مع رحيل الملك حسين تبين بصورة جلية كم تمتع بسمعة رجل دولة تجاوز دوره حدود الأردن وصغر حجمه وفقر موارده. الملك حسين كان واحداً من كبار القادة العرب اذ عاصر كل مراحل وتوترات العصر العربي الذي تبلور في الخمسينات. قاد الأردن من مرحلة الى اخرى، ارتكب اخطاء عديدة لكنه صحح الكثير منها بفضل حاسته السياسية، واجه اعداءه بذكاء وصالحهم عند اول منعطف، اعتقل الذين انقلبوا على الدولة ثم افرج عنهم بلمسة شخصية. كان الحسين سياسياً من الطراز الأول ونجح لهذا في انشاء وضع في الأردن يميل الى الاستقرار وتقل فيه انتهاكات حقوق الانسان، اذ نجح في تجنيب الأردن آفة الحكم العسكري او الحكم الدموي والانقلابي على رغم توفر كل الظروف التي تساهم في نشوء هذا النمط من الحكم في بلد فقير في موارده ومتأثر بالقضية الفلسطينية وتداعياتها... الخيط العام الذي ميز الملك حسين عن غيره انه لم يكن في يوم من الأيام مغالياً بل كان منسجماً مع نفسه منذ البداية وحتى موته. الحشد العالمي الذي جمع متناقضات العالم في جنازة الملك حسين عكس دوره الاقليمي والعالمي. فالملك حسين كان رئيساً في الميزان العربي القديم والجديد، أكان ذلك من خلال دوره في مواجهة المدّ الذي شجع الانقلابات العسكرية والثورية في الخمسينات في كل من مصر وسورية والعراق ام من خلال سعيه الى وحدة مع العراق انتهت بتصفية العرش الهاشمي في بغداد عام 1958. وانتقل الملك للعب دور امني وسياسي في منطقة الخليج عبّر عن نفسه بجلاء في مشاركة الأردن في دعم سلطان عمان ابان ثورة ظفار في اواخر الستينات، كانت تلك مساهمة اردنية في الحرب الباردة وباتجاه احتواء اليمن الجنوبي والمد الشيوعي. وفي مراحل عدة واجه الملك تطرف اسرائيل وفي أطوار اخرى سعى الى امتصاص غضب الفلسطينيين على حكمه ما أدى الى حرب أهلية كادت تطيح حكمه عام 1970. وجاء أخيراً موقف الملك في تشجيع السلام عوضاً عن انتقاده وفي عقد معاهدة سلام مع اسرائيل عام 1994 وفي ممارسة التوسط في اللحظات الحالكة بين الفلسطينيين والاسرائيليين ليعطي دوره بعداً ايجابياً. وفي الوقت نفسه حافظ الملك حسين على علاقات دائمة وشخصية مع كل رئيس اميركي جاء الى البيت الأبيض. اذ كان ملكاً محاوراً مع ادارات اميركية مختلفة وكان لذلك تأثير على الاجندة الاميركية الاقليمية ما ترك اكبر الأثر في استقرار الأردن ودوره. ولكن علاقاته الأميركية لم تكن اقل من علاقاته الأوروبية والبريطانية والدولية الاخرى إذ نجح في توظيف كل هذا لمصلحة اعطاء الأردن دوراً في الميزان الاقليمي والدولي. ولكن الملك اخطأ في تقدير مدى خطورة مغامرة الرئيس العراقي في الكويت، بل خشي من امكان خسارته للسوق والدعم العراقيين في ظل نشوء حرب تخرج العراق بالقوة من الكويت. وكانت نتيجة ذلك الموقف خسارة الأردن في ذلك الوقت سوق العمل الأكبر في دول الخليج بما في ذلك خسارة الأردن الدعم الخليجي. ويمكن القول ان الملك خضع كما يخضع كل قائد لرغبات الشارع الأردني، ولمنطق واسع النطاق في العالم العربي حدد موقفاً في تلك الفترة من استخدام القوة من جانب تحالف دولي، بل ان الملك بهذا الموقف تحديداً اعاد لنفسه شعبية كان فقدها في مراحل سابقة. وربما اخضع الملك موقفه لمتطلبات المرحلة أكثر مما أراد لكنه استدرك ذلك الخطأ الاستراتيجي والثمن الذي ترتب عليه، واكتشف بالممارسة ان صدام حسين الذي اوحى له بإمكان انسحابه من الكويت بحل عربي قبل كانون الثاني يناير 1991 لم يكن ينوي الانسحاب وكان يفضل حلاً عسكرياً للأزمة. واكتشف الملك حسين ان صدام حسين الذي طلب مساعدة الملك في عملية رفع العقوبات بعد عام 1991 كان يقول شيئاً للأردن في الصباح ويفعل شيئاً آخر في المساء. بل ربما كان المنعطف الأهم في التأثير على موقف الملك من الرئيس العراقي هو قيام صدام حسين بحشد جيشه على الكويت في تشرين الأول اكتوبر 1994 فيما كان الملك يطرح في اكثر من مجال امكان اعادة تأهيل صدام. في تشرين الأول 1994 اعلن الملك موقفاً واضحاً من الحشد العراقي، ومنذ ذلك الوقت تتالت الاحداث انشقاق حسين كامل ومقتله التي كشفت مدى صعوبة تأهيل الرئيس العراقي، بل منذ ذلك الوقت تتحرك العلاقات الخليجية - الأردنية بإتجاه ايجابي الى ان توج الأمر ببداية تطبيع العلاقات الأردنية - الكويتية بعد موقف الأمير حسن الاخير في مؤتمر البرلمانيين العرب المنعقد في الأردن في اواخر كانون الأول ديسمبر 1998. ويترك الملك حسين الأردن في حالة افضل نسبة لما كان عليه حال الأردن عام تسلمه للحكم في 1952. بل يترك بلداً استقر فيه نظام الحكم بعد ان بدا في الخمسينات في مهب الريح الاقليمية العاتية. ففي ظروف الانتقال الصعبة ستسعى اطراف عدة ودول عربية محيطة بالأردن لامتحان ارادة وشخصية الملك عبدالله. سيكون هذا الامتحان جس للنبض لمعرفة قدراته وذلك في اطار البحث عن ثغرات للتأثير على السياسة الاردنية من الداخل ومن الخارج. بل من الطبيعي ان تسعى اسرائيل لجس نبضه ولرؤية كيفية تعامله مع الشأن الاسرائيلي والفلسطيني وموقفه من الحل النهائي في المفاوضات المقبلة. بل قد يكون الملك الجديد اكثر حذراً في الاجراءات السلمية مع اسرائيل وأكثر تردداً في متابعة السلام وذلك بانتظار نتائج الانتخابات الاسرائيلية في أيار مايو وبانتظار رؤية شكل السياسات الاسرائيلية القادمة. وسيكتشف الملك الجديد ان استقرار الأردن يتطلب الكثير من الاستقرار والازدهار الاقليمي، وان نجاح السلام وعدالته في الشأن العربي - الاسرائيلي سيترك اكبر الأثر على استقرار الأردن. ولكن الأهم انه بموت الملك حسين بدأت مرحلة تغير من جيل الى آخر ومن اباء مؤسسين الى ابناء متابعين. جيل الملك حسين، اي الجيل الذي لا يزال في قيادة العالم العربي عرف الشرق بكل تناقضاته وعرف التحديات الدولية في اكثر من عصر وأكثر من زمن. اما الجيل الجديد الصاعد في المرحلة المقبلة الى دفة القيادة فلم يعاصر الكثير ولكنه قد يكون اكثر استعداداً لتجربة الجديد، وقد يسعى للأخذ بالعلم والتكنولوجيا وإصلاح المؤسسات وتوسيع نطاق المشاركة وهامش الحرية والاعتراف بدور الفرد. ان التغيير الذي وقع في قطر منذ سنوات قليلة والتغيير الذي يقع اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية والتغيير المتوقع في الكثير من الدول العربية إبان السنوات العشر المقبلة يساهم بشكل او بآخر بتغيير السياسة كما عرفناها في العالم العربي في العقود الماضية. وفي هذا المجال يعكس الوضع الجديد في الأردن مدى عمق التحولات التي تمس العلاقة بين الاجيال. وفي هذه الظروف سيتحول الأردن الى مختبر لدول عربية عديدة تقترب من المرور بنفس الظروف. ان نجاح الملك الجديد ببناء التوازن المطلوب بما في ذلك توحيد الأسرة الهاشمية خلفه واعادة تأكيد دور الأمير حسن الذي في امكانه لعب دور كبير في الأردن وخارجه هو امر على درجة عالية من الأهمية لاستقرار وازدهار الأردن. وفي ظل هذا الانتقال سيجد الملك عبدالله انه امام وضع يتطلب الكثير من الاصلاح والانفتاح، والكثير من التطوير الديموقراطي، وسيجد امامه عالماً متشابكاً من العلاقات في مجتمع شديد التنوع وأحياناً التنافر والتنافس، وسيجد فوق كل شيء مجتمعاً يعاني من بطالة كبيرة ويحتاج للكثير من التنمية الاقتصادية. ان نجاح الملك الجديد في البناء السياسي والاقتصادي مرتبط بمدى التحول باتجاه الانفتاح الديموقراطي. فالمجتمع لن يتقبل من الملك الابن ما تقبله من الأب الراحل، فالملك حسين بنى دوره في ظل ظروف مختلفة ومع جيل مختلف من الاجيال الاردنية والعربية. اما الملك الجديد فهو سيبني دوره وشرعيته في ظل جيل اردني اصغر سناً ولد وسط تجارب الانترنت والانفتاح العالمي ونشوء المجتمع المدني واللامركزية، ولهذا فهو جيل يبحث عن مزيد من الحقوق والحرية والمعرفة والانفتاح والاستقرار، وجيل يتساءل عن الخيارات وينتقد المسؤولين بجرأة أكبر ويتطلع نحو مشاركة ذاتية في صناعة المستقبل. ان نجاح الملك الجديد على الصعيد الداخلي الأردني سيعتمد على تحويل مجتمع الأردن بكل فئاته وتنوعاته الى مجتمع لدى غالبيته المصلحة في حماية المؤسسات السياسية والدستورية والاقتصادية التي يجب ان تستند على انفتاح وحريات وحقوق وتنمية وردم للهوة بين الاغلبية الفقيرة والاقلية الغنية. وسيبقى هذا سؤالاً مفتوحاً امام الملك الشاب. * استاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة الكويت، رئيس تحرير مجلة "العلوم الاجتماعية".