حرب فقراء جديدة عادت الى الاستعار مؤخراً بين اثيوبيا وأريتريا، مضيفة نزاعاً آخر الى نزاعات القارة الافريقية، وقد باتت عديدة تفوق الحصر، حدودية كانت ام محلية اهلية، يتدخل فيها الجوار او القوى الكبرى بأكثر من وسيلة وبوجوه شتى. ففي السادس من شباط فبراير الجاري، حركت اثيوبيا قواتها باتجاه حدودها مع اريتريا، معيدة الى الواجهة خلافاً كان قد خبا، بعد ان كان قد نشب في ربيع 1998 الفائتة. ومع ان تلك الجولة الأولى من المواجهات العسكرية وضعت اوزارها من دون ان تؤدي الى حل للخلاف بين البلدين، ومع ان تلك الهدنة الأولى كانت عائدة الى حلول موسم الامطار، والى صعوبة القتال في ظروفه، ولم تكن نتيجة للمساعي الدولية، او للنجاح في ايجاد آلية سياسية لتذليل المشاكل بين الطرفين، الا ان عودة النزاع، في الأيام الاخيرة، كانت مفاجئة الى حد كبير. ذلك ان منظمة الوحدة الافريقية، تسندها هيئة الامم والدول الكبرى، خصوصاً الولاياتالمتحدة، كانت بصدد الانكباب على تلك المشكلة الحدودية القائمة بين البلدين. وكانت قد احرزت في ذلك بعض التقدم، حيث تمكنت من تقديم خطة سلام، تمحورت حول ثلاث نقاط اساسية، او ثلاث مراحل، هي: انسحاب القوات الاريترية من المناطق المتنازع عليها، في شمال غربي اثيوبيا، ثم نشر قوة مراقبة، على ان يعقب ذلك قيام لجنة محايدة بترسيم الحدود بين البلدين. وهي الخطة التي نالت على الفور موافقة أديس أبابا. في حين قابلتها أسمرا بتحفظ بقي، مع ذلك، دون الرفض القاطع لها، حيث ردت على تلك الخطوة مطالبة بإيضاحات صاغتها في ما لا يقل عن 29 سؤالاً، من دون ان تغلق باب الحوار. ولعل في ذلك ما يسبغ على مبادرة اثيوبيا بالعودة الى خيار القتال، مسحة من غرابة. فمساعي منظمة الوحدة الافريقية ما كانت قد اقرت بفشلها بما من شأنه ان يجعل من الركون الى الحرب المآل الوحيد المتاح. ثم ان اثيوبيا، وهي تفعل ذلك، يبدو انها غيرت سلوكها بشكل مفاجئ، ومن دون مقدمات، منتقلة من استراتيجية الالتزام بالشرعية الدولية، ممثلة في مساعي منظمة الوحدة الافريقية وخططها وقراراتها، اطاراً لحل ذلك النزاع، الى الانقلاب عليها من دون ان تترك لها مجال بلوغ مداها، سلباً او ايجاباً. فهل يعني ذلك ان اديس أبابا قد اعتبرت رد اسمرا على الخطة الافريقية مجرد تسويف ومماطلة، مفادهما الفعلي الرفض، فرأت تبعاً لذلك انها اصبحت في حل من كل انتظار، فبادرت الى التحرك؟ ام انه يعني ان اثيوبيا كانت تتوقع رفضاً اريترياً قاطعاً للخطة المذكورة، حتى اذا ما جاءت الأمور على غير ذلك النحو، سارعت الى القتال، بما قد يلغي تلك الخطة أصلاً او يعطلها؟ سؤالان تصعب الاجابة عنهما من دون محاولة فهم الأسباب العميقة للنزاع الجاري بين البلدين... للوهلة الأولى، قد تبدو بواعث ذلك النزاع الاريتري - الاثيوبي، للمراقب الخارجي، واهية هزيلة بعض الشيء، فهي تتعلق بمنطقتين شاقتين، قاحلتين او اقرب الى القحل، احداهما مثلث بادمي 390 كيلومتراً مربعاً. والثانية منطقة زالمبيسا، لا يبدو انهما تتمتعان بأهمية استراتيجية او بموارد ذات بال. غير ان ذلك لم يمنع الدولتين من تنازعهما الى حد الاحتراب، ما يعني بأن الامر ربما تعلق بمسألة اساسية هي تأكيد السيادة الوطنية، وهو ما يجعل من ذلك النزاع مرشحاً للاستمرار طويلاً والى ان يتخذ منحى معضلاً. ذلك ان المشكلة تلك يبدو انها متفرعة عن اشكال اساسي، هو ذلك الذي لازم ارتقاء اريتريا الى الاستقلال. وكنه ذلك الاستقلال كما رآه كل من الجانبين، الاثيوبي والاريتري، وطبيعة العلاقات بينهما في كنفه. وهي جوانب يبدو، لمن يتابع التطورات التي جاءت بها السنوات الماضية، ان قد لابسها، ضمناً، الكثير من سوء التفاهم، المتعمد او العارض. فما لا شك فيه ان استقلال اريتريا قد نتج، الى حد كبير، عن ذلك التحالف الذي قام منذ اواخر السبعينات، بين الحركة التي كان يقودها الرئيس الاريتري الحالي، اسياس أفورقي، وتلك التي كان يتزعمها رئيس حكومة اثيوبيا الحالي ملس زيناوي، حيث التأم الطرفان في مواجهة حكم "النجاشي الأحمر" منغستو هيلي مريام، ونظامه الاستبدادي. وبالرغم من اختلاف الاهداف بين الحركتين، حيث كانت الأولى تعمل على استقلال اريتريا، في حين كانت الثانية تتحرك ضمن افق اثيوبي جامع، الا ان تحالفهما ذاك كان فاعلاً، في اسقاط النظام السابق. لكن ذلك التلاؤم في تحقيق ذلك الهدف الآني قد خلف، على ما يوحي الخلاف الجاري، وضعاً نزاعياً. ذلك انه يبدو بأن حكام اثيوبيا الجدد، اولئك الذين خلفوا منغستو هيلي مريام، وإن سلموا باستقلال اريتريا، الا انهم اعتبروا ان ذلك الاستقلال يجب ان يتحقق مع الحفاظ على رابطة ما، كونفيديرالية او سواها، مع اثيوبيا. وقد يكون ذلك الاعتبار هو ما سهل الاقدام على تلك الخطوة، خصوصاً اذا ما علمنا ان استقلال اريتريا قد ادى الى حرمان اثيوبيا كل منفذ مباشر على البحر الاحمر. ناهيك عن انها تنسجم تماماً مع التصور الذي اعتمدته حكومة ملس زيناوي، تلك التي ارست نظاماً يقوم على اللامركزية وعلى الفيديرالية الاثنية. اما حكام اريتريا الجدد، فهم ما لبثوا ان برهنوا على انهم يعنون بالاستقلال، شكله السيادي، الناجز الكامل. فقد عمدت اسمرا، منذ تشرين الثاني نوفمبر 1997، الى صك عملتها الرسمية الخاصة بها، بعد ان كانت تتعامل بالعملة الاثيوبية، وهو ما اثار حفيظة أديس أبابا، التي ردت بأن فرضت على جارتها استعمال الدولار الاميركي في مبادلاتها معها. ثم كان ان طُرحت مسألة ترسيم الحدود بين الكيانين، بعد ان كانت، في البداية، قد تركت جانباً ولم تُثَر، كبادرة حسن نية، وحسن طوية، بين الجانبين. وإذا ما وضعنا التقاتل الاريتري - الاثيوبي الحدودي الاخير في اطاره هذا، اي بين سعي اسمرا الى تأكيد الاستقلال الذي حصلت عليه قبل سنوات، ومنحه محتواه السيادي الكامل، وبين جهد اديس ابابا الى الحد منه والى الإبقاء على رابطة من نوع خاص بين الكيانين، فان في ذلك ما من شأنه ان يدفع الى الاعتقاد بأن النزاع بين البلدين ليس بالأمر التفصيلي الذي يمكن لبعض المساعي الدولية ولشيء من حسن النية. ان يذلله، بل انه قد يطول وقد يتفاقم، مضيفاً بؤرة توتر مزمنة في منطقة القرن الافريقي، تلك المتخمة اصلاً ببؤر التوتر وبالنزاعات بأنواعها. وما يدفع الى التشاؤم في هذا الصدد، ان بلدان المنطقة تعصف بها الحروب والأزمات الداخلية والاقليمية، بما قد يجعل من كل دور قد تضطلع به في ذلك الشأن الاريتري - الاثيوبي، عامل تسعير لا عامل تهدئة، وأن منظمة الوحدة الافريقية قليلة الحيلة محدودة النفوذ، وأن الأممالمتحدة لم تبد كبير فاعلية منذ نهاية الحرب الباردة، في معالجة اي نزاع محلي، وان الدول الكبرى لا يبدو انها تعبأ كثيراً بذلك النزاع الطرفي الذي لا يعتقد بأنه يهدد مصالحها الحيوية في شيء.