لو كان بن غوريون، مؤسس دولة اسرائيل، على قيد الحياة وشاهد تظاهرة القدس أول من امس التي شارك فيها اكثر من 200 الف يهودي متشدد من "الحريديم"، لكان ندم على قراره عام ثمانية واربعين منح هذه المجموعة امتيازات خاصة. لقد عكست التظاهرة الصراع القديم - الجديد في الشارع الاسرائيلي بين اليهود المتشددين وبين اليهود العلمانيين، وكانت احتجاجا من الحريديم، او يهود يتقون الله، على جملة قرارات للمحكمة الاسرائيلية العليا، واهمها التشكيك بقرار قديم للكنيست البرلمان يعفي شباب الحريديم من الخدمة العسكرية الالزامية والسماح لحركات الاصلاح الاكثر تحرراً بالاشتراك في المجالس الدينية في اسرائيل. كان بن غوريون يعي الانقسام التاريخي في المجتمع اليهودي بين العلمانيين والمتشددين وخطورة هذا الانقسام على استقرار الدولة العبرية ومستقبلها. لذلك، وحسب المؤرخ الاسرائيلي ستيوارت كوهين ومراجع اسرائيلية اخرى، لجأ بن غوريون الى خطوات راديكالية لتوحيد اليهود عن طريق استخدام التجنيد الاجباري لانشاء اجيال تعزز توحيد دولة اسرائيل. كما عمد الى الغاء الميليشيات اليهودية المتدينة، مثل البالماخ، التي شاركت في حروب العصابات ضد العرب حتى عام ثمانية واربعين، تاريخ اعلان دولة اسرائيل. وألحق بن غوريون، اول رئيس وزراء لاسرائيل، جميع الوحدات المسلحة والميليشيات بصفوف الجيش الاسرائيلي، كما انه رفض طلب بعض المتدينين تشكيل فصائل او وحدات عسركية خاصة بهم داخل الجيش وألزمهم بالخدمة في وحدات تضم جنوداً علمانيين. لكن بن غوريون اقدم على خطوة كانت تبدو من وجهة نظره محدودة وتتماشى مع مبادئ الصهيونية وأهدافها، اذ طالب حاخامات الحريديم باعفاء شباب معاهدهم الدينية من الخدمة العسكرية، ولجأوا الى نصوص في التوراة تفرض على الاشخاص الذين يبغون دراسة الدين والتعمق به ان يتفرغوا للعبادة وألا يمارسوا اي عمل آخر. وبما ان الايديولوجية الصهيونية تدعو الى نشر الثقافة اليهودية والمحافظة على الحضارة والتقاليد، وافق بن غوريون على طلبهم وأعفى شبانهم من الخدمة العسكرية، وكان الحريديم حينها يشكلون نحو اثنين في المئة من عدد سكان اسرائيل، اي ان عدد الشبان والشابات الذين سيشملهم الاعفاء لا يتجاوز المئات. اما اليوم، فازداد عددهم وأصبح الحريديم يشكلون نحو عشرة في المئة من اجمالي السكان، وعدد الشباب والشابات المعفى من الخدمة وصل الى 30 الفاً. ويعتبر العديد من المثقفين والمراقبين الاسرائيلين بأن الحريديم اصبحوا يشكلون خطراً متنامياً على المجتمع والنظام الاسرائيليين، فهم يكفرون كل يهودي لا يلتزم التقاليد وتعاليم التوراة، ويتهمون بعض الحكام الاسرائيليين بالخيانة بسبب علمية السلام وقبول الانسحاب من اراض يعتبرونها جزءاً من "ارض الميعاد التي منحها الله لقوم اسرائيل". كما انهم يتهمون الجيش الاسرائيلي بالخيانة ايضا لقبوله بأوامر الحكومة الاسرائيلية بالانسحاب من اراض في الضفة الغربية وغزة. ويرى المراقبون والعديد من السياسيين الاسرائيليين ان بقاء شبان الحريديم خارج الخدمة العسكرية يعني انهم سيتحوّلون، كأسلافهم، الى افراد انعزاليين غير قابلين للاندماج مع غالبية الشبان من جيلهم كما ان الانقسامات ستزيد في المجتمع، خصوصاً في شأن عملية السلام وستؤثر على مستقبل التعايش مع العرب. ومما يزيد من خطورة الوضع هو ان الحريديم استطاعوا تنظيم صفوفهم داخل المجتمع الاسرائيلي، وهذا مكنهم من جمع نسبة أصوات جيدة في الانتخابات الاسرائيلية وبالتالي التأثير في صنع القرار.