يردد بعض "حكمائنا" العرب اننا اخطأنا حين لم نقبل الجلوس مع اليهود منذ البداية، وحينما رفضنا كل الحلول السلمية التي عرضت علينا طوال سنوات الصراع. يطرحون هذه الفكرة كأن الحركة الصهيونية كانت ستقبل بحل سلمي للصراع، أو أن المنطقة العربية شهدت مشاريع سلمية عادلة وشاملة تقوم على أساس حل وسط تاريخي يقبله الطرفان كما كل الحلول الوسط. غابت عن "حكماء" العرب هؤلاء أمور عدة لا أحسبهم يستطيعون الرد عليها، لعّل أظهرها ما يلي: أولاً: مَنْ مِن العرب - يقصد هؤلاء - كان عليه أن يتفاوض، ومع مَنْ مِن اليهود؟ هل هم عرب فلسطين العام 1882 عشية بدء هجرة الجماعات اليهودية الى فلسطين، البالغ عددهم أكثر من نصف مليون نسمة - مع يهود فلسطين البالغ عددهم، وقتذاك، نحو ثمانية آلاف نسمة؟ أم هم عرب فلسطين عام 1896 وقت ظهور كتاب هرتزل: دولة اليهود البالغ عددهم نحو 800 ألف نسمة والذين كانوا يملكون ما يربو على 98 في المئة من مساحة فلسطين - مع يهود فلسطين الذين كان عددهم لا يزيد على 25 ألف نسمة ويملكون نحو 2 في المئة من مساحة فلسطين؟ أمْ هم عرب العام 1917 وقت إصدار وعد بلفور البالغ عددهم نحو 920 ألف نسمة ويملكون نحو 5،96 في المئة من أرض فلسطين، مع الجماعات اليهودية في فلسطين الذين بلغ عددهم وقتذاك نحو 48 ألف نسمة وكانوا يسيطرون على نحو 5،3 في المئة من أرض فلسطين؟ أم هم مَنْ تبقى من عرب فلسطين العام 1949 بعد انتهاء عمليات القتل والتنكيل والتشريد خلال حرب 48/1949 وقيام "إسرائيل"، والذين قدر عددهم بنحو 156 ألف نسمة من اصل 750 ألف نسمة كانوا يمثلون سكان فلسطين عشية العام 1948، مع اليهود الذين صار عددهم بعد قيام الدولة نحو 650 ألف نسمة؟ وماذا لو أضيف باقي العرب من المحيط الى الخليج الى الأرقام السابقة؟ ثم على ماذا يتفاوض الطرفان؟ أعلى أن يترك العرب فلسطين للجماعات اليهودية التي هُجّرت الى فلسطين من بقاع الأرض كافة لتقيم عليها دولة كما أراد جناح من الحركة الصهيونية؟ أم على أن يترك العرب ضفتي نهر الأردن كما طالب جناح آخر اليمين الصهيوني. ثانياً: هل كان في إمكان عرب ما قبل 1948 - أصحاب فلسطين الشرعيين - أن يتفاوضوا مع عصابات مسلحة شكلها المهاجرون اليهود من كل بقاع الأرض بهدف رئيسي - أجمع عليه كل قيادات هذه العصابات علنا - وهو إبادة العرب في فلسطين وإرهاب من يتبقى منهم لدفعهم نحو الهجرة تمهيداً لقيام دولة لليهود هناك؟ وهل كان في استطاعة عرب ما بعد 1948 أن يتفاوضوا مع دولة استطاع جيشها في عامي 1948 و1949 أن ينفذ قرار التقسيم بالقوة المسلحة، بل وأن يوسع من مساحة الأرض التي يسيطر عليها من نحو 6 في المئة من مساحة فلسطين الى نحو 77 في المئة منها، وأن يدمر نحو 400 قرية فلسطينية من أصل نحو 518 قرية تم احتلالها، لقد أدرك قادة الحركة الصهيونية أنه لا يمكن تطبيق قرار التقسيم هذا إلا بالقوة المسلحة، إذ كيف يمكن لليهود وهم وقتذاك يمتلكون 6 في المئة من مساحة فلسطين أن يقيموا دولة على مساحة 5،55 في المئة ويشكل العرب أغلبية السكان فيها أيضاً من فلسطين كما جاء في قرار التقسيم حكماء اليوم يرون أنه كان على عرب 1947 أن يقدموا للجماعات اليهودية في فلسطين نحو 5،49 في المئة من مساحة فلسطين لكي يتم تنفيذ قرار التقسيم وهي المساحة التي تمثل الفارق بين ما كان بيد اليهود فعلاً وبين ما أعطاه قرار التقسيم لهم!! ولهذا كانت حرب 48/1949 بهدف واحد، هو توسيع السيطرة اليهودية في فلسطين وليس بسبب رفض العرب وجمودهم ومهاجمتهم الدولة الوليدة كما تُصّور آلة الدعاية اليهودية. ثالثاً: إن الحركة الصهيونية أدركت، منذ اليوم الأول من عمرها، أن الاعتراف بالحقوق الوطنية لشعب فلسطين معناه القضاء على أساس جوهري من الأسس التي قامت عليها الفكرة الصهيونية، ألم تكن الفكرة الصهيونية تلك تقوم على أسطورة أن "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، أو "اسطورة الصحراء"، ولهذا كانت الحركة الصهيونية أول من رفع شعار "لا اعتراف ولا تفاوض ولا سلام مع الفلسطينيين"، ولهذا أيضاً فتحت هذه الحركة قنوات حوار مع أطراف عدة عدا الفلسطينيين. وسارت "إسرائيل" على نهج الحركة الصهيونية، إذ ظلت - منذ اليوم الأول لقيامها وحتى نهاية الثمانينات - ترفض حل المشكلة على أساس الاعتراف بالحقوق العربية، ولهذا رفضت - دوماً - تنفيذ قرارات الأممالمتحدة أرقام 242، 338، 425 كما أنها ما انفكت تطالب العرب بالاعتراف بها والتخلي عن الكفاح المسلح، الأمر الذي مثل شروطاً وقيوداً جعلت السلام معها مستحيلاً. كان هدف إسرائيل منذ ذلك الوقت هو التفرغ لبناء قوتها العسكرية حتى يأتي اليوم الذي تفرض فيه "السلام" الذي تريده، وقد كان. ولم يكن ما سبق بالشيء الغريب على الحركة الصهيونية و"إسرائيل"، فقد فعل المستعمرون الأوروبيون الشيء نفسه في مواجهتهم لأصحاب البلاد الاصليين في ما سمي "اميركا" عدم الاعتراف بالآخر وسياسة الإبادة، وكذلك فعل البيض مع السود في جنوب افريقيا الشيء نفسه. رابعاً: هل كان في مقدور عرب ما بعد 1948، أن يتفاوضوا مع دولة شهدت منذ اليوم الأول أمرين أرى أن حكماء العرب لا يدركون أهميتهما جيداً، وهما: 1- إعلان وثيقة "إعلان دولة اسرائيل" أن الدولة ستكون "مفتوحة أمام هجرة يهود العالم". وعلى رغم أن الوثيقة نصت على أن الدولة ستضمن المساواة التامة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع مواطنيها من دون التمييز بينهم بسبب العقيدة أو العرق أو الجنس، إلا أن ثمة تناقضاً بين إعلان الدولة كدولة لكل يهود العالم، وبين النص على المساواة التامة بين جميع مواطنيها، وهذا الأمر أكده قانونان اساسيان من قوانين "إسرائيل"، ليس لهما مثيل في أية دولة من دول عالمنا المعاصر، وأقصد هنا قانون العودة 1950، وقانون الجنسية 1952. وكان من الطبيعي - والحال هكذا - أن نشاهد كل الممارسات العنصرية للسلطة الإسرائيلية تجاه عرب الضفة الغربية وقطاع غزة، بل وتجاه العرب الفلسطينيين في "إسرائيل". وهدف تحويل فلسطين الى دولة لكل يهود العالم هو ما دأب زعماء الحركة الصهيونية وساسة الدولة الصهيونية على تحقيقه دوماً، وذلك من خلال سياسة تهجير الجماعات اليهودية من مختلف القارات الى فلسطين، ثم الى "إسرائيل" بعد العام 1948. 2- إن "إسرائيل" لم تحدد لنفسها - منذ اليوم الأول لوجودها وحتى اليوم - حدوداً جغرافية، وهذا ما يتعارض مع ما يجمع عليه فقهاء القانون العام وعلماء السياسة من أن لتحديد إقليم الدولة أهمية كبرى، حيث ترتبط سيادة الدولة بإقليمها، فهي تمارس سيادتها على اقليمها وداخل حدودها. ولعل هذا ما يفسر الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية الإسرائيلية، المتمثل في التوسع الخارجي وضرب كل القوى التي تعادي "إسرائيل"، والذي يقوم على تنفيذه ما يسمى "جيش الدفاع الإسرائيلي". و"إسرائيل" بشعبها وجيشها ومؤسساتها تتلقى - في سعيها هذا - دعماً سخياً جداً، وليس له مثيل في علاقات ما بين الدول، من الولاياتالمتحدة الاميركية المدافعة الأولى عن "قيم الحرية والمساواة والديموقراطية"، في إطار تحالف استراتيجي قوي بين الدولتين. ولهذا كان على "حكماء" اليوم أن يكفوا عن إدعائهم الحكمة وبعد النظر، ويكفي أننا نعيش اليوم "عملية سلمية" تفرض علينا "سلاماً" بشروط إسرائيلية اميركية. فليقل هؤلاء إن منطق القوة هو الذي حكم علاقات العرب باليهود وأعوانهم في السابق، ولا يزال هذا المنطق يحكم علاقات الدول العربية ب"إسرائيل" و"الولاياتالمتحدة اليوم، وليقل هؤلاء - أيضاً - إن العرب مدفوعون دفعاً لهذه العملية في ظل نسق عالمي يهيمن فيه القطب الاميركي بمفرده، وأننا لا نستطيع القيام بما قام به العرب من قبل حينما قاوموا الصهيونية والقوى الغربية قدر ما استطاعوا، أما أن يدعي هؤلاء الحكمة وبُعد النظر فهذا ما يريد أن يسمعه "المفاوض" الإسرائيلي، ومن ورائه "الوسيط" الاميركي، من العرب أثناء التفاوض. وهذا يمثل حلقة من حلقات التضليل التي يتسم بها الخطاب الصهيوني على الدوام. * جامعي مصري