تجري في اسرائيل واحدة من أطول الحملات الانتخابية التي عرفها التاريخ الحديث. فالدولة الديموقراطية التي تحترم ذاتها لا تسمح لحملة انتخابية برلمانية بأن تستمر لأكثر من شهرين لما في الحملة من تأثير في الاقتصاد وفي عملية صنع القرار في السياسات المالية والقضايا الحساسة الأخرى، لأن الأحزاب الحاكمة مهما بلغت مسؤوليتها القومية تميل في موسم الانتخابات الى إخضاع عملية صنع القرار للعائدات من الأصوات والتأييد السياسي في فترة الانتخابات. وهذا ما يحصل حالياً في اسرائيل، اذ تُسن قوانين تهدف الى كسب الأصوات، وموازنة الدولة مؤجلة الى ان يفرض كل حزب شروطه الشعبوية لفائدة قاعدته أو قطاعه الانتخابي. لكن الائتلاف الحاكم في اسرائيل أصر على حملة انتخابية من خمسة أشهر، وأبى إلا ان يعين موعد الانتخابات في حزيران، وقد توصل الى حل وسط مع حزب العمل بأن يكون التاريخ هو السابع عشر من أيار مايو 1999. وقد بهر حزب العمل بهذا التاريخ كيوم لتصفية الحساب، فهو تاريخ الانقلاب الليكودي على سلطته في العام 1977. لكن حزب العمل بانتهازيته المفرطة لم يكن مستعداً في الواقع داخلياً للانتخابات وأراد فترة استعداد كافية لترتيب بيته الداخلي. أما ليكود الذي دهمته الانتخابات مع العام الجديد وهو في اسوأ حال دخلياً وخارجياً، تنظيمياً وشعبياً، فقد أخذ في اعتباره عند إصراره على تأخير الموعد ما يمكن تسميته بعلم النفس الجماهيري "Mass Psychology" الذي يتقنه اليمين غريزياً. ويكاد اليمين الجديد الذي بات يسيطر على حزب ليكود يستند تماماً في أدواته الانتخابية على سيكولوجية الجماهير، وهذا هو الفرق بين اليمين الجديد واليمين التقليدي الاسرائيلي الذي كان يتنافس مع حزب العمل بالتظاهر بالمسؤولية الوطنية وتبني الأيديولوجية الدونتية التي ترفع مصلحة الدولة فوق المصالح الفئوية والحزبية والمسماة بالعبرية "مملختيوت" التصرف الرسمي أو الرسمية كصفة غالبة على التفكير السياسي. ومنذ ان نصب بنيامين نتانياهو رجل الدعاية الاسرائيلية في وسائل الاعلام الاميركية زعيماً لحزب ليكود لم تنقطع المواجهة يوماً واحداً بينه وبين النخب الاسرائيلية المتجذرة في مؤسسات الدولة الاقتصاد، الاكاديمية، الجيش، القضاء، كبار موظفي الدولة... الخ، ولهذا السبب بدت فترة حكمه مثل سلسلة ممتدة من الأزمات وإدارة الأزمات. وقد تتحول فترة حكمه المقبلة في حال فوزه الى عملية تصفية حسابات مع هذه النخب، ولذلك تتحالف هذه الآن ضده من خلال حزب الوسط والعمل في معركة تعتبرها معركة حياة أو موت. وقد بدأت الأزمات في حزب ليكود نفسه على شكل صراع بين النخب الجديدة المحيطة بهذا الزعيم - النجم والنخب التقليدية الأمراء المتنفذة في هذا الحزب على نحو يكاد يكون وراثياً وكنا أشرنا في مقالات سابقة في "الحياة" الى ان هذا الصراع هو الذي سيحسم مصير الإئتلاف الحكومي. دافعت النخب القديمة عن مواقعها من هذا الوافد دفاع المستميت، ولم يتخذ الصراع شكل مواجهة بين معتدلين ومتطرفين، فبنيامين زئيف بيغن نجل زعيم ليكود السابق يختلف اختلافاً جذرياً في الموقف السياسي عن مريدور. واسحق موردخاي، الوافد الجديد على الحزب، يختلف عن دافيد رنيم، لكن ما يجمع كل هؤلاء هو استشعار الخطر الداهم من الزعيم الجديد المتسلح بطريقة الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة، والصلاحيات غير المسبوقة الممنوحة لهذا المنصب، وبالخطاب الاعلامي الديماغوجي الموجه مباشرة الى الجماهير من فوق رأس الحزب. يهدد الزعيم - النجم الذي يوجه خطابه السياسي الى الجماهير مباشرة الجهاز الحزبي الذي تعتمد عليه الديموقراطية الاسرائيلية كديموقراطية حزبية تماثل في مبناها الديموقراطية الحزبية في جمهورية المانيا الفيديرالية. وقد قاومت اجهزة الحزبين الكبيرين، ليكود والعمل، كلاً من نتانياهو وباراك ومحاولتهما تحويل الحزب الى مجرد رابطة انتخابية لجلب الأصوات تدار كما تدار الشركات الاعلامية. لكن الصراع بين جهاز الحزب والزعيم داخل ليكود كان أكثر تأثيراً وأبلغ أهمية من الصراع الموازي داخل حزب العمل. فحزب ليكود يعيش حالة استثنائية قد تدفع به في النهاية الى نوع شعبوي من اليمين يقترب من الفاشىة وتتألف هذه الحالة من مركبين أساسيين: 1- الخطاب اليميني القومي المتطرف الذي يلتقى مع خطاب اليمين الديني ببنيته وبالمفردات السياسية وبالمضمون الايديولوجي على نحو لم يسبق له مثيل. الأمر الذي جعل الائتلاف بينه وبين الاحزاب الدينية يتجاوز مجرد لقاء مصالح الى اللقاء الايديولوجي. 2- التنافر بين القاعدة الاجتماعية الشعبية لحزب ليكود أحياء الفقر، مدن التطوير، الطبقات الوسطى - الدنيا من ناحية وقيادة هذا الحزب طبقات وسطى عليا أوروبية الأصل من ناحية أخرى. ويقوم بنيامين نتانياهو ونشطاء الحزب على مستوى القاعدة وجماعة المتفرغين الحزبيين المحيطة به باستغلال التفاوت بين قاعدة الحزب الاجتماعية وقيادة الحزب من أجل تصفية الحسابات مع هذه النخب القديمة. فنتانياهو يخاطب القواعد الاجتماعية مباشرة عبر خطاب تلفزيوني تسطيحي شوفيني النزعة باعتباره الرجل القوي الذي يصارع حزب العمل وحده، في حين تخون القيادة القديمة برنامج الحزب من خلال تمثيلها في الكنيست وتعرقل عمله وعمل الحكومة في نهاية الأمر بالائتلاف الحكومي اليميني لمصلحة حزب العمل، وقاعدة الليكود الاجتماعية تريد حصتها في قيادة الحزب فتلتقي بذلك مصلحتها بتغيير ممثلي الحزب في البرلمان مع مصلحة مجموعة نتانياهو. هنا نجد السر الحقيقي وراء تأجيل المعركة الانتخابية ومدّها الى أطول فترة زمنية ممكنة، فنتانياهو يدرك ان الجماهير الواسعة أكثر تعرضاً للتأثر بالخطاب القومي - الديني وان انشقاق قيادات من ليكود تؤثر فيه معنوياً في البداية فقط وتظهره بمظهر الزعيم المعزول سياسياً، ولكن إذا توافر الوقت الكافي للنشاط الاعلامي المباشر والموجه الى الشعب فإنه يستعيد أنفاسه ويبقى تأثير النخب المنسحبة من الحزب محدوداً ضمن أوساط اجتماعية تميل أصلاً الى التصويت لحزب العمل. وفعلاً بعد كل انسحاب من الليكود يتأثر ليكود كحزب ويقلص تمثيله البرلماني في الاحصاءات، أما شعبية نتانياهو أمام باراك فتتأثر موقتاً فقط ليعود ويستعيد أنفاسه بمرور اسبوع أو اثنين فقط. يستثنى من ذلك انسحاب شخص واحد فقط قد يؤثر في نتانياهو اذا وصل الى الجولة الثانية وكان الخيار بينه وبين نتانياهو هو اسحق موردخاي. وسوف نعود اليه لاحقاً. اختار نتانياهو في هذه الأثناء شعار "رجل قوي لشعب قوي" ورمى بأقنعة الاعتدال كلها. فالموضوع الآن ليس السلام مع العرب ولا البطالة ولا العلاقة المتأزمة بين الدين والدولة، ولا الركود الاقتصادي وانخفاض معدلات النمو وانما الموضوع هو الأصوات. وقد تعدى نتانياهو بهذا الشعار الانتخابي حتى مشاعر اليهود الأوروبيين الذين تذكرهم تداعياته بماضٍ ليس بعيداً في أوروبا. وتبينت خطة نتانياهو الانتخابية في بعض برامج الثرثرة السياسية الكثيرة في التلفزيون الاسرائيلي حيث يجند لحضورها في الاستوديو جمهور يميني النزعة يقاطع متحدثي اليسار وباراك والخصوم السياسييين بشكل هستيري ومتواصل ويهتف ويصفق لليمين. الوسيلة إذا هي الإرهاب الاعلامي. ومواضيع الإرهاب الاعلامي هي تعجل اليسار وباراك بالتنازل عن أرض للعرب، الخوف على وحدة القدس، وحقيقة ان الزعماء العرب وحتى الأوروبيين يريدون إطاحة نتانياهو وتنصيب باراك في حين ان الشعب الاسرائيلي يريد نتانياهو. وهذه الديماغوجية مهمة جداً للاسرائيليين، فمن ينتخب زعماء اسرائيل هو الشعب الاسرائيلي وليس الحكومات العربية التي لا تبيح الديموقراطية في بلدانها، وتدخلها الحقيقي أو الوهمي، أي الذي يدعيه نتانياهو، يستفز الشعب الاسرائيلي لدعم اليمين. في مثل أجواء الإرهاب الاعلامي هذه يتحول اليمين المتطرف الى المستفيد من أي تطور لأن الديماغوجيا لا تتأثر بالحقائق. فإذا تمت عمليات انتحارية مثلاً يستفيد منها اليمين باستفزاز مشاعر الشعب الاسرائيلي لمصلحته ضد العرب، واذا لم تحصل عمليات انتحارية يدعي اليمين ان ذلك عائد الى قدرته على الحفاظ على الأمن والاستقرار. واذا تدخل العرب بتصريحاتهم في الانتخابات يستفيد اليمين، واذا لم يتدخل العرب يستفيد اليمين، أيضاً لأنه يتبين ان سياسة اليمين لا تكلف اسرائيل ثمناً باهظاً، والدليل ان العرب صامتون. في هذه الاجواء الانتخابية المعبأة، والتي ستزداد تعبئة مع اقتراب موعد الانتخابات، تتمحور دعاية الوسط واليسار حول شخصية نتانياهو الخطيرة، في حين يشدد اليمين على انهزامية اليسار والوسط السياسية، وعندما ينجح اليمين أخيراً بفرض الأسئلة السياسية يكون اليسار والوسط في حالة دفاع عن النفس. في هذه الحالة يضطران الى التشديد على المشترك مع الليكود كاستراتيجية انتخابية دفاعية. هكذا يظهر باراك أمام الجمهور في المستوطنات فيؤكد بقاء هذه المستوطنات تحت السيادة الاسرائيلية عند أي تسوية، وعلى وحدة القدس تحت السيادة الاسرائيلية، وعلى عدم السماح لپ"جيش غريب" بالمرابطة على الحدود غربي النهر وغير ذلك من قواعد "الاجماع القومي الاسرائيلي". ولم يقتنع باراك حتى الآن بالمبادرة الى الهجوم على سياسة نتانياهو وتدميرها للعملية السلمية وتأثيرها الهدام على العلاقات الاميركية - الاسرائيلية، وهو لا يأبه عملياً بالتوجه الى الصوت العربي مفترضاً انه في جيبه. تدل استطلاعات الرأي العام حالياً على توازن في القوة بين نتانياهو وباراك في الجولة الثانية لانتخابات رئاسة الحكومة، وهذا يعني في الواقع فوز نتانياهو لأن الاستطلاعات ليست في مصلحة من هو في السلطة عادة، ولأن ما زال أمامه متسع من الوقت للهيمنة على المزاج الجماهيري بالإرهاب الاعلامي. وإذا لم تتغير استراتيجية باراك الانتخابية فقد تكمن الامكانية الوحيدة لإطاحة نتانياهو عند منافسه موردخاي. فإذا وصل باراك الى الجولة الثانية في مواجهة نتانياهو قد يصعب على موردخاي تجيير الأصوات القليلة التي اقتنصها من نتانياهو لمصلحة باراك في الجولة الثانية. اما اذا وصل موردخاي الى الجولة الثانية فسوف تضاف الى أصواته كل أصوات باراك المحتملة. انسحاب مريدور من حزب الليكود لم يقتنص من قاعدة الحزب الانتخابية قدراً كافياً وانسحاب بيغن يضر نتانياهو في الجولة الأولى فقط لتعود اليه الاصوات في الجولة الثانية. أما أمنون شاحاك فطاقته الانتخابية موجودة في قواعد حزب العمل. الوحيد الذي قد يقتنص بعض الاصوات من نتانياهو هو موردخاي، اذ قد يحصل على بعض أصوات شاس التي تذهب عادة الى مرشح اليمين وبعض الاصوات من الطائفة الكردية مثلاً. وموردخاي لا يختلف سياسياً عن باراك، وقد يكون اكثر اعتدالاً في مواقفه، لكن سياسة حكومته غير متوقفة على مواقفه بل على نوع الائتلاف الذي سيقيمه. وسخرية القدر تقضي بأن من يستطيع الانتصار على نتانياهو هو ذلك الذي لا يستطيع الوصول الى الجولة الثانية. * أكاديمي فلسطيني، عضو الكنيست الاسرائيلية