل من المهم قراءة أبعاد الأزمة المالية العالمية الراهنة وآفاقها المستقبلية من خلال الملاحظات التالية: أولا: إن تفجر الأزمة المالية العالمية في قلب قلعة الرأسمالية العالمية ممثلة في الاقتصاد الأميركي، قد أعاد الجدل حول مدى صوابية النظرية الرأسمالية في قيادة الاقتصادات العالمية نحو التقدم والازدهار. وقد بات الكثيرون في الغرب اليوم يعترفون بأن المفكر الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكويوما قد كان متسرعا في مطلع تسعينيات القرن الماضي عندما تحدث عن نظرية "نهاية التاريخ" بانتصار الليبرالية الرأسمالية على الفكر الاشتراكي والنظرية الماركسية، مستفيدا من انهيار التجربة الاشتراكية السوفيتية للزعم بأن النظرية الرأسمالية الليبرالية قد برهنت على أنها النظرية التي تشكل "طريق الخلاص النهائي" للعالم للوصول إلى التقدم والازدهار وبلوغ السعادة في الحياة الاجتماعية. وقد تبلورت على إثر ذلك مقولات ونظريات تقول إن الفكر الاشتراكي قد قُبر نهائيا، وان المستقبل سيكون للرأسمالية الليبرالية التي تحكم الغرب. ولعل من المفارقات الجديرة بالتأمل في الأزمة المالية، أن خرجت مجلة "النيوزويك" الأميركية الرصينة، مؤخرا، لتحمل عنوان "كلنا اشتراكيون الآن"، ولتشر في تحليلاتها إلى ان من المفارقات ان مفتاح انقاذ الاقتصاد الرأسمالي الأميركي سيكون عبر اللجوء إلى خلطة من السياسات المسترشدة بالفكر الاشتراكي مثل التدخل الحكومي، وإعادة الاعتبار لدور الدولة الاقتصادي، وتعزيز دور القطاع العام، وتأميم المصارف والشركات الاقتصادية الكبرى واخضاعها لرقابة وإشراف أجهزة الدولة، فضلا عن اتباع خطة انقاذ اقتصادي تقدر بتريليون دولار، كما اقترحها الرئيس باراك أوباما وأقرها الكونجرس مؤخرا تقوم بالأساس على حفز أنشطة الاقتصاد الاميركي من خلال مشروعات تتبناها الدولة تنفذها الحكومة بهدف زيادة الانفاق العام لتوفير فرص عمل جديدة لا تقل عن 5000 آلاف فرصة عمل سنويا للتصدي لمشكلة الباحثين عن العمل واعادة اطلاق الحيوية في مكونات الاقتصاد الاميركي. ورغم النزعة العدائية في الفكر الاميركي لاتجاهات التدخل الحكومي في أنشطة الاقتصاد وهي النزعة التي دعمتها أفكار الحقبة الريجانية التي أطلقت العنان لفكر "النيوليبرالية الاقتصادية " المعادية للتدخل الحكومي في الاقتصاد وهو الفكر الذي كان يدعو إليه المفكر الاقتصادي الرأسمالي ميلتون فريدمان، إلا ان اتجاهات الفكر والسياسات المتبعة حاليا في أميركا في محاولة لانقاذ الاقتصاد الأميركي من كارثة الركود والانكماش الاقتصادي انما تقوم على الاقتراب من المعالجات الاشتراكية في السياسات الاقتصادية وزيادة الدور التدخلي للدولة والإشراف والتوجيه الحكومي. وهذه الاتجاهات تؤكد إخفاق نظرية نهاية التاريخ التي بشر بها فوكوياما، وتعيد الاعتبار لأهمية المراجعة العميقة للفكر الرأسمالي، وخاصة الاتجاهات المتطرفة فيه والتي تعتمد فكرة نظرية "اقتصاد السوق الحر"، التي تنادي بإبعاد الدولة عن التدخل في النشاط الاقتصادي، والادعاء بأن الاسواق تصحح أخطاءها أولا بأول بآلية خفية تعيد إليها حالة "التوازن". ومن المفارقات، أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن الذي ينتمي إلى تيار المحافظين الجدد ومدرسة اليمين الاقتصادي الأميركي المحافظ والمتشدد، قد أطلق تصريحا بات يتداول على أنه طرفة حاليا عندما توالت أخبار انهيار المؤسسات المصرفية والمالية الأميركية، فقد خرج للعلن ليقول انه لا يوجد ما يدعو للقلق وان هذه الانهيارات هي جزء من حركة تصحيح الأسواق لأخطائها ذاتيا طبقا لنظرية "اقتصاد السوق الحر"، ثم كانت المفارقة ان جورج بوش الابن نفسه هو من سارع فيما بعد لتبني سياسات حمائية تقوم على تدخل الدولة لتأميم بعض المصارف الأميركية الكبرى في منحى اشتراكي واضح، سار عليه من بعده الرئيس أوباما باعتباره الخيار الوحيد المتاح لانقاذ ما يمكن انقاذه، فضلا عن تطبيق برنامج عاجل لانقاذ المصارف والشركات الأميركية الكبرى تبنته حكومة بوش عبر الحصول على موازنة عاجلة من الكونجرس بقيمة 700 مليار دولار لتتمكن الحكومة الأميركية من دعم وتمويل الشركات والمصارف الأميركية الكبرى لتجنب انهيارها، وخاصة شراء أكبر شركتي رهون عقارية في أميركا وهما: فاني ماي وفريدي ماك، واخضاع أكبر مصرفين تجاريين أميركيين هما "ستانلي مورجان"، و"جولدمان ساكس" لضوابط مجلس الاحتياطي الفيدرالي أي "البنك المركزي الاميركي". ومن الطريف أن الرئيس الفنزويلي اليساري هوجو شافيز قد وصف بوش إثر ذلك "بالرفيق بوش". ثانيا: إن اعادة الاعتبار لفكرة دور الدولة التدخلي في العملية الاقتصادية هي احياء لفكر المفكر الاقتصادي البريطاني البارز جون ماينرد كينز والذي لعب دورا أساسيا في التأسيس للفكر الاقتصادي الذي أسهم في الخروج من أزمة الكساد الاقتصادي الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي وأسس لنهضة الرأسمالية الغربية طوال القرن العشرين. وقد قام فكره بالأساس على محورية الدور التدخلي للدولة في حفز حركة الاقتصاد عبر التوسع في الانفاق العام، من خلال انشاء مشاريع ومرافق عامة تتولى الدولة تنفيذها بنفسها مثل شق الطرق وإنشاء السكك الحديدية وإصلاح شبكات المواصلات والهاتف وانشاء موانئ ومطارات جديدة والتوسع في بناء المرافق العامة مثل المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية، مما يؤدي إلى ايجاد وظائف جديدة وتنشيط حركة المقاولات والمصانع التي ستتولى تنفيذ وامداد هذه المشاريع الجديدة بالمعدات اللازمة لانجازها، وبدون ذلك فإن حالة الركود الاقتصادي كان يمكن أن تمتد طويلا. وقد نجح هذا الفكر فعلا في إنقاذ الاقتصاد الأميركي من أزمة الكساد كما ساعد على اطلاق حركة الاعمار الكبرى في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية مما ساعد على تجاوز الازمات الاقتصادية والانطلاق مجددا نحو عقود من الازدهار الاقتصادي. وفي هذا السياق يشير المفكر الأميركي اللامع نعوم تشومسكي إلى "أن تدخل الدولة هو جزء لا يتجزأ من رأسمالية الدولة رغم ان ابعاد الأزمة الراهنة غير مألوفة، ولقد أظهرت دراسة مهمة أعدها عالما الاقتصاد روجرك وروب فان تولد قبل 11 عاما ان ما لا يقل عن 20 شركة كبرى لم تكن لتحافظ على بقائها في الغرب لو لم تتدخل الحكومات لإنقاذها، كما ان الكثير من الشركات الأخرى قد استفادت من تدخل الدول والحكومات من أجل توزيع خسائرها وإذابتها في المجتمع". ويخلص تشومسكي في ضوء ذلك إلى تبيان مفارقة اقتصادية في الواقع الرأسمالي الغربي وهي "أن تدخل الدولة بهذا الشكل كان يمثل دائما القاعدة وليس الاستثناء على مدى القرنين الماضيين من النظام الرأسمالي الليبرالي". ويشير محللون اقتصاديون أميركيون إلى انه رغم حملة العداء التي دشنتها الحقبة الريجانية ضد التدخل الحكومي، الا ان دور الدولة الاقتصادي أو التدخل الحكومي قد تزايد منذ الحقبة الريجانية. وفي ضوء الأزمة المالية الراهنة، باتت قطاعات واسعة من الرأي العام الأميركي تميل إلى مطالبة الحكومة بأن تملأ الفراغ الذي يخلفه القطاع الخاص، وتظهر استطلاعات للرأي العام أجرتها مؤسسة "جالوب"، حديثا، ان الثقة بالمؤسسات المالية أصبحت في أدنى مستوياتها منذ أن بدأت المؤسسة البحثية تطرح هذا السؤال منذ عام 1985م، حيث بات 68% من الأميركيين يريدون الحد من تأثير الشركات الكبرى، مقارنة بنسبة 52% في عام 2001م ، ويظهر استطلاع آخر ارتفاعا بمعدل 12 نقطة ما بين عامي 1994 و2007 في تزايد نسبة الاميركيين الذين يعتقدون أن الحكومة يجب ان تقدم المزيد من الدعم للناس غير القادرين على الاهتمام بأنفسهم حيث باتوا يشكلون نحو 69%، ففضلا عن توسيع شبكات الأمان الاجتماعية يطالب الناس الحكومة الأميركية بأن تلعب دورا أكبر في توجيه القطاع التجاري نحو أهداف ترى انها تخدم مصلحة الاقتصاد عموما. والملاحظة الجديرة بالتسجيل هنا، ان هذه الاتجاهات في التفكير حيال التدخل الحكومي باتت تنبع من قلعة الاقتصاد الرأسمالي أي أميركا، أي انها باتت تقترب من أفكار التجارب الأوروبية في المعالجات الاقتصادية والقائمة على تزايد نزعة الخلط بين مزايا الفكرين الرأسمالي والاشتراكي فيما أصبح يعرف باتجاهات الديمقراطية الاجتماعية أو اقتصاد السوق الاجتماعي، والتي تسعى إلى تحقيق دولة الرفاه الاقتصادي التي تشكل النموذج لها تجارب الاقتصادات الاسكندنافية في شمال أوروبا. وبالتالي فإن الأزمة المالية الراهنة أدت إلى سقوط نظريات الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي المتشددة أو المتطرفة المغرقة في معاداة دور الدولة الاقتصادي والمفرطة في الانحياز لنظرية اقتصاد السوق الحرة. .. (يتبع) . الوطن العمانية