لا ضرورة لأن تسأل أي شاب في لبنان اذا كان يريد تغييراً في بلده، وما حوله، لأنه سيقول لك: نعم. ولكن كيف ومن يقوم بذلك وفي أي اتجاه؟ لقد تغيرنا نحن عمن قبلنا، يقول، ويشير الى حلقة في اذنه، والى شعره الطويل الذي انعقد أو انجدل أو تدلى على كتفيه أو أمسكت به دبابيس ومشابك، أو انه يلفتك الى قميصه الذي يتدلى فوق سروال الجينز الأزرق الذي كثيراً ما مسح به بقايا "الكاتش اب" التي لوثت يده وهو يأكل "الهمبورغر" بلا مبالاة: هذا تغيير في حياتنا وسلوكنا، لكنه ليس كافياً، وحتى لا معنى له، نريد أكثر، تغييراً يطاول بلدنا كله. وتصل معه الى غرفته وأنت غارق في الحديث، وتدخلها فإذا بتشي غيفارا ولينين وبوب مارلي في ملصقات كبيرة تغطي جداراً. يقول لك: لا تستغرب فلي زملاء يضيفون الى هذه الملصقات صور عبدالناصر وماو تسي تونغ وطانيوس شاهين ومايكل جاكسون. وهناك من يغطون جدران غرفهم بملصقات لمادونا وستالين، وإذا تجرأ بعضهم فإنه يرفع ملصقاً من حين لآخر للعماد ميشال عون وسط الارزة اللبنانية، الى جانب ملصقات لشبيبة البانكي بجنازيرهم وشعرهم الملون والمسنن والمنطلق الى فوق كعرف الديك. هو وحده يسمح لك بالتصوير ويضحك معبراً عن احتقاره للتصوير وللكتابة وللنشر ويقول: ماذا ينفع ذلك كله؟ آخرون تلتقيهم لا يردون عليك حتى وان توجهت اليهم بالسؤال، يتجاهلون كلماتك كأنك تتكلم لوحدك. وسط هذه البانوراما كيف يمكن فهم التغيير الذي يريده الشباب في لبنان؟ هذا السؤال لا أهمية له لديهم لأن ردهم جاهز سلفاً، خصوصاً اذا أردت ان تمتحن طائفيتهم، أو تحدد اتجاههم يميناً أو يساراً، أو تختبر لبنايتهم وعروبتهم. ليس هذا بيت القصيد عندهم، فهم لا طائفيون، وهذا تحصيل حاصل وأمر مسلم به في أرض الواقع في رأيهم، على رغم ان البلد ما زال طائفياً. لكن، ماذا تقول الاحصاءات؟ مقابلات مباشرة وغير مباشرة مع واحد وستين شاباً جامعياً، واسئلة الى اصحاب مطاعم ومقاه ومراقص ليلية في شطري بيروت والضواحي شملت اثني عشر من هؤلاء، وكلها قام بها فريق عمل بمعاونة بعض هؤلاء الشباب، تبين منها ما يلي: - 85 في المئة من هؤلاء الشباب لا يحسبون حساباً للموقع الجغرافي لمطعم أو مقهى أو مرقص ليلي، يريدون الذهاب اليه، أكان هذا الموقع في بيروت الغربية أو الشرقية، أكان في جونيه أو الحازمية أو برمانا، 9 في المئة يفضلون مناطقهم، 6 في المئة يرفضون سلفاً الذهاب الى غير مناطقهم. - 95 في المئة من أصحاب المطاعم والمقاهي والمراقص الليلية لا يميزون زبائنهم أكانوا من المناطق الشرقية أم الغربية، لكن الليالي التي تشهد كثافة كبيرة في الزبائن تؤكد مجيء أعداد كبيرة من جميع المناطق، 5 في المئة يعتبرون ان زبائنهم من مناطقهم المحلية وليس من خارجها. - 92 في المئة من هؤلاء الشباب صداقاتهم من جميع الطوائف من دون استثناء ولا حساب للحالة الطائفية لديهم في اختيار الرفقة أو الصداقة، 5 في المئة يفضلون الأصدقاء من أبناء طائفتهم، 3 في المئة لا يطمئنون لغير أبناء طائفتهم في أي علاقة. حسب هذه الأرقام ينفي عدد من الشبيبة اللبنانية أي خفايا طائفية تحول دون تنقلهم بين المناطق وتواصلهم، لذا يقول بعض هؤلاء ان الطائفية لم تعد متغيراً صالحاً لقياس التغيير أو المطالبة به، وحتى إذا وجدت لديهم فإن هناك أمراً يطغى عليها لدى جميع الشباب من الطوائف كافة. ما هو هذا الأمر؟ يصعب تحديده، يقول بعض هؤلاء الشباب. وبعضهم يقول انه خليط من الحيرة والضياع والتمزق يكاد يصل الى نوع من الشعور بعدم الانتماء لموقف أو حالة، وهذا يتضح في الاجابات عن السبب الذي دفع لتعليق ذاك الخليط من صور الشخصيات - الرموز تلك التي تجمع بين ثائر كغيفارا يعمل للتغيير بالعنف، وبين بوب مارلي المغني الجامايكي الذي يحمل الجنسية البريطانية وكل رصيده انه ضد اشكال العنصرية والاستغلال والاخضاع، حريته منفلتة ان بشعره المتدلي على كتفيه وصدره أو بصندله حتى في أيام الشتاء، منفلتة الى حدود تعاطي المخدرات التي غنى لها كتعبير عن الهدوء والتسامي عن هذه الأرض وناسها. الى جانب انها تجمع أيضلا بين لينين وغيره ممن سبقت الاشارة اليه. لكن ذلك كله لا يشير الى اتجاه وطني ما لدى هؤلاء الشباب. جاء في نتائج الاستفتاء، حسب تلك المقابلات، ان: - 83 في المئة منهم يعتبرون انفسهم لبنانيين لكن هذا لا يعني شيئاً ولا يعطيهم جواباً على ما هم فيه من ضياع وحيرة وتمزق، خصوصاً وأن 92 في المئة من هؤلاء لا يعرفون لبنان، والذي عرفوه منه هو الحرب التي لم يشرحها أحد بشكل محايد كما قال بعض هؤلاء، وبيروت حتى الآن تشكل بالنسبة اليهم كل لبنان لأنهم يعرفونها جيداً، لكنهم لم يتنقلوا في المناطق اللبنانية لا شمالاً ولا جنوباً لاعتبارات كثيرة. - 11 في المئة يربطون الانتماء اللبناني بالعروبة بدوافع اللغة والتاريخ، من دون تحديد معنى ذلك بالنسبة اليهم، ومن دون ان يشفي ذلك غليلهم أو يخفف من حيرتهم وضياعهم، فكما لا يعرفون لبنان جيداً لا يعرفون العروبة أيضاً الا لغة. - 6 في المئة يغلب عليهم الانتماء الديني، من جميع الأديان والطوائف، لأن هذا الأمر يريحهم لما فيه من حدود ووضوح ومعطيات تخفف من الضياع والحيرة كما يقول بعضهم. حالة الضياع تلك هل هي يأس وتشاؤم لدى هؤلاء الشباب؟ معظم الاجوبة يقول: لا. ويدلل على ذلك اهتمامهم بالدراسة واعطاء الوقت الكافي لها. لكن حالة الضياع نابعة من عدم وجود اجوبة عن تساؤلات حادة وجادة: عن الحرب، والأحزاب والحكم، وسورية، والمقاومة واسرائيل. والأرقام بشأن هذه الأمور كثيرة، وهي ضرورية لمن يريد التعاطي مع مشاكل هؤلاء الشباب الذين لم تعد تكفهم مفردات الأحزاب القائمة وعجالاتها وعمومياتها.