لأسباب يصعب علي فهمها لا يزال هناك لدى حكومات عربية بعض الامل في ان يبلغ نفاد صبر اميركا تجاه اسرائيل قريباً النقطة الحرجة، ليحفز اطلاق مبادرة جديدة مثيرة، وربما يستحث اخيراً جبروت الولاياتالمتحدة لتتصدى، بفاعلية، لتكتيكات رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو. لكن هذا، للاسف، يعني اساءة فهم ما يجري حالياً في اسرائىل والولاياتالمتحدة على السواء، اذ ان احتمال حدوث اي تغير نوعي كالذي يحلم به قادة عرب ضئيل للغاية. فالرئيس بيل كلينتون يواجه معارضة من الكونغرس الذي يؤيد بقوة، ولأسباب داخلية كثيرة، كتلة ليكود. نعم، هناك لوبي اسرائيلي، لكن الواقع ان الحزب الجمهوري متحالف مع اليمين المسيحي الأميركي، بالاضافة الى مؤسسات محافظة و"جماعات اعمال"، وجمهور عام غير متعلم ومضلل لا يعتبر اسرائيل حليفاً عنيداً يفرض تعنته على العالم كله فحسب بل ينظر اليها ايضاً كشريك دولي ينبغي للولايات المتحدة ان تحاكيه، وتفعل ما تقوم به اسرائيل من التعامل بازدراء مع فكرة وجود مجتمع دولي ذاتها. فائدة هذا كله للجمهوريين انه يمثل صفعة للرئيس كلينتون الذي تبدو ادارته الفاسدة والمبتلاة بالمشاكل لكثير من الاميركيين منغمسة اكثر مما ينبغي في مخططات الاممالمتحدة والمجتمع الدولي، ما يحد من سيادة اميركا وقدرتها على استخدام قوتها من طرف واحد. وكان الموقف السلبي لكلينتون من اللقاء الاخير في روما في شأن جرائم الحرب يهدف، حسب اعتقادي، الى اقناع معارضيه في الداخل بأنه قادر في الوقت المناسب، ومن اجل القضية المناسبة، ان يتصرف مثل اسرائيل، متحدياً الرأي العالمي باظهار ان مصالح بلاده تتجاوز حتى مبادىء نورمبرغ التي كانت الولاياتالمتحدة اول من نادى بها اثر الحرب العالمية الثانية. تراجعت القضية الفلسطينية حالياً في اذهان الناس بشكل كبير، بل الى حد التلاشي تقريباً. ويدور الكلام بين حين وآخر عن الاقتراح الأميركي على اسرائيل بانسحاب يشمل 13 في المئة من اراضي الضفة الغربية، وهو ما وافقت عليه القيادة الفلسطينية. لكن هذا يقترن دائماً بنقاشات حول الارهاب الفلسطيني وميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، فيجري بذلك إفراغ قضية الارض من اي مضمون جدي. ما يزيد الوضع سوءاً الغياب المطلق تقريباً لأي جهد اعلامي فلسطيني في الولاياتالمتحدة او في اوروبا الغربية، وهو ما يتجلى بشكل صارخ عندما نلمس اختفاء الاكاديميين والطلبة والمنظمات التي واظبت على التذكير بالتشريد والظلم الذي لحق بالفلسطينيين: فراغ هائل يبتلع الشيء الضئيل الذي يُقال او يجري القيام به دفاعاً عن شعب يعاني منذ قرن من الفقدان التدريجي للأرض والتهديد المتزايد للهوية. أما ما يجري داخل العالم العربي فلا يقل تثبيطاً بالنسبة الى شخص مثلي يعيش خارجه. فالزعماء يتبادلون الزيارات، ويتحدثون عن تحولات مقبلة، ويعقدون المزيد من الاجتماعات، ويقومون بالرحلات. أما النتيجة: لا شيء يستحق الذكر. الواقع ان العالم العربي لا يتمتع بأي نوع من التعبئة لمواجهة الوضع، خصوصاً داخل فلسطين حيث نجد الخسائر الأكثر مأسوية، والانتهاكات الأفظع بحق المواطنين العاديين، وحيث توشك اسرائيل ان تضع اللمسات الأخيرة على مشروعها النهائي. اُدرك ان هناك في بلدان عربية مثل مصر ولبنان، على سبيل المثال، مسعى فكري جدي للتصدي لمأساة الشعب الفلسطيني، في نقاشات عن المواقف التي ينبغي ان تُتخذ، والمواقف التي ينبغي تأييدها، وهلم جرا. لكن هذا لا يؤثر اطلاقا على ممارسات الجنود والمستوطنين الاسرائيليين، التي تشكل مجتمعة محاولة منظمة للتطهير العرقي. الفرق الرئيسي بين البوسنة وفلسطين هو ان التطهير العرقي في الاولى جرى في شكل مجازر صارخة أثارت انتباه العالم، بينما الذي يجري في فلسطين هو تكتيك القطرة فقطرة، حيث يُدمر منزل او منزلان يومياً، وتُنتزع بضعة هكتارات من الارض كل يوم، ويُجبر بضعة اشخاص على الرحيل. ولا يبدي احد اهتماما يُذكر، خصوصاً الفلسطينيون الآخرون، الذين يعيشون مثلاً في رام الله، ولا تثير انتباههم خطوة مثل تدمير الطريق الرئيسي من حوسان قرية صغيرة الى الغرب مباشرة من بيت لحم من قبل مستوطني "إفرات". في غضون ذلك، تواصل الجاليات الفلسطينية المرفهة في لندن وعمان حياتها اليومية متغافلة تماماً عما يصيب البقية المتضائلة من وطنها الاصلي. وتشهد الفنادق الراقية في هذه العواصم كل يوم حفلات زواج ضخمة، ويقود شبان سيارات "بي إم في" ودراجات "هوندا" يطوفون بها في تلال عبدون وجادات هولاند بارك الوارفة. والانطباع الذي يتركه ذلك هو انهم مستغرقون في حلم يقظة طويل، من دون ان يعيروا ادنى اهتمام للماضي او المستقبل. جيل الشباب من الفلسطينيين - والعرب ايضاً - الذين حقق آباؤهم ثرواتهم خلال الايام السهلة للفورة النفطية في الخليج ومشاريع البناء، يمضي حياته بما فيها من فترات ممتعة وسنوات دراسة في هارفرد او جورجتاون، وعطل في غستاد وكان، ووظائف في قطاعات الاعلان او التسويق او الاستثمار او البناء، في عالم مسحور ينفق فيه من دون حساب من دون ضرائب. انهم يشكلون فئة فريدة من نوعها في تاريخ القرن العشرين من حيث مقدار الهدر وضآلة الانتاج. لكنها الفئة نفسها التي ائتمنت نظرياً على مستقبل كفاحنا ضد خصم شرس وعنيد. أتذكر انني لفتّ الانتباه قبل حوالي 25 سنة، في سياق مراجعة كتاب حول الاستيطان والاستعمار الصهيوني في فلسطين قبل 1948، الى تعليق من حاييم وايزمان مفاده ان هذه الحركة بدأت صغيرة، تنتزع اجزاء من الاراضي هنا وهناك، "فدان آخر، معزاة اخرى". وكانت الفكرة ان مثل هذا المشروع المركز، مهما كان متواضعاً، لم يغب عن نظره ابداً الهدف النهائي الذي كان يتمثل بانتزاع السيطرة على كل فلسطين لاقامة دولة عبرية. حتى 1948، كان الصهاينة يسيطرون على اقل من 7 في المئة من ارض فلسطين. وبعد 1948، انتزعوا كل شيء باستثناء الضفة الغربية وقطاع غزة. وبعد 1967، استولوا على بقية فلسطين. وبالتوقيع على اتفاقات اوسلو عززوا سيطرتهم على الارض بالتخلي للسلطة الفلسطينية عن حوالي 3 في المئة من الضفة الغربية التي لا تؤلف سوى 22 في المئة من كل فلسطين، فيما حصلت السلطة الفلسطينية مقابل ذلك على الحق بادارة حياة الفلسطينيين، لكن من دون سيادة على الاراضي. ولم ينته الامر عند هذا الحد. فبهدف ازالة الوجود الفلسطيني في معظم الضفة الغربية التي لا يشملها اتفاق اوسلو، تقوم اسرائيل بأمدين: تصادر الأرض لاستخدامها من قبل المستوطنين والجيش الاسرائيلي، وتدمر المنازل. ويتضمن مقال لمنى حمزة محيسن نشر في "تقرير فلسطين" الصادر في 15 تموز يوليو الجاري حقائق صارخة على هذا الصعيد. جاء في هذا التقرير: "منذ التوقيع على اتفاق اوسلو في 1993، في الفترة بين أيلول سبتمبر 1993 وآذار مارس 1998، هدمت الجرّافات الاسرائيلية 629 منزلاً للفلسطينيين، 535 منها في الضفة الغربية و 94 في القدس. من ضمن المنازل ال 629 المدمرة، هدمت حكومة حزب العمل 268 منزلاً فيما هدمت المنازل ال 361 المتبقية من قبل الليكود. وفي ظل حكم نتانياهو وخلال عام 1997 وحده هُدم حوالي 233 منزلاً. وفي الربع الاول من 1998، هُدم ما مجموعه 57 منزلاً للفلسطينيين. وخلال اسبوع، ابتداءً من 21 حزيران يونيو، هدم 30 منزلاً. وهناك حالياً اوامر تنتظر التنفيذ لتدمير اكثر من 1800 منزل، ما يهدد بتشريد 10 آلاف شخص آخرين". ما يثير الرهبة هو التواصل التام والشرس بين تعليق وايزمان البسيط عن الفدان والمعزاة، الذي ادلى به قبل اكثر من 75 سنة، وبين ما يجري حالياً. انها الرؤيا الأساسية للصهيونية التي لم تشهد تعديلاً، الحاكمة على الفلسطينيين بوجود يتزايد تفككه وتضاؤله يوماً بعد يوم. هذا ما يجري تحت بصر الجميع، عرباً ويهوداً على السواء. لا يُحاط هذا المشروع بالكتمان، ولا يبدو بحاجة الى اي ملطّف او تحلية. انهم ينتزعون الارض جزءاً بعد آخر، وشبراً بعد آخر، ومنزلاً بعد آخر. وتختتم منى محيسن بالقول: "ستنجح اسرائيل، بتحقيق هذا كله، في عزل السكان الفلسطينيين في ثلاثة او اربعة بانتوستانات معازل مفصولة، وهي خطة تُعرف في اسرائيل ب "الون زائد". وبهذه الطريقة، حتى اذا اعلن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، كما هو متوقع، اقامة دولة فلسطينية في أيار مايو 1999، فان اسرائيل ستكون قد خلقت واقعاً جديداً على الارض يجعل من المستحيل لدولة كهذه التمتع بالتواصل الأرضي". تبرز منى حمزة محيسن، ربما من دون قصد، الفرق بين الفعل الاسرائيلي ورد الفعل الفلسطيني: هم يأخذون الارض، ونحن نعلن دولة! وكما قال أخيراً حيدر عبدالشافي في مقابلة: ما معنى العودة الى اعلان دولة، ما دمنا أعلناها سابقاً في الجزائر في 1988؟ ولا بد لي القول انني اشارك الدكتور عبدالشافي الحيرة من هذا الرد الغريب الأخرق على الوضع الخطير الحالي. اسرائيل تستولي على الاراضي في شكل منظم فيما نقف مكتوفي اليدين، من دون رد سوى القول: "لم يأخذوها حقيقة، لأننا نعتبرها اراضي دولتنا". المؤسف، بل الفاجع ان هذه كانت استراتيجيتنا منذ البداية. فنحن نواجه منذ قرن عملية واضحة فعلية منظمة للاستيلاء على الأراضي، ولم نستطع، أو كنا عاجزين او عازفين عن القيام بشيء لوقف العملية، ناهيك عن اجبارها على التراجع. انها الجدلية التي شهدتها طيلة حياتي، أولا في طفولتي فلسطين، ثم اخيراً قبل اسابيع، عندما رأيت الجنود الاسرائيليين وهم يدمرون خيام بدو الجهالين وأراضي المزارعين خارج الخليل وبيت لحم. حاولت وقتها ثني الجنود، وتحديتهم، وذكّرتهم ان أراضيهم، كيهود، صودرت قبل ستين سنة من قبل شعب "متفوق"، أي الألمان. لكن الحقيقة أنني كنت في موقع العاجز الذي ليس أمامه سوى ان يشاهد ثم يسجل مشاهداته على فيلم. كانت لهم الجرارات والبنادق، ولم يكن لي سوى الكلمات والصور. اننا شعب يفتقر الى التعبئة. اننا من دون قيادة. اننا من دون عزيمة. لم نستطع ان نركز عقولنا وقلوبنا على المشكلة الجوهرية، وهي سرقة أراضينا. خلال الأسابيع القليلة الماضية تشكل عدد من الهيئات الاسرائيلية لمعارضة تدمير المنازل. وقامت هذه الهيئات بالتظاهرات واعمال الاحتجاج. لكن لا يبدو ان هناك الكثير من هذا القبيل في الجانب الفلسطيني. اننا نبدو شعباً تحت التخدير، من دون قدرة على الحركة او العمل. انهم يأخذون أراضينا ونكتفي بالتفرج، بل غالبا لا نكلف انفسنا حتى مشقة التفرج. اننا نفترض ان ما يجري يستهدف الغير، ولذلك يمكننا ان نشيح بوجوهنا وننصرف الى اعمالنا. اننا نفتقر الى شعور على الصعيد الوطني بحراجة الموقف يتجسد بتعبئة فلسطينية داخل فلسطين وفي أوروبا وأميركا الشمالية والعالم العربي - تعبئة يقوم بها المدركون بأن الوقت قد حان لمجابهة الخطر الاسرائيلي في مكان وجوده، أي في أرض فلسطين. بدل ذلك نجد ان حتى احصاءات نسف المنازل هي اسرائيلية المصدر، وان التقرير الأفضل عن النشاط الاستيطاني الاسرائيلي لم يأت من الفلسطينيين بل مجموعة أميركية يقودها جيفري أرونسون، وهو يهودي. انني اناشد قرائي المساعدة. لماذا نبدو بهذا الضياع التام ازاء السرقة المفضوحة لآخر ما تبقى من أراضينا؟ لماذا لا نعبئ الصفوف ونقف امام الجنود الاسرائيليين؟ لماذا لا نستطيع اقناع العمال الفلسطينيين الذين يقومون ببناء المستوطنات بوقف هذه الاعمال المضرة بشعبهم؟ لماذا لا يترك قادتنا مكاتبهم وسياراتهم الفخمة ليقفوا في الحقول والبساتين وجهاً لوجه امام جنود اسرائيل، مدافعين بأجسامهم عن أرض وسكن الفلسطينيين؟ لماذا هذا الهوس بالبيروقراطية والحرس الشخصي والهواتف النقالة ورحلات التبضع المترفة والمفاوضات الغبية التي لا تنتهي التي تستنزف قوتنا وارادتنا وتتركنا في عجز كامل ازاء المشهد، مشهد أرضنا وهي تختفي أمامنا؟ لا استطيع ان افهم عجزنا عن التحرك وجبن قادتنا، الذين يفضلون التنكيل بشعبهم واضطهاده، على الحفاظ على الشعب وأرضه. كما لا أفهم شلل المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين يعطون الأولوية للتنظير عن الاستراتيجية الأفضل بدل الذهاب مباشرة الى فلسطين وهو ممكن بسهولة للمصريين والأردنيين، بسبب معاهدتيهما للسلام مع اسرائيل للوقوف كتفاً لكتف مع عائلة أو قرية فلسطينية تتحدى السارقين الاسرائيليين. لا افهم كيف اننا فشلنا، بعد مئة سنة، في التركيز على جوهر الموضوع ونبذ كل أشكال الهراء. انني اطلب مساعدة القراء المطلعين لكي أفهم، لأنني بالفعل لا استطيع تعليل كل هذا، بل كل ما اعرف اننا لن نجد عندما نستيقظ سوى أقل من القليل من أرض فلسطين. وقتها سنسأل انفسنا: ماذا حصل؟ لماذا تركنا الأرض تؤخذ شيئا فشيئا امام عيوننا طيلة مئة سنة من دون ان نفعل شيئا؟ انها المرحلة الأخيرة، مرحلة النهاية، وها هي قد حلّت. أين نحن منها؟ * أستاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.