الحديث مع فنان مخضرم له ماضيه وحاضره الحافلان بالأعمال الكوميدية يأخذ أكثر من مسار، ما بين الماضي والحاضر، وما بين تجارب الأمس ومحطات اليوم. الجمهور العربي عرفه جيداً في شخصية غوار الطوشة، التي لازمته دائماً حتى في الأدوار التي حاول فيها التخلص من تلك الشخصية. واليوم عاد دريد لحام ليلتقي غوار الطوشة في مسلسل انتظره الجمهور طويلاً، وهو مسلسل "عودة غوار". وقد عاد حاملاً مفاجآت كثيرة، إلا أن الحديث لم يتمحور حول تلك العودة، بل شمل تجربة دريد لحام في السينما، مروراً بالمسرح الحديث عن الدراما التلفزيونية. قدمت في الستينات أعمالاً سينمائية كثيرة، وكان النشاط السينمائي السوري في أوجه، ما سبب التراجع الذي نشهده اليوم؟ - حين كان القطاع الخاص يلقى التشجيع، كان هناك انتاج سينمائي غزير، وبلغ في إحدى السنوات واحداً وعشرين فيلماً. اليوم الأمر مختلف بسبب غياب التشجيع، إذ أصبحت المؤسسة العامة للسينما تعتبر نفسها الوصي الوحيد على السينما السورية، وهذا أمر خاطئ. في الفن لا يوجد قطاع عام أو خاص، لذلك انطلقت الدراما التلفزيونية السورية خلال السنوات الأخيرة انطلاقة مهمة بسبب تعاون القطاعين العام والخاص، وإذا تمكنت المؤسسة من اتباع اسلوب وزارة الاعلام في دعم الانتاج فستعود الأمور إلى طبيعتها. جمعت تلك الأفلام نجوم السينما العرب مثل شادية وكمال الشناوي وناهد شريف وصباح وطروب... الخ، لكننا نلاحظ اليوم غياب الانتاج المشترك في السينما، كيف تفسر ذلك؟ - الانتاج المشترك فرضته ظروف خاصة، عندما تم تأميم قطاع السينما في مصر تراجع الانتاج لأن الفن في رأيي لا يمكن توظيفه حكومياً. الفن حالة شخصية لا يمكن وضعها ضمن حالة وظيفية. كاد الانتاج المصري أن يكون شبه متوقف، فأصبحت مصر تنتج خمسة أفلام في السنة بدلاً من ثلاثين. وهذا ما جعل المصريين، منتجين ومخرجين، ينطلقون إلى خارج مصر لانتاج أعمال مشتركة. كان ذلك أمراً طارئاً، فما ان فتحت الأبواب مجدداً أمام سينما القطاع الخاص حتى انتعشت السينما مرة ثانية ولم تعد هناك حاجة إلى الانتاج المشترك. لمَ لم تتوجه السينما السورية، حين أصبحت قطاعاً عاماً، إلى الخارج كما فعل المصريون حين واجهو الظروف نفسها؟ - هذا صحيح. لكن فرص عمل السينمائيين السوريين كانت أساساً أقل بكثير من فرص السينمائيين المصريين. السينما في سورية تعتمد على النجم، وفي فترة الستينات لم يكن يوجد نجوم في سورية على المستوى ذاته في مصر، بالتالي لم يذهب نجوم سوريون للبحث عن فرص مصر. هذا على صعيد التمثيل، لكن حتى على صعيد الانتاج لم يتجه السوريون نحو مصر للحفاظ على ديمومة السينما لديهم... - خبرة السوريين في السينما كانت حينها قليلة، كذلك النجومية، ولم يكن لديهم الاعلام الذي يعرّف بهم في البلدان العربية. أنا أعرف ان في المؤسسة العامة للسينما عشرات المخرجين ممن ينتظرون دورهم لاخراج الفيلم الأول، فكيف يستطيع هؤلاء الذهاب إلى مصر للعمل؟ هل ذلك ناتج من ضعف التأسيس للسينما منذ الستينات؟ - بالعكس كانت مزدهرة في الستينات وكان هناك نشاط في القطاع من العام والخاص. إذاً ما سبب تراجع السينما إلى هذا الحد؟ - السينما ليست فيلماً فحسب، بل تتعلق الأمور بنظام اقتصادي معين. وهناك كثير من التفاصيل تلعب دوراً في وجود الأزمة، مثلاً وضع صالة العرض من ناحية التجهيز والنظافة والتعامل، كما ان أصحاب الصالات في الماضي كانوا يستوردون الفيلم الذي يشاؤون، عكس ما هو عليه الآن، أصبح استيراد الأفلام من صلاحية المؤسسة العامة للسينما، وعادة ما تجلب هذه المؤسسة أرخص الأعمال، وتنظم مزاداً لبيع تلك الأفلام. لذلك لا يوجد فيلم جيد أو مقبول في صالة من صالات دمشق عدا سينما واحدة هي سينما الشام، التي تملك قراراً استثنائياً باستيراد الأفلام، كونها تابعة لمؤسسة سياحية. وليس غريباً أن يسمع المرء هنا ان أصحاب صالات دور السينما يطالبون بالموافقة على اغلاق صالاتهم لتحويلها إلى مجمعات تجارية، فهم غير قادرين على توفير فيلم يجذب الجمهور. مشكلة السينما السورية معقدة كثيراً ولها علاقة بنظام اقتصادي يحصر المرجع الوحيد بالمؤسسة التي تستورد الأفلام وتبيعها. حين كانت السينما في أوج عطائها تعرضت لهجوم حاد من النقاد باعتبارها سينما تجارية رديئة، هل تعتقد أن النقد لعب دوراً في تراجع ذلك الانتاج؟ - لا علاقة للنقد بتراجع الانتاج، واعتقد ان وضع الصالات التي تعمها الفوضى والإهمال وكون أصحابها لا يستطيعون تقديم فيلم جيد هو السبب. كيف ينظر دريد لحام إلى تجربته في السينما، خصوصاً أنها صنفت ضمن السينما التجارية؟ - أولاً الفن للمتعة، وإذا اجتمع المضمون مع المتعة فهذا أمر رائع، لكن الأساس للمتعة. ولأننا اعتدنا على تقديم سينما ذات مضامين معينة لم نعد نتقبل سينما المتعة. غلب على أعمالك القديمة، مثل فيلم "الحدود" ومسرحية "ضيعة تشرين" و"غربة" و"كاسك يا وطن" الطابع السياسي، فيما رأينا تراجعاً عن هذا التوجه لديك، فما السبب؟ - لا يوجد سبب محدد، كل ما هناك انني اعشق اللحظات الرومانسية في العلاقات الإنسانية، وهذا يحدده النص. وليس بالضرورة ان تصطبغ كل توجهات الفنان بصبغة معينة. تراجعك عن التوجه إلى الهم السياسي في أعمالك، ألا يوحي بتراجع عن الهم الوطني؟ - لا اعتقد. لأن رغيف الخبز هم وطني، وكذلك حب شاب لفتاة من كل قلبه. الهم الوطني ليس حكراً على البارودة وحدها، بل هو سلوك يومي في احترام النظام والقوانين حتى لو كان الأمر يتعلق بإشارة المرور. عرف عنك تدخلك في النص دائماً سواء كان مسرحياً أو تلفزيونياً أو سينمائياً، فما تفسير ذلك؟ - كنا أنا والاستاذ نهاد قلعي نقوم بهذا الأمر لاغناء العمل، وهذا أمر طبيعي بعد الاتفاق مع الكاتب طبعاً. في مسلسل "أبو الهنا" مثلت فقط، أما "عودة غوار" فكنت مشاركاً في كتابة النص مع طلال نصرالدين وأحمد السيد وأخرجت المسلسل بنفسي كي أتحمل وزر النجاح والفشل. هل يتعامل دريد لحام مع نفسه ككاتب نص؟ - طبعاً، ومشكلة الفنانين الكوميديين مشكلة، فمن الصعب ايجاد من يفهم ما يريدونه، والتجارب المهمة في هذا المجال كان الفنان الكوميدي فيها هو الذي يكتب ويخرج ويمثل، وشارلي شابلن وودي آلن خير مثال على ذلك. ألا تعتقد أن هذا يكرس الفردية في العمل؟ - جميع الأدوار في العمل الفني ليس خطأ إذا كان الفنان قادراً على الجمع بين الاخراج والكتابة والتمثيل. ومن غير الممكن أن تقولي للملحن لماذا كتبت كلمات القصيدة ولم تستعن بشاعر. لاحظت ان الأعمال التي اخرجتها بنفسي أو كتبت لها النص كانت ناجحة أكثر من غيرها، وهذا ما حصل في فيلم "الحدود" و"الكفرون"، وتجربة مسلسل "ابو الهنا" الذي أخرجه مخرج آخر لن أعيدها ثانية. هل يتعلق الأمر بصعوبة التعامل مع المخرجين؟ - الصعوبة تكمن في انني مطيع جداً، وحين أقبل العمل مع مخرج أصبح أداة طيعة في يده، وانفذ تعليماته من دون مناقشة كي لا يقال عني مشاكس حتى ولو كانت تعليماته خطأ. لذلك أفضل اخراج أعمالي بنفسي. ألا تتفق معي ان علاقتك بالسينما تراجعت لمصلحة التلفزيون؟ - نعم. لأن السينما تعاني من التراجع، والعمل في السينما يحتاج إلى مخرج مغامر يضمن له الفيلم عودة رأسماله، والجمهور وصالات العرض لا تشجع على ذلك. هل أن لانحسار السينما علاقة بانتشار التلفزيون؟ - للسينما حضورها الخاص إذا اعطيت عناصر النجاح. ومن جملة عناصر النجاح طقوس الحضور إلى السينما، لا مشاهدة الفيلم فقط. لو عرضنا أفضل فيلم في صالة مخربة الأثاث وحماماتها قذرة لما دخل أحد إليها. باعتبار انك اثبت حضوراً في المسرح والسينما والتلفزيون، فإلى أي منها تنجذب أكثر؟ - اعتقد ان الجواب سيكون لمصلحة المسرح، لأن ثمة علاقة إنسانية خاصة تتولد بين الفنان والجمهور من خلال ردة الفعل والأحاسيس والتوتر الذي يسود الصالة، الأمر الذي لا يحصل مثله في السينما أو التلفزيون. في مسلسلك الأخير "عودة غوار"، لوحظ ان غوار عاد بملامح تعود نصفها تقريباً ل "أبو الهنا"؟! - ان غوار و"أبو الهنا" ليسا شخصيتين منفصلتين، بل هما شخصية واحدة، لكن سلوكهما مختلف. وهذا خاضع للحالة. ف "أبو الهنا" هو غوار مهزوم، لكن الناس انتظرت عودة غوار السبعينات بالأبيض والأسود وهذا غير ممكن. لقد تطور غوار كثيراً، وصار بدلاً من اضحاك الناس من خلال المقالب أقرب إلى الإنسان منه إلى الشريد، إذ تعلم الحياة من طفل "ضيّفه" تفاحة. لكننا شاهدنا في المسلسل أفكاراً غير عادية، كالحمار الناطق مثلاً... - هذا تغريب وهو من حقي. في الفن لا يوجد شيء معقول وآخر غير معقول. حين بدأ بيكاسو مرحلته السوريالية اتهموه بالجنون، ولكننا اليوم ندرك ان بيكاسو ما كان بيكاسو لولا ذلك الجنون. وأنا جعلت الحمار ينطق من أجل المفارقة. تناولك أيضاً الشخصية الخليجية المتمثلة بمجعص الهكط، كذلك مسألة الحكم الذاتي بتلك الصورة الساخرة التي جاءت في مشاهد السجن، أثارت حفيظة الخليجيين من جانب والفلسطينيين من جانب آخر، ما تعليقك على ذلك النقد؟ - أولاً في فلسطين ليس هناك شيء اسمه الحكم الذاتي، إنما سلطة وطنية، ولا وجه للمقارنة. وقضية الحكم الذاتي نجدها في كثير من دول العالم مثل ايرلندا وشمال العراق، والربط يبدو مبالغاً فيه. أما بالنسبة إلى الشخصية الخليجية، فأنا لم اتطرق إليها، بل قدمت شخصية انتحلت صفة الخليجي، وهذا ناتج من الثقة الممنوحة إلى الإنسان الخليجي، واعتبر هذا الاتهام قصوراً في فهم ما أردته من تلك الشخصية. هل أنت راض عن تناول الصحافة عملك الأخير، الذي انتظره الجمهور طويلاً "عودة غوار"؟ - عموماً لم اقابل في الصحافة السورية بكلمة طيبة إلا ما ندر، وهذه مسألة تعودت عليها، واعتبرها مواقف شخصية أكثر منها نقداً حقيقياً. الطريف ان واحداً من الصحافيين رأى حلقة واحدة من المسلسل وهو مكوّن من سبع وعشرين حلقة، وذلك قبل العرض، فكتب مقالة شتم فيها المسلسل. وللأمانة قرأت مقالين أسعدا خاطري نشرا في جريدتي "الثورة" و"تشرين"، لكنني على أي حال تعودت على اللطمات.