تعكس المواجهات المستمرة لليوم الثالث على التوالي بين يهود أصوليين (حريديم) في القدسالغربية وبين الشّرطة الإسرائيلية، عمق الصراع العلماني - الديني في الدولة العبرية، والتي يحاول أقطابها «إخفاءه» وعدم الخوض فيه تفادياً لتأجيجه، مع إدراكهم أنه سينفجر يوماً، خصوصاً ان التوقعات تشير الى ان الشباب العلمانيين في إسرائيل (دون الثامنة عشرة) المكلفين عبء الخدمة العسكرية سيصبحون أقلية بعد عقدين من الزمن، «ما سيغير وجه إسرائيل في شكل دراماتيكي»، علماً بأن «الحريديم» معفون من الخدمة ويتلقون مخصصات حكومية في مقابل الالتحاق بمدارس دينية. وتواصلت أمس احتجاجات «الحريديم» في القدس على قيام الشرطة الإسرائيلية باعتقال سيدة منهم بشبهة التنكيل بطفلها ابن السنوات الثلاث. وقذف المتظاهرون أفراد الشرطة بالحجارة وأشعلوا النار في مئات حاويات القمامة، ودمروا العديد من شارات المرور الضوئية، وأغلقوا طرقاً رئيسة وهم ينعتون أفراد الشرطة ب «النازيين». واحتلت هذه الأحداث عناوين الصحف العبرية أمس التي أبرزت حقيقة أن مجموعة كبيرة من اليهود الأصوليين (الحريديم الأشكناز) لا تزال ترفض أيديولوجياً الاعتراف بإسرائيل دولة، بل ترى انها «من عمل الشيطان»، وتنتظر قدوم المسيح لإقامة مملكة اليهود، ولا تؤمن بالصهيونية، ويرفض أفرادها التعاطي مع المؤسسات الحكومية، إذ أقاموا مؤسسات خاصة بهم من مدارس ومحاكم دينية، حتى أنهم يرفضون حمل بطاقة هوية إسرائيلية، ولا يدفعون الضرائب، ويرفضون تلقي مخصصات حكومية لتأكيد انفصالهم عن المجتمع الإسرائيلي. كما تحرص هذه المجموعة على نمط حياة صارم، وعليه تعتبر اعتقال سيدة من هذه المجموعة «انتهاكاً لحرمة العائلة» وتدخلاً فظاً في مجتمع يريد أن يبقى منغلقاً على نفسه «ويرفض نشر غسيله خارج بيته». ويقول المحتجون إن اتهام الأم بالتنكيل بابنها هو «فرية دموية» اختلقتها مؤسسة الرفاه الاجتماعي «انتقاماً منها على أنها من الحريديم». وأدرجت التعليقات التظاهرات الحالية ضمن الاحتجاجات الواسعة التي يقوم بها «الحريديم» منذ مطلع العام ضد كل ما يرونه أنه مس بعقيدتهم الدينية المتشددة، مثل قرار البلدية فتح موقف كبير للسيارات يوم السبت (العطلة اليهودية) فيعتبرونه انتهاكا لحرمة هذا اليوم المقدس، أو تنظيم مسيرة مثليي الجنس التي شهدتها المدينة أخيراً، وفي الحالين خرج آلاف «الحريديم» للتظاهر. وتأتي هذه الاحتجاجات في إطار صراع القوى بين «الحريديم» والعلمانيين على رئاسة بلدية القدس التي خسرها «المتدينون» في الانتخابات الأخيرة أواخر العام الماضي لخلافات في صفوفهم استغلها الناشط في «ليكود» نير بركات ليفوز بالرئاسة بعد أن حمل لواء «العلمانية» مخيّراً الناخب بين رئيس علماني وآخر «حريدي». ويرى أحد المعلقين أن هذه هي المرة الأخيرة التي يفوز فيها علماني برئاسة البلدية، وكتب أنه بعدما أحس «الحريديم» بأنهم دفعوا ثمن التناحر بينهم، فإنهم لن يكرروا خطأهم في الانتخابات المقبلة وسيستعيدون رئاسة البلدية في انتخابات العام 2013، بالإضافة إلى الهجرة المتواصلة للعلمانيين من القدس باتجاه تل أبيب، وإلى حقيقة أن نسبة التكاثر الطبيعي في صفوف المتدينين تتعدى 4 في المئة في مقابل 1.6 في أوساط العلمانيين. وعكس عنوان صحيفة «إسرائيل اليوم» اليمينية العلمانية قلقاً مما وصفته «فك الارتباط»، في إشارة إلى رغبة «الحريديم» في ان تكون لهم حياتهم الخاصة التي تسيّرها الشريعة اليهودية. وكتبت الصحيفة: «اتساع الانشقاق والقطيعة بين الحريديم ومؤسسات الدولة يهدد بانهيار النسيج الدقيق بين الطرفين». وكتب أحد المعلقين: «القدس تبدو كبرميل بارود مع فتيل متفجر قصير جدا... والاحتجاجات اتخذت حجماً غير مسبوق».