وقفَ أمامَ المرأة يُبَلِّلُ وجهه بالصابون، تمهيداً للحلاقة. وتحين منه التفاتة الى عينيه، فيتوقَّف شارد اللُّب. وتعود به الذاكرة، في التوِّ، الى ما مضى، ويتوقَّف عند الثامنة عشرة من عمره، ويُطيل التحديق، وينتقل الى المرحلة التي كان الفكر فيها يسْكر بزبيبة واحدة. ونسيَ من فرط التحديق أنه يحلق. وأنس الى خديّه وجبينه، وقد حفرت فيها الخطوب بعض معانيها، ورأى يده على حين غرة، تُمسك بالقلم، وتكتب: "حبيبي... دمْت بي كالعهدِ بك رأيتك الآن في بداية الطريق الطويل، غضَّ الإهاب، زين الشباب، تتخطَّر بالنواظر، وتقفز فوق الخواطر. لا تحسب للأمس حساباً، ولا تُوَجِّه للغدِ كتاباً، ولا تنتظر من الإثنين جواباً. تتشرَّب الفكر، وتظل ظمأَناً، وتعبرُ الوَعْرَ، وتبقى سادراً وسْناناً. تُذلِّلُ الصعاب ولا تَني، كأنك من دورة الحياة على عهد وثيق. تطيقُ ولا تطيق. ولكم عاشرْتَ، وتَخلّيت، وأَحببتَ وما تَخلّّت. وضحكتَ... وبكيت. وأَروَع ما فيك أنك لم تندم، كأنك رغم مآثيك لم تهرم. ولكم جافاكَ الصحاب، وخانك الأحباب، فبقيتَ ثبت الجنان، تشدُّ الجراح الى الجراح، وتشرب الصاب كأنه الملاب، وأنت العليم بأن: الدهرَ في الناس قُلَّبْ إن دانَ يوماً لشخصٍ ففي غَدٍ يَتغلَّبْ ولقد رأيتك الآن، فطبتُ بك نفساً، وفخرت بك غَرْساً. فتعال... تعال... ولا تكن خاليَ البال. فالرجال الرجال يخلقون المُحال إن ساءَت بهم الأحوال، وعزَّ النوَال. تعال... اقتربْ... فأنا لا أُحبُّ الوعظَ البليد، وأكره الإرشاد الذي يعرف المُعاناة، وأُحبُّ الغضبَ المشتقَّ من أعماق الحبِّ، وأعافُ التدليس المُعيب، وأَعشق الحرية، ولا أعدل بها شيئاً. وأُحبُّ الناسَ، وأعشق الجمال... فتَعال إليَّ كما أنت، واسمع دقَّات قلبي تقول: في فجرِ الأيامِ الموسُومةِ بالقهْرِ... الموسومةِ بالعهْرِ... أَراك تَتسلَّقُ سَفْحاً لا بُعدَ له... وأَرى الشمس تَلُوكُ أَشعَّتَها أَرتالُ عَظَايا... وضفادعْ وأرى الناسَ عيوناً تقتسمُ الآفاقَ تسدُّ الأنفاقَ حَيَارى... تَتبَارى وأَرى الناسَ المهزومينَ بأعصابِ نَوَاياهمْ أَضغاثَ طيوفٍ هَرِمَتْ.... وأَراكَ تُمانعْ تترافعْ وأَراك تُدافعْ تَجترحُ الغايات المنفيَّة تقترفُ العاداتِ المنسيَّة عبْرَ ظنونٍ من ريشِ عصافير احترَقَتْ في الأيامِ الموسومة بالقهْرِ لكنَّ الانخابَ هنا وهنالك تُتْرَعْ كانت تُقْرَعْ للأَنصابِ المعصوبةِ بالغارِ على شرَفِ الأيامِ الموعودة، بالنجمِ الأرضيِّ يُدَحرجُ خُبْثَ الليلِ الجاثمِ فوقَ العُرَقِ الخلاَّق يُبَشِّرُ بالأوقات الملفوفة بالورقِ الأخضر... والأقداحُ حَواليكَ تَلَوَّى مَلأَى صاباً... وسُباباً تَتَبَنَّى أَوشالاً... أَنصاباً تَسْتْهويكَ تُغنيِّ... تَلْهُو... تفجرُ... تُكْرُرُ بالمعروفِ وتغْويكَ... وأَراني قُرْبَك والبعدُ القاهرُ يقصيني يحرقُ ديني فتعالَ... وكأسُكَ مَلأَى خمراً... أَمراً... لا فَرْقَ تعالَ كما أَنتَ فكأسي تطفحُ سمَّاً... ناراً ولْنَعَدْ بفتونِ اللُّقيا وَلْنطربْ... وَلننحْب... إِنَّ مع ذلك... فلنشربْ!" ميشال سليمان شاعر لبناني